ميشال خليفي في لبنان،
الخبر مفرح، وقد يعوض بعض التعاسة التي أشاعها المهرجان السينمائي الفاشل الذي ارتجل على عجل في بيروت فلا نفعها ولا أعطاها دورا في عالم السينما ولا أكسب السينما مركزا دوليا جديدا في هذا الشرق،
لكن وجود ميشال خليفي في لبنان خبر امني، وليس خبرا ثقافيا،
بالنسبة للأمن يقتصر الخبر على واقعة واحدة: أن ميشال خليفي يحمل جواز سفر اسرائيليا، وقبل ذلك، انه يعتبر »من التابعية الاسرائيلية«.
ليس من شأن رجل الأمن ان يدقق في الهويات الاصلية للناس والمدن.
رجل الأمن يتعامل مع الورق. الورق هو الحقيقة، وما عداه باطل.
ليس من الضروري ان يعرف رجل الأمن أين تقع الناصرة، حتى لو كان مسيحيا يذهب الى الكنيسة كل أحد ويصلي للناصري الأعرق عيسى المسيح.
في مطار بيروت بدأت المشكلة، من جديد، ثم تمددت لتصل الى الادارة، ولتدور باحثة عن حل، فاذا القانون يمنع حتى لو كان الضمير والوقائع والتاريخ والشعور القومي والعاطفة الاخوية تسمح.
والمشكلة ما تزال تدور مستولدة دوامة يكاد يغرق فيها ميشال خليفي وحقه الطبيعي في ان يجيء ويتنقل ويعيش في أي بلد عربي باعتباره، في البدء والأصل والواقع والحقيقة والحق، عربياً أصيلاً.
ميشال خليفي هو في العالم فلسطيني بجواز سفر بلجيكي، ينفي بشكل ما فلسطينيته التي لا تؤكدها الوثائق الرسمية لأن التاريخ اغتيل قبل خمسين سنة حين طمست فلسطين لتستنبت مكانها إسرائيل،
وميشال خليفي هو بين العرب بلجيكي بقلب فلسطيني يتلطى تحت وثيقة اجنبية لكي يقبله أهله العرب،
وهو في فلسطين اسرائيلي بجواز سفر يلغيه كإنسان وكهوية وكحق تاريخي وكوطن تتشكل أرضه من عظام جدوده،
انه محكوم بالنفي في الخارج وفي الداخل.
كلما اكد نفسه ألغاها، وكلما ألغاها أكدها.
ليست قضية فلسفية معقدة انها واقعة بسيطة: إن اكد »اسرائيليته« ألغى نفسه كمواطن فلسطيني في وطن حلم هو فلسطيني، وان هو ألغى »اسرائيليته« المفروضة اكد فلسطينيته المحظورة عليه.
لا بد من ان يخرج من ذاته، من جلده، من دمه، من هويته، من بشرته السمراء بلون أرضه، لكي يكون.. ولكي يتم الاعتراف به.
فهو ان كان في »أرضه« خسر هويته الفلسطينية،
وان هو خرج من »جنسيته« الاسرائيلية (المفروضة) استعاد هويته الوطنية (الهيولية) من دون أرضه،
لا يقبله العرب كفلسطيني بجواز سفر يلغيهم قبل ان يلغيه،
ولا يقبله العالم بجواز سفر فلسطيني يلغي اسرائيليته المفروضة بالقهر، فيتواطأ معه على التزوير ويمنحه الجنسيات الاجنبية، ربما لتحاشي الوقوع في الخطيئة الاصلية، مع الإقرار بشرعية الخطأ المعلن.
وميشال خليفي عنيد كالتيس،
انه مصر على الاحتفاظ بفلسطينيته، وبين شروطها ان يظل يحمل جواز سفره الاسرائيلي الذي ان تخلى عنه فقد حقه في العودة الى أرضه التي تنكر عليه الآن الا اذا هو حمل جنسية محتليها!
وهو مستعد لأن يضحي، من اجل ان يبقى »في الداخل«، فيحتسب في عداد الاسرائيليين. المهم ان يبقى من »أهل« الناصرة… الفلسطينية!
الناصرة هي فلسطين حين يكون فيها،
لكنه حين يخرج منها يستعيد فلسطين باسمها الصريح حتى لو لم يكن يحمل جواز سفر باسمها. لعله يفترض ان اسمه يصبح معادلا لإسمها.
مشكلة ميشال خليفي »الامنية« هي ملخص لمأساة المواطن العربي الذي لا يستطيع ان يكون »هو« الا اذا قبل تزوير ذاته، نفاقا لحاكمه البطاش، او بفعل إرهاب محتله المخيف.
ميشال خليفي له بيت في قلب كل لبناني، بل كل عربي،
فالوطنية لا تكون بالاختام او بالورق الرسمي.
الحب داخل الزمن والناس
كانا صديقين، ثم افترقا على خلاف. جاء الندم فكتب بلسان احدهما للآخر ما يشبه اعترافاته الذاتية. هنا نص الرسالة:
»أصعب الحوار ان تحاور نفسك.
تكتشف الخطأ. تكابر حتى لا يذلك الاعتراف به، فاذا ما اعترفت مضطرا سبقك التفكير الى ابتداع الأعذار فيستحيل الحوار، وتصدح ذاتك بنشيد أنانيتك لتلغي احتمال النقاش.
كيف نكون اثنين؟
كيف نجلس متواجهين، وواحدنا يختزن الآخر ويكاد يختزله، بل ربما يكاد يستشعر ضرورة إلغائه ليكون؟
كيف أُسكت أحد الصوتين لأسمع الآخر؟! وأي الصوتين هو صوتُكَ؟
كيف أُسكت صوتك داخلي لأسمعك من خارجي؟
كيف أُسكت صمتَكَ لأسمعك وأنت تملأ الداخل والخارج؟
لا يقيم الصمتان حواراً. لا تقيم الصيحتان حوارا.
لا يتعايش الحب والغضب في صدر واحد. يعتكف الحب في قوقعته حتى لا يستخدم سلاحاً للقتل.
مع الحب لا حل وسطاً.
البعض ينطقه الغضب فتتهاوى كلماته والمعاني عند قدميه ولا تصل الى غيره، بل ترتد اليه فيشتعل الغضب عواصف من نار.
ليست المعادلة: نحب أنفسنا فننسى الآخرين او نكرههم، او نحب الآخرين حتى نسيان الذات. الذات ايضا في الآخرين وليست معلقة في الفضاء. والذات تكمل نفسها بإبداعاتها وليس بالفراغ. أشرط انتباهك لنفسك ان تنسى اسمك ولون عينيك وان تكسر قلمك الذي طالما قال الحب شعراً ولا أرق؟!
دنيا الحب اكثر اتساعا من ان تضيق بحوار حميم مع الذات وحول الذات. الغد أبهى من الأمس. لكن بهاءه لا يجعلنا نلعن الأمس ونمزق صفحاته المجملة بملامحك وأنفاسك.
لا يجيء الغد من الغيب.
واغتيال الأمس لا يفيد الا في إهدار دم اليوم.
ولا يعيش الحب خارج الزمن.
يعطينا الحب القوة لنصنع زماننا، لكنه لا يصطنع الأزمنة ويقف على الطرقات يوزعها على العابرين.
والحب الناس. من كره الناس لم يعرف الحب. من رفض الناس وخرج منهم عشش في صدره فراغ يؤذي الحب فيجعله مرضا.
لا يحتاج الحب الى تفرغ.
العطاء يحمي الحب ويحصنه، والنجاح ثمرة طبيعية للحب الذي لا يكتمل الا بالآخرين.
خبز الحياة
لا يحتاج الفرح الى فسحة في المكان.
الفرح هو صنو الحب ووليده هو المكان، وهو أيضا الزمان!
ينتشر الفرح كالنور، فيضيء الأفئدة والوجوه والأفكار والأمكنة.
انه يخلق ويعيد الخلق: معه لا يتبقى قبح ولا يتبقى عيب!
تتسامق الأجساد، وتختفي تشوهاتها، وتشف الروح فتبدل في الملامح، مسقطة تجاعيد أيام الشقاء، والغضون التي أبقتها الاحزان علامات فارقة، وتبزغ من العيون إشراقات مزركشة بألوان قوس قزح.
للفرح منبع واحد هو الحب.
من لا يحب لا يعرف الفرح، ولا يفتح بابه متى طرقه.
من يحب يفرح كثيرا ويسحب الآخرين الى فرحه لأن بهم اكتماله.
* * *
اتسع المنزل الصغير فصار اكثر اتساعا وأعظم دفئاً من قصور الأباطرة.
دخله الرجال، دخلته النساء، دخله الفتيان والصبايا، فازداد اتساعا، تسلق الأطفال حديد النوافذ، وانعقدت حلقات الدبكة، وقام الراقصون الى الرقص، ومع كل دفعة جديدة ممن لهم في الفرح نصيب كان البيت الصغير يغدو فسيحاً يصلح لأن يستقبل في قلبه أهل المدينة جميعا.
امتلأت الغرفة بالعيون الدامعة فرحاً،
ازدحم الأثير بالغناء فنثره على الأحياء القريبة ومطه حتى وصل صداه الى الأحياء البعيدة.
يحب الفرح ان يعلن عن نفسه.
كان كل شيء إنسانيا ونبيلا، وتبدى الغنى وكأنه عدو للفرح.
حتى العجائز غدون أبهى طلعة.
سقط المطر بغتة. لكن الفرح لم يتبلل ولم يلجأ طلبا لحماية الجدران. نشر مظلته فوق الرؤوس جميعا فصار صوت المغني أطلى، وصارت أقدام الراقصين أرشق، واكتست الوجوه المغتسلة بالعرق بهاء لا تعرفه الا متى بلغت النشوة ذروتها.
طار الفرح الى بيوت الفقراء فأنارها، وطار صوت المطرب بالدعوة الى المشاركة حتى بلغ أعلى القمم ثم تسلق الغيم فاعتصره مستعجلا الصحو.
وسمع عجوزا تتمتم ببعض آيات الله لتختمها بالدعاء: رب امنحنا الفرح وخذ العز والجاه والغنى الى من يحتاج. الفرح خبز الحياة. اللهم احم فرحنا!
بين الأصل والصورة..
أخافكِ. أجل، أنا أخافك.
تلك هي الكلمة التي قد تجدينها، يا صغيرة، كبيرة!
أخاف عينيكِ. أخاف ان تطالعني فيهما صورتي الأخرى. أليستا مكمن السر؟!
(كانت تغمزه بهما من فوق رؤوس الجميع، من تحت عيون الجميع، وكانت جرأتها تصد الغارات وتقطع ألسنة النميمة التي كانت، على أي حال، ستجد ما سوف تلغط به..).
أراها فيك وأخشى ان ينزلق لساني الى اسمها وأنا أناديك. يفضل ان يخلو حوارنا من الاسماء، إذن، تخاطبينني بلهجة تنضح احتراما، وأخاطبك بلهجة مهجنة لا تستقر تحت تسمية محددة اذ تختلط فيها نبرات العواطف المتضاربة جميعا.
(كانت تهتف باسمه بأعلى صوتها إناء الليل وأطراف النهار. في الشارع، في الهاتف، في البيت، وتزرعه في الأسماع جميعا، وكان يذوب خجلا حتى ليكاد اسمه يتسع له..)
متى تكونين أنتِ؟
إن كنت أنتِ أنت، فمن أنا؟!
لا بد ان تكونيها لأكون أنا. أنا من دونها شخص آخر وكل ما ترينه هو بعض الزيف وبعض الصنعة وبعض الحرج اللائق بسنك.
يتسع الجلد لاثنين، لثلاثة، لألف؟!
أمن الضروري ان تكون لك هاتان العينان؟ هذه اللثغة الرخية؟ هذه اللهجة التي تمتزج فيها البداوة بمخارج الألفاظ الاجنبية؟!
(لكم كانت تعتز ببداوتها حتى وهي ترطن بثلاث أو أربع لغات اجنبية. وكانت تكاد تخجل أحيانا ببشرتها البيضاء، فترفع الكم لتظهر للجميع الوشم الذي »دقته« على ذراعها خالتها »أم عرب«..)
العينان.. آه من عينيها! كانا سكني وعنواني.
تدخلين من الذاكرة، ويتوالى خروجك من الباب، وتبقين ملء البصر. كيف لي أن أرى غيرك.. غيرها؟!
أغمض عيني حتى لا ينكشف لي جسدك الغض، وتتهادى فوقه تلك »الشامات« التي طالما ألهبت شفتي.
تتهاوى عنكِ الثياب فأردها إليكِ، وتبتسمين فلا أعرف أبسبب ارتباكي أم بسبب انكشاف سري القديم لعينيك الناعستين؟!
(كانت تقول له بتوكيد جازم: أستطيع ان أراك وأنت غائب وأعرف أين ومع من تجلس، وماذا تقول، لا سيما إن كنت في صحبة امرأة. وأسمع في صوتك لهاث خيبتك وأنت تحاول ان تهرب من حبي فلا تستطيع منه فكاكا. سأطاردك حتى أقصى الأرض، فلا تحاول… ذلك أجدى لي ولك. هل نرمي زماننا في البحر ثم نجلس على الشاطئ نبكيه بدلا من أن نعيشه)..
هي الأجمل عندي، حتى وأنت تمتشقين صباك البهي.
هيا اذهبي كي تعود.
هيا اختفي. أريد أيامي، وأنتِ تحرقينها بوجودي.
هل أدركت الآن كيف أضعت لك موعدك الأخير؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا يحمل الحب ساعة، ولا يعمل الحب بالساعة. الحب شمسنا والقمر، وهو يصنع لنا أيامنا والساعات. واهمٌ من يقول أن الحب يخرجنا من دورة الفلك الى زمانه الخاص. روعة حبك ان تقرأه كل لحظة في عيون الناس، وان تسمعه عبر تمنياتهم. الحب ليس »تهريبة« ولا هو جرم شائن يهرب به صاحبه من الناس، بل يسعدهم به.. على الأرض!