يقول ويليام ماكنيل، صاحب “صعود الغرب”، نقلا عن مارشال هودجسون، صاحب “مغامرة الإسلام”، وكل منهما كان الأفضل في موضوعه عالمياً، إنه لو أشرف الواحد على الأرض من قبة السماء في القرن الخامس عشر، لاستنتج أن الإسلام سوف يسيطر على العالم. لكن ذلك لم يحدث.
سيطر الغرب نتيجة توسّع الهوة في المعرفة والتكنولوجيا بين الغرب والشرق. وتأخر الشرق وتقدم الغرب. خلال ذلك، ومنذ القرن السادس عشر، أصيب الشرق بتكلّس في بناه الفكرية، فأصيب بتخلف بنيوي. صار صعباً ردم الهوة منذ أواسط القرن الثامن عشر. حاول إصلاحيو العالم الإسلامي ردم الفجوة بالصناعة والزراعة والخدمات. حاولوا ردم الهوة الثقافية لكنهم ما أفلحوا الا قليلا، وبقي شرق العالم الإسلامي، خاصة الوطن العربي، في ما يشبه غفوة أهل الكهف.
بسبب فجوة التقدم صار الغرب الأقوى. خلال القرون الماضية، فرض سيطرته الاستعمارية على أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ما أتاح ذلك للغرب هو الضعف الذي أصاب الحضارة الإسلامية. ما عمق الفجوة خاصة بين العالم الإسلامي والغرب هو الأمر البنيوي. إذ تكلست حضاراتنا، ووجدت نفسها عاجزة عن التقدم بسبب البنى الثقافية والاستبداد، الذي دام حتى بعد الاستقلال. الاستبداد لم يدم وحسب بل تعمّق ليشمل بنى المجتمع والدين والسياسة. كان سبباً إضافياً في التأخر (توسّع الفجوة) والتخلف (تصلّب البنى الفكرية). تعولم العالم قبل أن تدري نخبنا بالتفوّق الثقافي للغرب. تفوّق الغرب وصار هو المركز ونحن الأطراف (الهوامش) قبل أن نفعل ما يكفي للخروج مما نحن فيه.
عانينا من الغرب وسيطرته وسلبه ونهبه مواردنا المادية والبشرية. صارت الهزيمة الناتجة عن كل ذلك هزيمتين: واحدة خارجية، بمعنى أن أسبابها خارجية، وواحدة داخلية، بمعنى أن أسبابها في داخلنا، وهذا هو الأهم.
كتب الكثير عن الهزيمة الخارجية، عن الامبريالية وأسبابها ونتائجها. موضوعنا هنا هو الهزيمة الأخرى الداخلية. كثيرون منا لا يقرون بالهزيمة. يكابرون فيرون الهزيمة أحياناً انتصاراً. ولا يذكرون أننا نستورد السلاح لندافع عن أنفسنا، ونستورد الغذاء لنبقى على قيد الحياة. بدأ الغرب في الثمانينات حملة عالمية تسويقاً لتدفقاته المالية في البلدان التي تسمى عالماً ثالثاً. العولمة تقسيم جديد للعمل. الغرب يزودنا بأموال مطبوعة ولا تغطية لها. بلاد أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تصدر موادها الطبيعية التي يحتاجها الغربيون ولا يستطيعون إنتاجها بسبب المناخ، إضافة الى نقل كثير من الصناعات لبلاد أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية للإنتاج بأجور متدنية حيث لا نقابات. تدفقت الأموال الورقية الى هذه البلدان من العالم الثالث. مقابلها تدفقت مواد (منها النفط) حقيقية تملكها هذه البلدان الى الغرب. تراكمت الديون على بلدان العالم الثالث فكان عليها أن تعيد جدولة ديونها، أو تهرّب برجوازيتها رساميل “الاستثمارات” من بلادنا دون أن تترك أثراً.
احتلال من نوع جديد-قديم. جيوش قوامها الاستثمارات الأجنبية، أي الديون الخارجية. من الطبيعي أن تنفقها بلاد العالم الثالث على سلاح تديره هي، وعلى مشاريع غير مفيدة، إلا إذا كانت لخدمة المصانع الغربية في بلادنا، وطبعا الفساد، إذ أن البلدان المتلقية فيها طبقات عليا تقتطع جزءاً كبيراً من هذه الاستثمارات وتنفقه كمصاريف جارية، توافق عليها البرلمانات المحلية، أو سمسرات تملأ الجيوب وأموالها تنفق على مواد الترف الآتية من الغرب بأسعار خيالية. وعندما تتراكم الديون الخارجية المتأتية من تدفقات “الاستثمارات” الأجنبية (هي بمعظمها آتية من العالم الأول)، جزء قليل من هذه التدفقات ينفق على مشاريع مجدية، ومعظمها ينفق على رواتب وأجور بيروقراطيات تنمو نمواً سرطانياً نتيجة استخدام عدد كبير من الناس في وظائف غير مفيدة إلا كأصوات انتخابية. تتراكم الديون على البلد المتلقي، مع المساعدات التقنية لحل الأزمة. يكون الحل في نادي باريس أو لندن بفرض إعادة هيكلة النظام في البلد المتلقي، ويسمى ذلك إصلاحاً. يدفع الفقراء ثمن الإصلاحات التي غالباً ما تكون رفع الدعم عن السلع الأساسية وزيادة الضرائب. هذا بينما تكون أموال الأغنياء قد هربت الى الخارج. هذا احتلال جيوش المال لبلادنا. جيوش المال تقرر سياسات البلد. يضطر البلد المتلقي أن يكون على كامل الاستعداد للقبول بالشروط المفروضة لحل الأزمة. المال يجر المال. الديون التي تفرض على البلدان الهامشية (الأطراف) تكون فوائدها تجارية (عالية وتصاعدية)، بحيث أن كلفة الدين (الفائدة المتراكمة) تصير في الغالب أكثر من أصل الدين بكثير. عن طريق الدين وفوائده يكون نهب البلد الأساسي. في أساسه يكون الفساد الأكبر بشكل ثروات كونتها الطبقات العليا بأساليب شرعية، وحسب القانون. أموال السمسرة هذه تودع في الخارج، في الجنات الضريبية. يُدفع الدين عن طريق الاقتصاص من الفقراء. هؤلاء يدفعونه من رواتبهم وأجورهم، ويدفعون ما تبقى لشراء حاجيات غلت أسعارها بفعل التضخم. رفع الدعم عن المواد الضرورية يصيب هؤلاء أكثر من غيرهم، إذ لا تتأثر الطبقات العليا برفع الدعم عن مواد مثل الخبز، والفيول، والبنزين. الفقراء يدفعون خدمة الدين مرتين، بواسطة الضرائب والتضخم. وهذه حال كل البلدان العربية تقريباً. وهذا ما سمي في العقود الأخيرة عولمة. هي بكل بساطة رأسمالية مالية. أصحاب الرساميل أقل من 1% من سكان المعمورة. لهم اجتماع سنوي في دافوس يقرر السياسات العالمية المالية وخلافها. استعمار من نوع آخر. كثيراً ما يقال أن العولمة هجمة على سيادة الدول. هي في الحقيقة بحاجة للدول أكثر مما مضى. فهذه الدول وكلاء في تدجين شعوب البلدان المستدينة.
الخلاص من هذه الحالة في الدول الطرفية لا يكون إلا ببناء دول من نوع آخر. دول تمثل مجتمعاتها. تكون ديموقراطية من أساسها. لا تستدين إلا ما يلزم ولا تدفع إلا عند الضرورة، وبناء على حسابات تعرفها هي. مشكلة الدول المتلقية هي بناء الدولة التي تبني اقتصادات منتجة، ومجتمعات متماسكة. دول لا يبنيها خبراء الاقتصاد، فهم جميعاً تلامذة الغرب أو الجامعة المحلية التي تدرس ما يناسبه. دول تبني اقتصادات تكفي نفسها ولا تتكل على تسوّل الدين العام. يكون ذلك بالعمل والإنتاج بهدف موازنة الصادرات والواردات، وصولاً الى تفوّق الصادرات على الواردات. الهزيمة تكون عندما لا نفعل ذلك.
يجب تغيير الوعي السائد. وعينا مهزوم ليس فقط لأننا لا ننتصر في معارك ضد إسرائيل، أو ننتصر انتصارات جزئية، أو نحوّل الهزائم العسكرية الى انتصارات جزئية. الكرة الأرضية منقسمة الى دول. المقاومة المتاحة هي بناء دول تتمكن من مواجهة نظام عالمي لا يرحم، بل هو مستمر في نهب وسرقة موارد الدول المتلقية للدين. الجيوش والأساطيل التي تستخدمها دول الرأسمال المالي هي لحماية ديونها الورقية للبلدان الهامشية والتأكد أن المواد الأولية تتدفق من البلدان الطرفية الى حيث يحلو للرساميل المالية تصنيعها. حتى البلدان الطرفية، كبيرها وصغيرها، والتي تنعم باستضافة صناعات الغرب، المركز الرأسمالي، هي بلدان تشغّل عمالها تحت ظروف قاسية. ما يدخر منها يعاد استثماره في بلدان المركز عبر سندات خزينة. يكون عمل شعوب دول أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ومنها البلدان العربية، قد تحول الى حسابات ورقية في دول المركز. حسابات جرى استبدالها بسندات خزينة لا يمكن استرجاعها. في هذا العالم المعوّلم، هناك نظام رأسمالي مالي موحد. ثقافة عالمية موحدة. الدولة الطرفية المستقلة هي التي تجيد مسك الدفاتر عندها.
هي هوة ثقافية. أساس الهوة هو في الإنتاج. نقارع رساميل مالية كبرى، أو نخضع لها وتكون كارثة الدين العام. أو نواجهها بإنتاج ما يلزمنا أو نستطيع استبداله بالطرق التجارية بما نحتاجه ولا ننتجه. لا يستطيع بلد، مهما كبر أو صغر، أن ينتج كل ما يحتاج إليه.
في بلادنا العربية إهمال للزراعة. الغرب صادراته الأساسية زراعية. حتى البذور التي يصدرونها إلينا معدلة جينياً ولا تصلح إلا لموسم واحد، كي نعتمد على بذارهم المصدرة إلينا. أحياناً إستخدمت أنظمتنا الزراعية لصالح تصنيع سريع، وغالبا ما أدى ذلك الى كوارث. مئات بل آلاف القرى مهجورة إذ لم تعد زراعتها تكفي لسد الرمق بسبب ما يقتطع منها لصالح الصناعة. والصناعات عندنا في وضع كارثي. المجدي منها يشتريه الغرب. ما هو غير مجدٍ تدعمه الدولة باقتطاعات من الصناعة.
هزيمتنا المحلية هي في وعي ثقافي لا يفهم ولا يسعى الى تفهم النظام العالمي أو الرأسمالية المالية العالمية. نفشل في الإنتاج، وفي البناء الاقتصادي عامة، وفي بناء دولة الإنتاج، فنرتد الى الأصولية الدينية، إذ تمنحنا العودة الى أمجاد الماضي تعويضاً عن واقع مدان؛ أو الركون الى الله عله يصنع لنا معجزة. المعجزة نصنعها عن طريق بناء مجتمع متماسك قائم على الإنتاج. إنتاج الكفاية يحقق لنا الاستقلال ودولة السيادة.
قضية فلسطين شوّهت وعينا. اعتبرنا منذ عقود أننا ننتصر بالسلاح. وهو في معظمه كلاشينكوف وصاروخ. أهملنا قضايانا الداخلية الأساسية في كل قطر عربي. مارسنا الحروب الأهلية ضد بعضنا. ما زلنا نقرأ في كتاب أحمد الشقيري. كل من خالف ذلك يعتبر مارقاً أو هارباً أو متخاذلاً. قضية فلسطين لن تنتهي بالمفاوضات أو بسلاح متخلّف. السلاح الأساسي لمقاومة إسرائيل يكون بالمقاومة. المقاومة بالإنتاج بعد الإقرار بالهزيمة العسكرية. طريق المقاومة بالإنتاج سوف تتطلّب وقتاً طويلاً لا نعرف زمنه، لكنها الطريق الوحيد.
الوعي الاقتصادي يتطلّب تغييرات أساسية في وعينا وفي فهمنا للعالم. حتى التعليم لن ينجو إذا أردنا ولوج هذه الطريق.
المواجهة (المقاومة) للامبريالية الحالية، امبريالية المال واستباحة القوى العاملة في الأطراف، تتطلّب قبل كل شيء انخراط المجتمع في المواجهة بالاقتصاد والعمل والإنتاج. علينا أن نقر بالهزيمة العسكرية منذ ميسلون، الى حرب 1967، الى حرب العراق-الكويت، الى حرب اليمن، الى حرب العراق-إيران. في كل هذه الحروب لم نحارب العدو الإسرائيلي إلا مرات كان مدعوماً فيها من قوى الغرب العسكري. حاربنا أنفسنا أكثر. وخضنا حروباً أهلية ضارية خاصة بعد ميدان التحرير الذي امتد الى جميع الأقطار العربية كالنار في الهشيم. لن ننتصر بأسلحة نستوردها. هذه حروب دول تتطلّب قبل كل شيء بناء الدولة ومرتكزاتها الاقتصادية، بما فيها العسكرية. هذه حروب دول بعدما انتهت حروب التحرير الشعبية بانسحاب دول الاستعمار المباشر، وانسحاب جيوشها، لتبرز بعدها حروب المال والاقتصاد والدين العام على الدول الطرفية. بعد هزائمنا في الحروب العسكرية (الدونكيشوتية)، علينا أن نقرّ بهذه الهزائم، وأن نلج الطريق الطويل نسبياً. طريق البناء الاقتصادي والمواجهة الاقتصادية. تجارب دول أسيا الشرقية ماثلة أمامنا. جميعها انتقلت من حروب التحرير الشعبية الى الحروب الاقتصادية.
هي مواجهة سياسية تستخدم الاقتصاد لا الثقافة. مواجهة تتطلّب الأخذ بكل ما أنتجه الغرب من عمل وتكنولوجيا. هي نوع من الانفتاح الثقافي الضروري للأخذ بالعمل والتكنولوجيا. في الانفتاح الثقافي يكون ضرورياً تكييف ثقافتنا واعتبار أننا لسنا في مواجهة ثقافية مع الغرب. نأخذ من الغرب ثقافته، لكن الطبيعي والمحتوم أننا لن نأخذ من ثقافته إلا ما يلزمنا ولا يؤثر على ثقافتنا الموروثة. لا خوف على ثقافتنا. لسنا مضطرين لممارسة الدونية الثقافية. نخرج الى العالم نأخذ بالثقافة الغربية. من الطبيعي أننا لن ننتقي من ثقافتها إلا ما يتناسب مع ثقافتنا. هذه الثقافة التي لن يكتب لها البقاء دون إقبال على الثقافة الغربية التي أنتجت العلم الحديث والتكنولوجيا. ساهم الغرب في إحياء تراثنا. لا يريد من ثقافتنا إلا التأكد بأن أصحاب المذاهب يقاتلون بعضهم البعض في حروب أهلية. مواجهتنا لهم بالاقتصاد تعني أننا ولجنا فريق العمل والإنتاج. وهذا لن يقود إلا الى تماسك اجتماعي. نحتاج الى تعبئة اقتصادية لا عسكرية. لن نخرج من هزيمة تأخرنا وتخلفنا إلا بالاقتصاد والتقدم. هذا يتطلّب أول شيء أن نفهم الرأسمالية العالمية وآلياتها وأهدافها. اسرائيل سوف تهترئ حيث هي. مع تطبيع أو بدونه. ستبقى كياناً غير مقبول من الشعوب العربية. ولا حل لها إلا في الاندماج مع العرب.
لن يروق هذا الكلام لأصحاب البنادق وتقنيي الصواريخ. حتى لو انتصرنا عسكرياً، وهذا مستبعد، فإننا لن نعرف ماذا نفعل بما في أيدينا. المجتمع الاقتصادي يذيبهم. لن تكون هناك حرب ثقافات. نظرية هنتنجتون حول صراع الثقافات لن يكون لها مكان. لم تحدث حرب على أساس الثقافة بين الصين وأميركا. هناك مواجهة اقتصادية. لدينا إمكانيات كثيرة على دروب الاقتصاد والقليل على طريق الحرب. أرادها الغرب حرباً عسكرية بين الثقافات. نريدها حرباً اقتصادية بين الدول. أوهمونا أن العولمة قضت على الدول-الأمة. هذا غير صحيح. الدولة ضرورية لنا وللجميع. على دولنا أن تلج طريق الاقتصاد في سبيل المواجهة. أنظمتنا الاستبدادية ولجت طريق الحرب. وهذه هي المنطقة العربية تحترق بالحروب الأهلية. بالاقتصاد نختلف حول جدوى ما ننتج أو لا ننتج، لا حول أي مذهب ينتمي كل منا. بالاقتصاد نقضي على الذل الذي أحدثه الاستبداد.
بالطبع الأمر سياسي ويتطلّب حكومات وأنظمة تفهم العالم، وتفهم شعوبها، وتفهم كيف تتعامل مع الامبريالية؛ وهذا ليس بالأمر الصعب. الصعوبة أن نخرج من هذه الدونية. المعركة الثقافية نخوضها في الداخل من أجل التجديد الفكري. هي ضرورية لإزالة العفن الذي تكلّس حول أدمغتنا.
أما أي نظام نريد؟ فلقد نادت الثورة العربية عام 2011 بإسقاط الأنظمة. هذه الثورة سوف تتجدد. علينا أن نزودها بقراءة صحيحة حول النظام العالمي والمحلي. ولنتذكر أن الفرق بين التقدم والتأخّر ليس أكثر من خمسة عشر عاماً.
ينشرر بالتزامن مع موقع الفضل شلق