يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نور أحمر، يقفز في الهواء ليرمي حجره، ثم ينحني ليلتقط حجراً ثانياً، ثم يعاود التقدم، شامخاً، في اتجاه مدافع الدبابات التي تسد عليه الطريق، ويظل يتدفق حتى يغمرها ويغرق الجنود ببنادقهم المصوَّبة إليه فيتراجعوا وهم يطلقون كل ما معهم من رصاص.
هو في طريقه إلى القدس. لن يسد عليه الطريق أحد. ولسوف يبلغها. إن لم يصلها وصلته. بل هي فيه وهو فيها، وقوته منها وكذا الشموخ.
من قبل افتداها فحماها، وافتدته فحمته، ولم يفترقا أبداً.
ها هم أجداده ينتظمون مشاعل على الطريق إليها. منهم من سقط دون بابها، ومنهم من رمى بماء النار الغزاة عند سورها. منهم من اعتلى مئذنتها ليرفع الأذان، ومنهم من صعد المنبر ليلقي خطبة الجهاد، وأكثرهم ظل يقاتل حتى مات الموت وسلمت القدس.
* * *
يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نور أخضر.
إنه الآن وريث الأنبياء. حاميهم والذائد عن مكرماتهم والكتاب. لن يدعهم يدنسون درب الآلام. سيسد مداخل كنيسة القيامة. وسيفرش ذاته لهباً حتى لا ينتهكوا الحرم الشريف. هو المسؤول عن »عمر« الآن. حماه »عمر« مرة، وعليه أن يحميه الآن، كل لحظة، وكل يوم. عليه أن يحمي الجميع. ولسوف يحميهم.
سيأتي الآخرون. سيأتي الأخوة الأقربون. سيأتي الأخوة في الإيمان.
إنه مسؤول عن حماية غيبتهم. لعل لهم عذرهم. لعلهم ضلوا الطريق. لعلهم لم يستطيعوا بلوغ الطريق.
من يُمنع عليه الدفاع عن بيته في مدينته، من يُمنع عليه القتال ضد العدو وهو يجتاح بلاده، كيف سيمكنه الوصول إلى هنا لحماية المدينة المقدسة؟! كل المدن مقدسة. كل القرى مقدسة. هنا العنوان فحسب.
لقد رآهم يحاولون كسر السور المقفل عليهم داخل الجامعة.
لقد رآهم يهرولون في الشوارع هاربين من رجال الشرطة الذين يمنعونهم من مجرد الهتاف باسم القدس.
لقد رآهم تائهين وسط الرايات الملونة، وكل يحاول أن يجعل راية »تنظيمه« الأولى، متقدما بها على صورة القدس الشريف.
لقد رآهم وقد شرّدهم التعصب بعيداً عن الهدف، فحملوا صور قياداتهم التي أضاعت القدس في ما أضاعت، وغطوا بها على صور المدينة التي أعطت التاريخ اسمه.
كيف تحمي القدس وبيتك بلا حرمة، ومدينتك بلا حراسة، وصوتك ضائع في الهواء بلا صدى، فإن سُمع له صدى اعتقلت واعتقل معك الصدى حتى لا يضلل غيرك فيغوي.
كيف يطلب الحرية للقدس أولئك المحبوسون في سجون الممنوعات: ممنوع التظاهر، ممنوعة الكتابة، ممنوعة الانتخابات، ممنوع الرأي، ممنوع التفكير، ممنوع فضح الممنوع وإسقاطه؟!
* * *
يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نور أحمر.
تتأخر عنه الأسئلة، لكنها لا تغيب عن الأفق:
كيف إذا قام لحماية القدس، بتاريخه فيها، بأنبيائه وأجداده، يتهم بالتعصب الديني، بينما تسمح »علمانية« شارون وتتسع للمطالبة بآثار هيكل لم يثبت أبداً أنه كان هناك!
التعصب عند الإسرائيلي صراع أفكار وعقائد، بين المتدينين والعلمانيين (هؤلاء الذين يواجهون الدم الآن بالدبابات).
من حقهم أن يجيئوا من أقصى الأرض، تحت الشعار الديني، وتحت راية الأسطورة التوراتية، ليبنوا »وطناً«. وبعد إقامة »الدولة« يمكنهم إعلانها »علمانية«، ولكن كل يهودي في أربع رياح الأرض هو »مواطن« فيها!
ممنوع محاكمة الجاسوس الإيراني لأنه يهودي. وممنوع سجن البريطاني أو الأميركي الذي حوكم وأدين بالتجسس لإسرائيل لأنه يهودي، وهو بالتالي إسرائيلي، ولإسرائيل الحق في المطالبة باسترداده لأنه »مواطن« فيها، وهو لا يعرف موقعها على خريطة الدنيا.
السفاح علماني، وأنت متعصب وداعية للحرب الدينية.
قاتل محمد الدرة وأقرانه الأطفال والفتية علماني، ومحمد الدرة إرهابي ينادي بالجهاد المقدس.
محمد الدرة، الطفل اللاجئ إلى حضن أبيه، المتلطي خلف حجر في قريته المدفونون أجداده فيها، كان يهدد دولة إسرائيل بالحرب الدينية، فحق عليه العقاب.
يجبرون محمد الدرة على توحيد الوطن والدين ثم يتهمونه بأنه متخلف، رجعي، لا يفصل الدين عن الدولة وعن السياسة.
* * *
يتقدم الدم. تتقدم القدس. تتقدم كل المدن المحاصرة. تتقدم كل الأفكار المحاصرة. تتفجر كل الكلمات الخرساء. تتهاوى صور السلاطين المرفوعة لتزوير التظاهرة والمسيرة والشعار والهدف. تحترق كل الأعلام والرايات الفئوية.
تبقى صور محمد الدرة علامة على الطريق.
لا قداسة للقدس بلا محمد الدرة وسائر الشهداء.
لا قداسة للقدس إذا ظل السلطان أكثر قداسة من الوطن.
لا قداسة للقدس ما لم يبدأ واحدنا بفك الحصار عن نفسه ليتقدم…
يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نار ونور.
مبارك تقدم المبارك. مقدس المتقدم إلى القداسة.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 6 تشرين الأول 2000