على أعتاب خالد بن الوليد، القبلة فلسطين والجرح لبناني، تنطق الأرض في يومها، ويومها الزمان، إن السيف دمشق، وإن الأمة هي البحر والنهر وحيث ينتثر دمها في المدى المنداح مشاعاً مباحاً في ما بين خليجها والمحيط الذي أعطته اسمه ثم أخذه منها وأخذها بعده البعيد إلى غربة الخصومة.
وصورة صلاح الدين الأيوبي في حطين لا تقتعد الجدار في مكتب حافظ الأسد، زينة لإقناع الزوار، أو تذكار ميتاً من الماضي وعنه باعتباره قد كان في سالف العصر والأوان ثم مضى وانقضى ولن يعود، بل لكي تكون الحادي والهادث والقدوة والدليل: بالأرض تكونون، بالأرض تبقون. الأرض هي أنتم، الأرض العزة، والكرامة الأرض والسيادة الأرض. الأصل الأرض وكل ما بعدها فروع، في الأرض وبها وعليها يصنع التاريخ وهي من ينبت رجاله، وفي عزتها تحجز المقاعد للخالدين. ولا تاريخ خارج الأرض أو من دونها أو على حسابها بل سجل أسود للساقطين.
من النهر إلى البحر، من البحر إلى النهر، من البحر إلى البحر، من النهر إلى النهر، من الوريد إلى الوريد: فلسطين.
كان التشبيه بالتمني وبالرغبة في نقش الاسم على قائمة مخترقي الاستحالة، فصار الواقع تحت مستوى التشبيه للتخويف أو للتأسي أو للتسليم بالهزيمة والاستسلام لقدرها الصهيوني وإنا لله وإنا إليه راجعون.
صارت الأمصار جميعاً تحت فلسطين: أضاعوا أنفسهم بذريعتها وما استعادوها، ثم أضاعوا الطريق إليها وإلى المستقبل.
الصهاينة يستقدمون فقراء اليهود ليصيّروا فلسطين إسرائيل، عائدين بالتاريخ إلى الخرافة.
وصاحب التوقيع الفلسطيني يمسخ أبناء الثوار شرطة ومرتزقة تحمي فلسطين من الفلسطيني وتمنع الفلسطيني عن فلسطين ثم يخشى ألا تكفي شرطته تمويهاً لجيش الاحتلال الإسرائيلي، فيطلب الحماية الدولية للاحتلال.
ومن قبل أن تنطلق الرصاصة الأولى، باسم التحرير، كانت إسرائيل هي التي تطلب الحماية من أولئك الفتية الأبرار الذين يقتحمون المكهربة والمحصنة والمصفحة، ورشاشاتهم أضعف ما يحملون من سلاح.
لا يحفظ الأرض إلا أهلها، ولا هي تعطي نفسها واسمها إلا لأهلها، والأهل ليسوا الماضي، إنهم الزمان كله، الماضي والحاضر والمستقبل.
وأنى يكون مستقبل إذا كانت الثورة هي الماضي، والاحتلال هو الحاضر، والتحرير إرهاب والدين تطرف والعروبة رجس من عمل الشيطان، والوطنية تعصب ذميم والمطالبة بالخبز خروج خطير على شرعية النظام العالمي الجديد؟!
من النهر إلى البحر، من البحر إلى النهر، من الدم إلى الدم… والصحراء قفر أجرد، كالموت يعشش فيها السراب الملكي، وفي تيهها يسبح الدم ويغور في رمالها البلا قعر، فيستحيل نفطاً، فإذا بدمنا نقتل، في كل فلسطيناتنا بينما ألقاب السلاطين تتثاقل كهممهم، فتتزايد فخامتها بل وقداستها بتناسب طردي مع طرد الأهل من الأرض، وطرد الأرض من التاريخ واستئصال الإحساس بالتاريخ في نفوس أهل الأرض وفي عقولهم.
من النهر إلى البحر، والنهر أسمر كبشرة الشهيد، والبحر أسمر كلون الأرض، والأرض تكمل استحمامها بالنجيع لكي تتطهر فتستحق أن تستعيد اسمها الأصلي.
والنهر عيون الصبية المشتعلة بالغضب، والبحر أصهب بلون الحجارة المقدسة، وللحجارة رنين أجراء القيامة، وللشجر ملامح الأنبياء، و لحبات التراب أسماء الله الحسنى… ألم يستودعها الشهداء أحلامهم وحبهم العظيم؟!
والأرض ولادة: يطعمونها لحومهم فتستولدهم مرة أخرى، كل لحظة، ويستودع الشهيد الوليد أمنيته مع قبضة من تراب معطرة بشذى الياسمين وأريح زهر الليمون.
لكأنما يدخولنها ليستمدوا منها الشجاعة ثم يعودون إلى الساحة من جديد، لا يموتون هم يستأذنون في أن يتجددوا فيها ويجددوا جدارتهم بها.
اليس أنهم قد جعلوا قراهم والدساكر والمزارع والنجوع والمخيمات، فضلاً عن المدن على شفاه الدهر،
هل سبق أن احتشد في ذاكرة الدنيا كل ذلك الفيض من أسماء البقاع الفلسطينية التي لم تكن من قبل شيئاً مذكوراً حتى لأبنائها؟!
الآن يعرفهم العالم طفلاً طفلاً، فتى فتى، صبية صبية، امرأة امرأة، ر جلاً رجلاً، من حجارتهم يعرفهم؟ من بيوتهم الفقيرة يعرفهم؟ من تمزيقهم صورة الطاغية بالأضافر يعرفهم، من أصواتهم الصارخة أبداً ضد الظلم والظلام، ضد التفريط والمساومة يعرفهم.
كل وجه غدا علماً،
كل بيت صار مطبوعاً في الوجدان، يتوهج مثل مسجد الصخرة وكنيسة القيامة والأقصى الذي باركنا من حوله، ودرب الآلام الذي استطال حتى طال المغرب واليمن السعيد،
صار للصباح صورة أليفة: “لا” مشرفة مشرفة كتلك التي في لا إله إلا الله، تقابلها صورة بائسة وكريهة للوفدين المتفاوضين على التفاوض بلا تعب أو ملل، بينما الأرض تجهر يومها إنها خارج المفاوضات والمفاوضين. أهلها فيها وحجارتها أيضاً والدم يربط أوصالها ويمتن وشائجها في ما بين النهر والبحر، والبحر والبحر، والنهر والنهر والوريد والوريد.
لا المصادرة نفعت ولا الحصار. لا الجيش حسم ولا غولدشتاين.
لا مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل ولا تفجير المصلين الصائمين في كنيسة سيدة النجاة بذوق مكايل في كسروان اللبنانية. لا القتل اليومي في غزة بني هاشم وفي أريحا هشام بن عبد الملك. لا الغارات على مدار الساعة على جبل عامل، ولا دم الأطفال الذي وشح كما الأوسمة بيوت النبطية ومدارسها في الأسبوع الماضي، ولا الاختراقات الموجعة في بعض أنحاء الخليج والمغرب الأقصى.
ونحن شقا الجرح، يأخذنا الجنوب إلى الجنوب، يحمي بأرضه أرضنا ونحمي بأرضه أرضنا، ونحمي وحدة المصيرين النهر والبحر، بين البحر والبحر، بالدم المجبول بالتراب الطاهر والإرادة المحصنة بالإيمان.
من النهر إلى البحر، من المحيط إلى الخليج، من الوريد إلى الوريد: هو الدم يسيل ويسيل لكتابة التاريخ الجديد.
النيل يهجر السمرة إلى لون النجيع، والجزائر البيضاء تغتسل بدمها الذي يفيض فيعطي بحرها اللون والشميم، والجبل الأخضر الذي احترق بالنار الإسرائيلية ما زال ينزف ويستصرخ الثأر.
وطاولة المفاوضات تغرق في بركة الدم التي تتسع يومياً لتغدو باتساع تلك المسافة بين النهر والبحر، بين الوريد والوريد.
ووهج الدم يكشف ما دبر في ليل، في عاصمة الليل الطويل، أوسلو، ثم يستقر نوراً في سماء فلسطين ليفضح أولئك الخفافيش الذين هجروها يوم احتاجت إليهم، والذين يعودون إليها اليوم متعجلين، قادمين رأساً من مواخير السلاطين وأندية القمار، إلحاقاً بالصفقات المشبوهة التي ستعقد بلحم فلسطين وخبز الفلسطينيين.
ودمشق السيف فلسطينية ولبنانية ومصرية ويمنية وعراقية ومغربية وجزائرية كما في تاريخها المحفوظ في أرضها وبأرضها، وبأهل الأرض.
كيف تكون خارج التاريخ وأنت في التاريخ ذاته؟!
وكيف يصنع التاريخ خارج هذه المدينة التي بها بدأ التاريخ، ومن دونها لا يعرف الخاتمة؟!
كل العرب فلسطينيون. لكن فلسطين عربية، عربية، عربية.
هي الهوية النضالية المشرّفة لجميعهم، لكن الصراع عربي – إسرائيلي، والحرب عربية – إسرائيلية، وهدنة التسوية لو أجبرنا عليها تكون عربية – إسرائيلية، وليست فلسطينية – إسرائيلية، وما دونها اتفاق إذعان وصلح منفرد باطل وإلى سقوط.
من دمشق السيف نرفع الصوت: حي على الحجر، حي على البشر، حي على الدم المطهر، حي على ما بين النهر والبحر، ما بين الوريد والوريد. حي على أرضنا الأم، وكل أرض فلسطين وكل النهارات لها.
*نص مداخلة ألقاها رئيس تحرير “السفير” في مستهل الندوة التي نظمتها الجبهة العربية لمكافحة الصهيونية يم الأربعاء الماضي (30 آذار) في مكتبة الأسد بدمشق، لمناسبة يوم الأرض. وكان بين ضيوف الندوة التي أدارها رئيس الجبهة – رئيس الحزب السوري القومي إنعام رعد، الدكتور غازي حسين وأمين سر جبهة مكافحة الصهيونية في الأردن جورج حداد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان