لا حصر ولا حدود للمفارقات التي يفرض علينا زمننا الذي يصنعه الغير أن نعيشها بل أن نتجرعها فنكاد نختنق بها.
من تلك المفارقات انهم في اسرائيل يحاسبون حكومتهم وجيشهم على تقصيرهم وارتكاباتهم الفاضحة التي أعجزتهم عن ربح الحرب التي شنوها على لبنان واستطالت لثلاثة وثلاثين يوماً… فتنشأ اللجان لمساءلة رئيس الحكومة ووزير دفاعها ولرئيس الاركان وكبار ضباطها.
ولقد تبدت أولى النتائج العملية قبل يومين: إذ تقدم رئيس الاركان الجنرال دان حلوتس باستقالته، معترفاً بالمسؤولية، كما يليق بقائد عسكري مقاتل..
بالمقابل فإن وزير الدفاع يستعد للنجاة بجلده استنقاذاً لمستقبله السياسي، بينما يتخبط رئيس الحكومة في إخفاق حربه في تحقيق أهدافها، وكذلك في فضائحه المالية الشخصية، وهي من المضحكات لعديد من الرؤساء والقيادات والمرجعيات اللبنانية بقيمتها الهزيلة!
أما نحن في لبنان فلقد أخضعنا للمساءلة المقاومة الباسلة بقيادتها ذات الوهج ومجاهديها الابطال الذين ثبتوا في مواقعهم، عند الحد تماماً، لثلاثة وثلاثين يوماً، في مواجهة طوابير الدبابات التي كانت تتباهى إسرائيل بأنها الأقوى والاحدث في العالم، وبأن لا سلاح يستطيع عطبها، وفي مواجهة الطيران الإسرائيلي المفتوحة له الاجواء العربية على مداها لكي يجري مناوراته وتدريباته بالذخيرة الحية… فضلاً عن قوات النخبة و المظليين وسائر الأسلحة بما فيها حيوان اللاما..
هم يحاسبون على التقصير والفشل وتدمير سمعة إسرائيل العسكرية، وهي بين علل وجودها واستمرار هذا الوجود القوي،
ونحن نحاسب المقاومة على إنجازها التاريخي بإسقاط أسطورة إسرائيل التي لا تهزم ، ومعها التأييد الأميركي المطلق الذي منع أي وقف لإطلاق النار، ومد أمد الحرب لثلاثة أسابيع إضافية لعل الحليف الجبار يستطيع القضاء على حزب الله ومجاهديه ومعهم كل من ناصرهم وشد أزرهم واعتز ببطولتهم فعاد فور وقف الحرب إلى بيته المهدم لكي يؤكد ثباته في أرضه بعدما اطمأن إلى أن من حررها أول مرة قادر على حمايتها، بعد، لأنه منها ولها وبها..
من تلك المفارقات أيضاً أن العرب الذين لا يلتقون في العادة، ولا يتفقون، ويهربون من مواجهة مسؤولياتهم عن أوطانهم، قد اجتمعوا بمثل السحر فتأكأوا من حول وزيرة الخارجية الأميركية ليس لمحاسبتها على المذابح اليومية المهولة التي يتعرض لها شعب العراق تحت الاحتلال الأميركي، وليس لتحميلها المسؤولية عن دفع العراقيين إلى أتون الفتنة تمهيداً لإغراقهم في حرب أهلية تدمر وطنهم وكيانه السياسي، وتمزقهم فتوزعهم أيدي سبأ في كانتونات مقتتلة حتى يشيب الغراب… طالما ان نفطهم، ثروتهم الوطنية، يتدفق ليصنع للأميركيين، ومعهم الغرب عموماً، أسباب الرفاه.
.. بل لقد جلسوا إليها مؤدبين، واستمعوا إلى تحليلها صاغرين، ووافقوا على التعليمات الجديدة التي قررها الرئيس الأميركي جورج. و. بوش من قبل أن يسمعوها… فصار العدو الأول إيران، والعدو الثاني سوريا، وتمت تبرئة الاحتلال الأميركي، الذي سيكون مضطراً لإثبات هذه البراءة إلى إيفاد أربعين ألف جندي جديد.
لم ينتبهوا، طبعاً، انه وخلال اجتماع التعليمات الجديدة كانت بغداد تنزف بعض خيرة فتيتها من طلاب جامعة المستنصرية، فتمزق السيارات المفخخة أجساد أكثر من مئة وخمسين طالباً وطالبة، وبعض الأساتذة، وبعض عابري السبيل،
ولم يسألوا عن مسؤولية الاحتلال الأميركي عن تحويل الدكتاتور صدام حسين إلى شهيد، ربما لأنهم قد أفادوا من هذه الفضيحة لتبرير الفتنة المنظمة التي تكاد تدمر العراق، كما أفادت منها الوزيرة السمراء لنقل التهمة إلى إيران، واستطراداً إلى سوريا (ومعهما حزب الله في لبنان)… مع ان رئيسها جورج و. بوش هو الذي وجد للحكومة التي عيّنها قبل فترة بسيطة في بغداد الاسباب التخفيفية!! أفليس هو الذي قال: ان إعدام صدام كان لحظة مهمة لأنه طوى فصلاً رهيباً وأعطى الحكومة فرصة للمضي قدما ؟!… ثم أليس هو الذي قال: ان عملية الاعدام كان يجب أن تنفذ بطريقة أكثر حفاظاً على الكرامة… لكن الحكومة العراقية افتقرت إلى المهارة مضيفاً ان صدام حسين قد حصل على محاكمة عادلة..
لقد وجدت الإدارة الأميركية في نوري المالكي يوضاسها ، ترمي عليه التهمة ثم تغسل يديها متبرئة من دماء الضحايا الذين بلغوا، حتى الأمس، ووفق الاحصاءات الرسمية للأمم المتحدة أكثر من 35 ألف قتيل خلال ,2006 وفي إحصاءات أميركية عراقية مشتركة أكثر من 650 ألف قتيل منذ الغزو.
من تلك المفارقات أخيراً ان السادة الملوك والأمراء والسلاطين العرب قد قرروا المشاركة في مؤتمر باريس 3 لاستنقاذ الوضع الاقتصادي في لبنان، ولكنهم تغافلوا عن أمر بسيط هو ان لبنان يفتقر إلى حكم ، وان حكومته البتراء قد باتت طرفاً مخاصماً لمعارضيها الذين أثبتوا انهم يمثلون ما يتجاوز بكثير شعبية هذه الحكومة ومناصريها.. وانه كان الأولى بهم ان يخرجوا لبنان من مأزقه السياسي إلى الوفاق الوطني الذي يعيد إلى الحكم شرعيته، وينهي الوضع الشاذ للحكومة البتراء بأن يجعلها بحق حكومة للوحدة الوطنية، تستطيع ان تذهب إلى باريس 3 باسم لبنان كله..
بصراحة أكثر: كان باستطاعتهم ان يساعدوا لبنان بتوحيده، بدل ان يشجعوا على انقسامه، بذرائع سياسية ستنعكس على الأرض طائفياً ومذهبياً، بما يضيعه حتى لو رصفت الطريق بين بيروت وباريس بالذهب الخالص.
ان مؤتمر باريس ,3 على أهميته، لا يحل المشكلة، إذا ما استمر الانقسام الذي يتهدد اللبنانيين بأخذهم إلى الفتنة..
ولقد كان اللبنانيون يتمنون ويأملون من الملوك والرؤساء والسلاطين والأمراء أن يستنقذوا مبادرتهم العربية أولاً، ثم بعد ذلك يوفروا النجاح لباريس .3
فبيروت أولاً، وثانياً وثالثاً… وبعد ذلك يمكن الحديث في الاقتصاد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان