مفجع ان يطوي الوطن العربي وفي قلبه فلسطين صفحات نضالها المرير مع توأمه وتوأمها طلال سلمان (ابو احمد)، هو رتّب مواقيت حياته حتى الرمق الاخير، وبدأ يقرع باب الحياة بالموت الى أن مات يوم أمات روح روحه جريدة “السفير”، يومها قال الكثير وخلاصته “لم يعد من قضايا لندافع عنها لقد باعوا كل شيئ ورهاني الوحيد هو هذا الشعب العربي الذي لا بد انه سيخروج من النكبة الى فعل الحياة”.
خمسٌ وثمانون عاما بدأ خطواته الاولى من شمسطار وما توقف او استكان، ظل صاعدا صوتا وصدى، حتى صار محط انتظار الباحثين عن الحقيقة والجديد الذي ينبع من بحر الناس المتلهفين لمن يرشدهم ويوصل وجعهم المباشر، صار “صوت الذين لا صوت لهم”.
من اضرحة الاجداد والاهل الى رياض شهداء المقاومة الممتدة على مساحة “الوطن العربي في لبنان ولبنان في الوطن العربي”، ادخل الى وصفه من شفافية الحياة وضعفها وقلقها، زهوها واناقتها والمنى، افراحها والاحزان، سطحيتها والمفاجآت، استقطبها ابانا الصحفي الحنون ببراءته وحسن ظنه واناقته والجمال المعلى..
واما الضعف والقوة والرصانة والمثابرة والاعمال المخلدة المشبعة درسا وتمحيصا، والكلمة الحق والمواقف الجريئة والتطلعات البعيدة المدى والقرار، فمن صفات وطابع طلال، وهذا هو تراثنا الاصيل وثروتنا الضخمة التي لا تسقط ولا تضيع..
الى ماذا اذهب؟
ضعفنا اذا وراثي قديم، وكذلك قوتنا في قولة ومواقف الحق، وكلنا من ذرية الكرم والجود ومن مستوى الحياة الارفع بالكرامة، وهذا الارث الغالي والخطوط الحياتية الرفيعة والطاقات الخلاقة الهائلة، توارثناها عن الاباء والامهات والاجداد..
لذلك، كان صرح السفير المهيب، بعدما تحتم علينا في عصرنا القلق، وفي كل يوم من وجودنا الفاعل، ان نحذر التورط والضياع في منعطفات ومتاهات العالم المضطرب، حرصا على خط الحياة السليم، وبراً بالسلف الصالح المسمى طلال وبأبائنا الكرام وهو نواتهم.
والتزاما منا برسالتنا الانسانية الاصيلة، سنواصل يا طلال السفير، الحذر والنضال والاعمال الهادفة المنتجة على مستوى الحياة، وذلك تخليدا لذكراك العطرة ومواصلة لعطاء الحياة السليم في رحاب عالم لا يسلم ولا يزهو ولا يتطور ولا يحيا الا بنا..
أبا حمد، معك ما عدت شبحا، كما أسميتني، كوني أكتب مصحوبا بالغياب، جذورنا تلتصق بتراب الارض، وهاماتنا ترقى الى ما فوق السماوات، وابائنا ونحن البنون، خيط الحياة الرهيف القوي الذي يشدنا ابدا الى قلب الله. واننا والكلمة، مظهر الحياة وروحها والمنى. واما الحب، فهو طريقنا الى الله، ملء الحياة، يا من ملأت الحياة.
مشيناها معا خطى بتفاعل وتكامل وتجدد لا ينضب، ننتج ونطور صُعُدا وفي كل اتجاه، وكان رهيفا ما اردناه، تأصل بنا بعميق الجذور، لتصير “السفير” بسنواتها الاثني وأربعون عصية على الغياب، والمشوار يبدو طويلا ولن ينتهي باغماضة عيني طلال، وسقوط زمانه من التعداد الدنيوي ليلج ملكوت الرب بلا مواقيت وازمنة، فنحن قلبه وروحه وسرّ كل زمانه الى حيث ينتهي مدى العمر.
سمّوها “مغامرة” كون “السفير” ولدت في الزمن الصحفي الصعب جدا، لكنها تحولت الى وردة الحقيقة الناصعة في صحراء يكويها هجير الانحطاط وانقلاب الحقائق، صفتها الرصانة والاتزان، والثقة بما ينشر بين دفتيها في الصفحات، فتحولت الى انوار تهدي وتقي العثرات، منحازة الى القرار الحق، محصّنة بارادة ناشرها الذي صار عنفوانٌ على النور لا يقهر بالاستسلام.
ذخريتنا الوحيدة ،يا طلال، وسلاحنا الوحيد في درب حقيقتها القلم، نصنع الكلمة لنعمّر بها الحقيقة بلا زيادة او نقصان، ومجالنا رحاب المدى الموصل لكشف الغطاء عن كل ما يصوّب المسار، وحتى لا ينتهي المشوار بلا زاد وفير، لنربح الرهان ونتئد بعد اذ نتمهل لان المشوار طويل.
وعهد لبنان، الذي هو عهدك يا طلال، مع الكلمة قديم قدم الزمان وربما ابعد، وتوارثنا الكلمة ارثا غاليا وثروة فريدة وينبوع عطاء لا ينضب، لا يستباح، لا يغتصب ولا يقيّده زمان ومكان. انها كنز أليف وَفيّ وسلاحنا الامضى والعرش الذي نعتليه صونا للحقيقة.
ما اتمناه في مشوارنا المتبقي بعد ارتقائك الى ملكوت الرب، ان نظلّ ألق الكلمة والحب والجمال، والفيض الانساني الذي ينعش النفوس والقلوب، والارادة التي تحيي فينا التحدي والمثابرة من اجل ان يكبر مولود الامل لتصبح خطواته تُعد بالالاف ويؤرّخ للبنان المجد والكرامة والاستقلال الناجز.
انها رحلة في عمر.. ولغيرنا مساحة في هذه الرحلة التي اتذرّع ان تكون في العالم الاخر بلا نهاية.
جريدة الاخبار