غاب عنا الشاعر الصديق محمد الفيتوري سنوات لا نسمع عنه إلا ما يتناقله الركبان عن أهل الشان، كذلك غاب عني صوته زمناً قبل أن يصلني مثلثاً في الأسبوع الفائت: شعراً في قصيدة ديوان »أغصان الليل عليك«، وكوميديا سوداء »الشاعر واللعبة«، ومسرحية يستحضر نصها التاريخ لمحاكمة من جعلونا بالهزيمة المفتوحة التي اصطنعوها ويرعونها بعناية الأب الصالح حتى اليوم: »يوسف تاشفين«.
وفهمت معاني جديدة لغياب الصوت بعض الوقت، ولاضطراب أخبار الفيتوري الذي يغضب ان جعلته حادياً للثورة والرفض وأخرجته من دائرة الثوار، ويغضب أكثر إن أنت صنفته أو احتسبته بين الذين أخرجتهم السلطة من الفعل الثوري وإن بقيت جملهم ثورية.
الصوت المثلث لمحمد الفيتوري 1997 مثقل بالخيبة والمرارة والسقوط، يكاد يغيب عنه الفرح والبشارة بزمن للإنسان.
يكاد يقول إن الجميع سقطوا تقريباً أو إنهم على وشك السقوط، ومن تماسك واستمر يحاول المواجهة أدخل السجن ليموت فيه، فكلما خرج لفقت له تهمة جديدة بأفضال رفاق الدرب حتى لا يظل بينهم كالضمير يعذبهم إن هو حاسبهم ويعذبهم أكثر بصمت الادانة.
»نعيم: لا بد لواحد منا، لواحد على الأقل، أن يعلو فوق خيبة هذا الجيل. ومن أجل ذلك سأعرض دائماً رأسي في المزاد، وسأرفع إصبعي صارخاً في وجوههم: لا، لا، لا..
»فواز: الشوارع طافحة بالأوساخ، وأنت كالذي يحاول أن يكنس المدينة وحده. ما عاد الرفاق هم الرفاق. لعلك تصفني في سرك الآن باليائس والمهزوم.. وأنا لا أعفي نفسي من وطأة هذا الإحساس.
»نعيم: وحده اعترافك هو شهادة البراءة..
»فواز: خلال العشر سنوات الأخيرة سقط كثير من الرفقاء، وسقطت أنا أيضاً في اللعبة. قبلت مبدأ المساومة.
»نعيم: لم يعد من حق أحد ادعاء عدم المعرفة. ما حدث بالأمس ويحدث اليوم وما سيحدث غداً. لا عمى يبرر سكوتكم ولا غباء. الجريمة ساطعة مثل الشمس. الجريمة تتم وأنتم الشهود.
»… والوطن هو المأساة. والمأساة منكم أنتم. مثلما كنتم قبل عشرات السنين تجلسون في مقاعدكم ودائماً تطأطئون رؤوسكم وتهزونها في عجز وانكسار. يا إلهي، ألم تعرفوا بعد أنهم يستندون إلى أحزانكم فيصبحون أقوياء ثم يتسلطون عليكم.
»اسألوا أنفسكم ولو مرة واحدة: لماذا أنتم محاصرون هكذا؟! أنتم الذين رفعتم بأيديكم يوماً سقف هذا الكون.. لماذا تنهزمون أمام هزائكم وتنتصرون حين تشرب خناجركم من صدري.. لماذا، لماذا، لماذا؟!«.
فإذا لم يوضح النثر القصد، فإن الفيتوري يعيد شرحه شعراً:
»لم نكن أمة مثلما زعموا/ فلماذا إذن صعقتنا النجوم
وأظلم في روحنا العصر..
عشناه في القادرين/ وفي سقطة العاجزين
وعشناه في الواقفين/ وفي ركعة الساقطين
صحائفنا حول أعناقهم/ وفجائعهم ملء أفواهنا«.
بائس هو الآن محمد الفيتوري، يقف على عتبة اليأس حتى من الذات، والعمر يمضي، وما تطلبه النفس وتريده الارادة يحتاج ألف عمر وعمر، فأين يباع الزمن ومن يبيعه غير الذي صادره وجعله جائزة للملتحقين بركبه المفرد:
»تساكنت النار والسحب والكسل المتحجر/ خلف بياض العيون
فأنكرت في النار والسحب والكسل المتحجر ذاتي
وأفرغت موتي مني/ وخبأت حزني في صلواتي
وصرت أنا الشمس/ أنسج فوق الزمان القديم سحابي
وأمطر في كلماتي
وقد يطلع الحب ذات نهار عليَّ/ ويسكن مملكتي
فأعود الى ذكرياتي وحيداً/ أفتش عن ذهب الشعر تحت رمال الكلام«.
لكن المشكلة، عند الفيتوري تحديداً، قد تكون كامنة في الشعر، فهو المقل بطبعه بات كأنه زاهد في الشعر، أقصد في تأثير الشعر وفي دوره، خصوصاً أنه بقدر ما يتناقص الشعر يتزايد عدد الشعراء وتتزايد مهرجانات الشعر التي تندر فيها القصيدة
بيروت قاتلة الأنبياء والشعراء.
وبيروت قتلت الفيتوري مرة وأحيته مراراً، وهو لن يعود إلى عافيته حقاً خارج بيروت. لكن المشكلة أن بيروت كانت تستضيء بالقاهرة، وها هو الفيتوري في القاهرة نفسها يشكو الظلمة في »زمن شمعون بيريز« فكيف في زمن بنيامين نتنياهو:
»خانت بعض الكلمات وبعض الايحاءات/ وها هي ذي تتمايل راعشة
أغصان الليل عليك..
وأنت بلا درب.. وبلا صاحب
يا ويح جنونك./ أين تعلق صورة شعرك/ في زمن المجد الكاذب«.
سمعناك في بيروت يا فيتوري، وسمعتك بيروت.. فتعال!
حكاية مبارزة.. خارج الحب
اقتحمت العيون المكان كالعسس. اخضوضر الأثاث وهوّم الفراش وصدح حسون عابر استوقفه المشهد، وسرى الخدر في ثنايا كلمات الترحيب المجففة والتي تنطلق مع انفتاح الباب كأنما من شريط مسجل.
احتلت العيون الزوايا، السقف، النوافذ، وسلة الورد، وطفقت تجوس في أرجاء الغرفة مستكشفة آثار من عبروا أو عبرن، ثم أكملت حصاره بكليته لتبدأ فحصها الدقيق للنوايا، للمشاعر، للأفكار ما افترضت أنه مسبق وما قدرت أن المناسبة قد استنبتته.
تلاطمت العيون فوق صفحة وجهه. أحس بأنها تنغرز فيه كالشوك، لكنه مع ضيقه بها لم يحس بالوجع.
كانت المطاردة ناعمة الملمس، لكن النمر كان يتحفز تحت الجلد المرقط والمزغب كالنعاس.
أفاق من صدمة المداهمة متأخراً لتتخطفه الأسئلة: هل جاءت تعترف متأخرة، أم لمجرد الاستعراض؟! هل هي تستكشف موقعها غداً، أم أنها تتباهى فقط بصيد جديد قديم؟!
تأمل »الصديقة« بحذر: أهي قوة حماية، أم هي طليعة هجوم؟! وهل هما اثنتان أم أكثر؟! وهل سيتهاوى في قلب عاصفة العطر أم هي مجرد معابثة ستنتهي كجملة معترضة في سياق رصين؟! أهذه مظاهر قوة راسخة أم تصدعات ما قبل الانكسار؟!
عبرت خياله صور رحلات الصيد الملكية. ابتسم لخاطرة أنه الآن طريدة! أجال بصره في غابة العيون المترصدة متبيناً موقعه وطرق النجاة. كانت طلقات الذكاء سريعة وجيدة التسديد، لكنه ما زال يملك المبادرة.
استعادته بشيء من الحدة: هل فوجئت بنا، أم أنك فجعت بنا؟!
إلى أين تستدرجه! لا بأس. ان بين هواياته المحببة أن يمشي على حد المعنى، وبين تقنياته اللعب بالكلام وعلى الكلام وبالمتكلمين.
اكتفى بابتسامة قصيرة قابلة للتأويل. كان يفكر ويستذكر ويعيد ترتيب الوقائع: ليس في ما مضى ما يعطيها حق العتاب أو الحساب.
صارت العيون جيشاً، وضاقت دائرة الحصار:
من أين تجيئين، في زمن القحط، والذكريات أكثر هشاشة من أن تتسع لمغامرة مفترضة، والغد أوسع من أن يصادره التردد؟!
عادت تستفزه: بشع هو النسيان! ألم نكن نستحق لفتة اعتراف بأننا قد تعارفنا من قبل؟!
توغل في غابة التساؤلات: لماذا هو؟! لماذا الآن؟! لماذا هنا؟! تخرجينني كثوب قديم من خزانة مهجورة؟! وأين تذهبين بصهيلي، وأنا الذي أزعم أن الشمس لا ترتفع في السماء إلا مستندة إلى رمحي، وأن البهجة لا تنبثق في غيابي وأن النشوة إنما تهجع في باطن كفي إن أطلقتها تمايلت النساء في أربع رياح الأرض طرباً، وارتعشن وقد مسهن شبقي!
هدأت نفسه قليلاً وهي تستكين، وتأمر العيون بأن تعيد انتشارها وتخرج إلا أربع منها.
كان ما زال يتساءل: من أين تجيئين وقد اندثر برق العبور ولم يتبق منه حتى الرماد؟! وأين تكمن المرأة فيك وقد اجتهدت في دفنها تحت أكداس من ملح البحار وسكبت فوق جسدك كل هذا الشمس المذاب حتى بات تمثالاً.. لولا العينين الآتيتين من الغد؟!
التمعت عيناها بوميض شرس، فلملم خواطره بكثير من الوجل وداراها عن مرمى بصرها. لقد بدأت المبادرة، إذاً، بين الغرورين..
قال في نفسه: لن تهزني امرأة!
وقالت في نفسها: لن أدع هذا الدعيّ يفلت مني.
صارت العيون جمهورين، وطفقت تهلل مشجعة على أن يمتد العراك حتى النظرة القاضية.
فجأة توقفت، وأمرت العيون بالخروج مقررة أن تتم المبارزة بلا جمهور.
وغطى الخدر النوافذ، فلم يعرف أحد النتيجة.
تهويمات
} طرقنا فانفتح باب الليل. قال: فلنسمر! فسمرنا.. وحين تهاوى لهاث الصمت استأذن الليل ودخل غرفته لينام.
} الأفق الأزرق بحر مقلوب، أرضه بيضاء من هلام.
وحده وجهك يملأ المساحة، ويثرثر بوصايا العجوز وطلبات الطفل العابث.
والهواء متوقف في انتظارك ليعيد تشكيل المشهد بملامحك.
} انفتحت الذاكرة، فجأة، وتدليت منها زماناً جديداً يبحث عن ناسه.. ثم اصطنعت المكان: ما بين لفتتين وابتسامة العارف بما سوف يكون!
} خرجت من نشوة نعاسك صباحاً فقرأت اسمي مكتوباً بالياسمين.
} كيف أخرجك مني وأنت مداري؟! وكيف أدخلك وأنت فوق شرفة الوقت، كلما مددت إليه يدي انثنى عليك مرتحلاً وتركني أعارك عقارب الزمن؛ إن أخرتها تقدمتني وإن تقدمتها رمتني خارج المدار؟!
} قالت: أبعد كل ما سقيتك من حبي تشكو العطش؟! ماذا عني، إذاً، وقد تركتني كمجرى نهر جفف اليباس ماءه فصار عنواناً للضياع، ولا منبع له فيطلب، ولا مصب فيرجى فيه موسم الفيضان.
قال: بعدك لا ري. بعدك الظمأ. ليس بعدك إلا الطوفان.. وأنا فيه!
} هممت أن أقول، لكنني خفت إذا ما انكسر الصمت أن نخسر قبلة الوداع!
} وحده النسيان هو البعد. وبك تفيض الذاكرة المحتشدة باسمك!
} للشوق ملامحك، ولولا أنانيتي لناديته باسمك!
} أعبر شرفة ليلك فتزهر نهاراتي فرحاً أخضر.
حوار بين نجمتين
لا تتعجل الأيام، يا حبيبي، بل املأها. سأعطيك من زماني لتكون الغد الأبهى.
ولكنني لا أرى الغد خارجك. وأنا في زمانك، منك استمد الأمل وبك أصبح أقوى. صوتك يقهر الغربة ويمدني بالفرح وشجاعة الاقتحام. أنا في زمانك، ان أخذت منه خسرنا جميعاً.
أتعرف أنك مستقر دائماً في كل أحلامي.
وأنتِ، لا يكتمل حلم إلا بك، بل هو يبدأ بك، وبك يتكوّن ومنه أستمد ابتسامة الصباح وأتمرّى ثلج الغربة وألتصق بالوطن.
الوطن حلم أيضاً.
لذلك فهو مصدر البهاء.
لكن الواقع بشع، وكريه، الواقع يلتهم الوطن ويدمر الناس.
ألسنا متعاهدين على تغيير هذا الواقع؟! هل ضعفت؟!
اعذرني.. لا تطل غيابك، فمنك أستمد القوة. لا، لا، سأقاوم، ولكنني احتاج إلى الرفيق.
إنما أنا أكملك. أنت البداية والسياق. أنت السيف والعنوان.
سيفي بزندك، وأنت القلم لكتابي.
موعدنا الغد.
بل نحن موعد الغد. الى اللقاء.