رحم ا” جوزف مغيزل: لقد مات مرة واحدة، لكنه منذ توزيره وحتى اليوم، مرورù بوفاته المفاجئة، قد اغتيل ألف مرة ومرة!
ولعلّ بعض القسوة في تأديبه قد جاءت نتيجة لآخر إنجاز قدّمه الراحل الكبير والمتمثل في أنه أسقط الأقنعة عن وجوه أهل النظام جميعù فإذا هم قطيع من الغيلان الطائفية والمذهبية لا علاقة لأي منهم »بالجمهورية« أو بالديموقراطية ناهيك بالبرلمانية!
إلى ما قبل الإنعام عليه بمقعد في الحكومة المرقعة، لم يكن أحد يعرف طائفة »محامي الإنسان العربي« جوزف مغيزل.
كان بمواقفه وكفاءاته العلمية ونزاهته و»علمانيته« أكبر من أن يحصر في طائفة،
بل ان تحرّره من الطائفية والمذهبية وفصله الصارم بين انتمائه الديني ومواقفه السياسية هو الذي أوصله إلى مكانته كرمز للديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان والتجنّد للدفاع عن قضايا الحرية والاستقلال والكرامة في كل أرض عربية.
الآن جوزف مغيزل هو مجرّد مقعد وزاري شاغر ومقعد نيابي شاغر تتصارع على »شرعية« وراثته المجالس الملية والبيوتات والوجاهات التي تعوّدت أن يكون لها الحق الحصري في تمثيل الطائفة،
وفي خضم هذا الصراع تتفسخ »الدولة« وتتهاوى »تمثيلية أركان« الحكم ومؤسساته بما في ذلك المجلس النيابي، حصن الديموقراطية الأخير!
الطائفة هي الأقوى، وعلى الدولة أن تتصاغر ليمكنها دخول »بيت الطاعة« بهدوء، وإلا تمّ تهشيمها وإدانتها بالخروج على مبادئ الوفاق الوطني!
الطوائف هي الحقائق الصلبة، أما »الدولة« فهي قناع، مجرّد قناع لذلك التحالف المزعوم في ما بينها والمهدَّد بالسقوط عند أول وفاة مفاجئة!
* * *
يدخل المرشح للرئاسات والنيابات والوزارات من باب العمل العام، وبوصفه صاحب برنامج أو صاحب رؤية أو صاحب موقف على الأقل، ثم ينتهي أمام لجنة فاحصة »سرية« تقرّر: هل هو ماروني صحيح؟ شيعي صحيح؟ سني صحيح؟ أرثوذكسي صحيح؟ درزي صحيح؟ كاثوليكي صحيح… أم لا!
ولهذه اللجنة الفاحصة الحق بتنفيذ أحكامها بمفعول رجعي!!
فاليوم يحاسب رئيس الجمهورية الياس الهراوي، مثلاً، على مدى التزامه أو خروجه على مصلحة الطائفة المارونية، فإن هو أدين بتهمة الالتزام بالمصلحة الوطنية العامة شطب كماروني صالح وأسقط من لائحة زعماء الطائفة التاريخيين ككميل شمعون وسليمان فرنجية وبيار الجميل وولديه،
ولقد كان همّ رفيق الحريري بعد أن تسنّم رئاسة الحكومة أن يثبت أنه ليس أقل تمثيلية للمسلمين السنة من نبيه بري في تمثيله للمسلمين الشيعة، أو من وليد جنبلاط في تمثيله للدروز،
فالزعامة لا تأتي من النجاح في توكيد الولاء للنظام الجمهوري الديموقراطي البرلماني، ولا من تجسيد »الدولة«، ولا من إثبات القدرة على الإنجاز،
وإجمالاً فالزعامة لا تجيء من العمل العام، بل من إزاحة المنافسين على تمثيل الطائفة، وإلحاق الهزيمة بهم وانتزاع الاعتراف بأنه »الممثل الشرعي والوحيد«، أو أقله »الممثل الشرعي الأول« للطائفة!
بعد ذلك يمكن الحديث عن زيادة الانتاج وخفض العجز ووقف الهدر وتوفير فرص العمل وتحريك الادارة واستكمال البنية التحتية.
* * *
هل من سبيل لإقناع أهل النظام بدفن الفقيد جوزف مغيزل؟!
لقد غدا جثمانه الآن تجارة رائجة، لكل طامح إلى زعامة الطائفة أو إلى ادعاء زعامة بيروت، أو إلى الطامع بجنة النيابة عنها أو بسدة الوزارة بوصفه الوريث الشرعي الوحيد للفقيد العزيز؟!
ولسوف تشهد جلسات المناقشة لبيان الحكومة المرقعة، غدù وبعد غد، مبارزات كاريكاتورية بشعة موضوعها الأساسي ادعاء »المغيزلية« ومن ثم ادعاء الوكالة الحصرية عنه ميتù ووراثته في الموقعين اللذين لم يضيفا إلى جوزف مغيزل شيئù بل لعله قد تضرّر منهما حيù ثم تضرّر أكثر بعد الوفاة!
ففي هذه »الدولة« العجيبة تكون »مواطنù« طالما بقيت بعيدù عن مواقع الحكم..
أما إذا أردت الانخراط في لعبة السلطة فعليك أن تقتل أفكارك وأحلامك (وأوهامك) وتتقدم شاهرù طائفيتك أو مذهبيتك، ويا حبذا لو عزّزت تلك »الكفاءة« بقرار من المجلس الملي، أو ببعض خطب الجمعة أو بواحدة من عظات الأحد.
أنت مواطن طالما بقيت في القاع.
أما شرط تسلّق »القمة« فهو إسقاط مواطنيتك والتسلّح بجواز المرور الطائفي أو المذهبي لكي تدخل جنة الحكم في »الجمهورية« ولكي تنسَّب إلى نظامها الديموقراطي البرلماني الفريد!
لذا لا تستطيع أن تكون أنتَ ذاتك كمواطن وكحاكم!
لا بدّ أن يقتل أحدكما الآخر… والحاكم، بالطبع، هو الأقوى!
* * *
رحم ا” جوزف مغيزل،
فهل يرحمه هؤلاء الذين يتزاحمون الآن على اغتياله؟!
* * *
جلسة التأتأة..
لو أن الدخول بالبطاقات إلى جلسات مناقشات الثقة بالحكومة الجديدة القديمة، لنفدت التذاكر منذ اللحظة الأولى، ومهما كانت أثمانها!
سيكون المشهد طريفù بأكثر مما يمكن أن يقدمه نجوم »مسرح الساعة العاشرة« أو »الشانسونييه« أو حتى زياد الرحباني.
بل لعلها ستكون أعظم مباراة في »التأتأة«!
ستتأتئ الحكومة وهي تتلو بيانها المعاد بطبعة منقحة ومزيدة،
وسيتأتئ النواب وهم يناقشون ما لا مفرّ لهم من الثقة فيه،
الحكومة تعرف أن »الثقة« مضمونة، وأن المناقشات بالتالي لا تعني شيئù إلا استيفاء الشكل، ولهذا فهي ستقول »أي كلام« واثقة أن أحدù لن يسمعه!
والنواب يعرفون أنهم لا يقدّمون ولا يؤخّرون، فما كُتب قد كُتب ولا مجال للتعديل أو التبديل… في انتظار تشرين الذي لناظره قريب!
فالكلام في حزيران والفعل في تشرين، والحكومة دار عبور إلى دار بقاء، والجائزة الكبرى للأبرع في التأتأة… وما أكثر المتقدمين!
هامش أخير: فيتنام الأوروبية!
قالها الأميركيون أخيرù وبصراحة: إن حرب الصرب في البوسنة مرشحة لأن تكون فيتنام جديدة، ولكن الولايات المتحدة لا تنوي التورّط فيها، بحيث تبقى فيتنام أوروبية..
لكأنما تلعب واشنطن دور المنظِّم للحرب الأهلية الأوروبية باعتبارها أقصر الطرق لضرب الحلم الأوروبي بالوحدة وبالقوة واستطرادù بالتكافؤ مع القوة الكونية العظمى المنفردة الآن، تمهيدù لعلاقة أكثر توازنù معها.
مع السيد الأميركي لا مجال لتقاسم النفوذ. إنه يريد الانفراد بالقمة.
لكن القمة موحشة بأكثر مما يحتمل هذا الانعزالي المدجّج بالدولارات!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان