كل امبراطورية تشكّل نظاماً عالمياً، وإن لم يشمل كل الكرة الأرضية. تسقط الامبراطورية بعوامل داخلية وإن أثقلتها الأعباء الخارجية. هي في الأصل صارت امبراطورية لأن بلداً ما يحكم البلاد الأخرى، ويفرض نفسه بالقوة. هو يحكم غيره لأنه أقوى من غيره. تتسع رقعة الامبراطورية فيعتقد حكامها أن “حقها” في حكم الشعوب الأخرى ضرورة طبيعية أو معطى إلهي. حتى في البلدان التي ينتخب الحاكم دورياً كل بضع سنوات، يعتقد الحاكم المنتخب أن ذلك تفويض أتاه لأسباب خاصة به، وإلا لما كان انتخابه. تختلف الديمقراطية عن غيرها في أن “فوقية” الحكم هي لمدة محدودة وليست مدى الحياة. في البلدان غير ذات “العراقة” الديمقراطية، يحاول كثير من الحكام إدامة وضعهم، ولو طال مدى الحياة. لا يحسن الحكام التواضع. إذا فعلوا ذلك استغرب الناس وربما اعتبروا الأمر نقصاً. الحاكم في كل بلد يقيم مكانة فوق الناس في بلده. وفي الامبراطورية يقيم بلده مكانة فوق الشعوب الأخرى والمحكومة. يصاب الحاكم بداء الكبر والاستكبار لأسباب مضاعفة. استعلاء فوق الناس مستمد من وظيفة الحاكم. قليلون هم الحكام الذين يعتبرون مهمتهم تجعلهم أدنى من الجمهور، لا فوقه، ولا سادته. في الديمقراطية يستجدي المرشح السلطة من الناس. لكن في البلدان العالمثالثية، يستلم السلطة ويتصرف كأن الشعب يستمد حياته منه أو على الأقل ينبع وجود الشعب من كونه حاكماً. قال المتنبي في رثاء والدته:
ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ
لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا
اعتاد العرب على حكام يجرون انتخابات نيابية أو رئاسية، حتى بعد انقلاب عسكري. ويفوز قائد الانقلاب ديمقراطياً بنسبة تفوق ال99% من الأصوات. لا ننسى أن أعتى طغاة القرن العشرين، هتلر وموسيليني، وصلا الى السلطة بانتخابات ديمقراطية، ثم تأبّد حكمهما.
في العالم امبراطوريات عظمى، وعظيمى، ومعظومة، كل بحسب المنطقة التي تسيطر عليها والشعوب التي تقع تحت سيطرتها. نادراً ما تحكم العالم امبراطوريتان أو كان هناك نظامان عالميان. الرأسمالية لا تدع المجال إلا لقطب واحد، بعكس فيزيا الأرض التي تتطلّب قطبين لدورتها. قطب الرأسمالية واحد ليدور النظام الاجتماعي حوله. تنشأ الحروب العالمية لأن القطب الواحد يرفض منافسيه. هذه حال روسيا مع الولايات المتحدة. سقط الاتحاد السوفياتي فاعتقدت الولايات المتحدة أنها تخلصت من القطب المنافس. ولما صعدت روسيا، أنابت الولايات المتحدة دولة متوسطة الحجم (أوكرانيا) لمنع ذلك. وبالطبع الأمر تطلًب كثيراً من دعم أوروبا والولايات المتحدة؛ لم يؤد الأمر الى استفادة الشعب الأوكراني أو الروسي.، بل استفادة الطبقة الرأسمالية من غنائم الحرب.
مع القطبية الواحدة تستفيد الامبراطورية من انعدام المنافسة. هناك حرب لكل من تسول له نفسه الارتقاء لأي قطب منافس: حرب بالإنابة عن طريق دولة متوسطة الحجم، ذات قومية متأججة، وعداء سافر للعظيمى. لا مانع لدى “العظمى” من نصب الأفخاخ “للعظيمى”. دائما “خدعوها بقولهم حسناء”. تتغنى العظمى بقوة العظيمى، وتنصب لها فخ الحرب مع دولة متوسطة بالوكالة، أو مباشرة ان اقتضى الأمر كما في العراق. هناك اقتضى الأمر تدخل العظمى مباشرة بسبب أهمية النفط الذي يقتضي وضع اليد عليه، وتدمير البلد الذي يهدد به كما فعل العراق.
في أوكرانيا تجري الحرب بالإنابة. دعم الامبراطورية وأتباعها في أوروبا الغربية بما يكفي مهما كلف الأمر من المال والسلاح. بمناسبة ذلك تتأجج القومية الأوكرانية، وتستفيد الطبقة الأوكرانية الحاكمة من قسم من المساعدات المتدفقة. المال عصب الحرب. لكن القتال مهمة يقوم بها الفقراء من الجهتين. والرواتب أحيانا مغرية. من لم تعجبه من المقاتلين الرواتب التي تدفعها الجيوش الرسمية، يستطيع الانضمام الى الجيوش غير الرسمية، التي لا تعمل على هواها بل حسب ارشادات الدول التي تخوض لها الحرب.
المهم أن لا تخوض الامبراطورية الحرب مباشرة. يفصلها المحيط الأطلسي وبحار أخرى عن ساحة المعركة. على بلدان أوروبا الغربية والوسطى أن تعاني النتائج المباشرة للحرب كونها متاخمة لساحتها، وكون حقوق “الإنسان”، و”الطفل”، و”المرأة”، شعارات إنسانية تستحق الدفاع عنها، مع محاولة إقحام حرب الإرهاب التي لا تجد لها مكاناً في منطقة اعتبرت لفترة طويلة قد طُهّرت من الإرهاب. مسكينة روسيا وحلفاؤها، يتحدثون عن الإرهاب الفاشي في أوكرانيا، ولا يجد الأمر صدى لدى شبكات الإعلام الغربية. تعودنا على وسائل الإعلام الغربية عندما كان الأمر يتعلّق بالحروب في بلادنا. على أساس أن أجهزة أنظمتنا أكثر كذباً من المحطات الغربية. أما الآن فلا نعرف من نصدق حول الحرب الجارية في أوكرانيا، ويكاد معظم العالم ينغمس فيها بشكل أو بآخر.
*****
قرأنا بعض شرائط أخبار التلفزيونات العالمية أن الكورونا جرى تطويرها في مختبر ما، وهذا يعني أنه مفتعل بشرياً، وأن النتائج كانت متوقعة أو غير متوقعة. لكننا عانينا من سياسات الأفواه المكممة، والتباعد الاجتماعي، والتطهّر عند ملامسة الغير أو كل سطح من الجوامد التي لا نطمئن إليها. في حالة من هذا النوع يكثر النقاش حول “الافتعال”. هل هو مقصود أو أن الانتشار جاء نتيجة مجرد إهمال؟ ولم نسمع كلاماً كالذي اعتدناه في مناسبة مشابهة عن مؤامرة دولية لإفناء قسم من البشرية ممن لم يعودوا يلزمون للنظام العالمي. أو أن “المؤامرة” لم تحقق أهدافها بسبب الهبة “الإنسانية”، وازدهار شركات الأدوية من وراءها.
في مثل هذه المناسبة تعودنا سماع أصوات ترتفع بالضجيج حول “حرب إبادة” ضد الإنسانية، خاصة ضد المسنين الذين صاروا يشكلون عبئاً على صناديق التقاعد وموازنات الدول التي سرقت هذه الصناديق، وتركت المسنين الذين باتوا جزءاً كبيراً من البشرية دون “شبكة أمان”، كما يقال عادة في الدوائر الرسمية.
والسؤال هو هل استعيض بحرب أوكرانيا (التي في الأساس حضّرت الامبراطورية أسباب نشوبها) عن حرب الكورونا؟ سؤال يستدعي البحث ولو بدا غريبا وخارج سياق الاعلام العالمي.
*****
وفي لبنان، نمر بمرحلة يصح فيها قول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
يعتري الذين حكموا خلال السنوات الستة الماضية شعوراً عميقاً بالفشل؛ فشل أغرق اللبنانيين في بحر من الذل والاستلاب واللإفقار؛ حتى مدخراتهم صودرت، أو سرقت في المصارف، ولا ندري إذا كنا نستطيع فصل تحكم المصارف عن حكم الطبقة السياسية. المصارف يدعون في إعلاناتهم المدفوعة الأجر لمحطات البث التلفزيوني تنصلهم من المسؤولية، وتحميلها للطبقة السياسية. وهذه الأخيرة نقلت البلد من الولاء الطائفي الى ما هو أشد وأدهى. صار في لبنان من يهتف جماعياً لأكباش الطوائف. “بالدم بالروح نفديك يا زعيم”. واضح من خلال تلكؤ الطبقة السياسية في تنفيذ الاصلاحات أو تلك التي يحاول صندوق النقد الدولي فرضها، إنها سعيدة جداً بالوضع الراهن الذي حوّل حياة اللبنانيين الى جحيم. وعلى رأس الطبقة السياسية مَنْ ما فتئ يردد “ماخلونا”. فكأن المعيقات كانت من الناس وليست من العفن السياسي الذي يعشعش في أدمغتهم. ليس أن الآخرين “ما خلونا”، بل هي أن الطبقة السياسية، بالأحرى المافيا السياسية-المالية التي تسيطر على لبنان، هم جزء منها. ليس أن النظام اللبناني يعتريه فساد ما، بل هو بكامل أعضائه عدة شغل للفساد. وما كان الترسيم ليحدث لولا أن النظام اللبناني برمته جزء لا يتجزأ من النظام العالمي. إنتاج الأزمة المالية، بما فيها المصارف، كان أمراً مفتعلاً، امبراطوري الهيبة، لتدجين من ادعى أنه لم يتدجّن سابقاً. هؤلاء مضطرون لإعلان دجانتهم الآن بحجة الأزمة أو الأزمات أو ما يسمى الظروف القاهرة.