القيادة علاقة بين فرد أو نخبة وبين جمهور من الناس. فيها ما يشبه الفن الذي كان يقول فيه المفكر الانجليزي، ألدوس هاكسلي، إن الذي يقوله الفنان هو ما يريد أن يقوله ويفكر به الآخرون دون أن يستطيع هؤلاء التعبير عنه، لسبب أو لآخر.
القيادة شأن سياسي يرتكز على الحوار والنقاش اللذين جوهرهما التسوية بين آراء مختلفة على أساس أن ما من أحد يمتلك الحقيقة المطلقة. إذ هناك في الواقع حقائق نسبية، يختلف فيها الناس، لكن مجموعها هو الحقيقة. ففيها اعتراف بحق الآخرين بالمشاركة وإلا كان الأمر استبداداً، يتولى فيه الزعيم إصدار الأوامر، من دون الأخذ بالاعتبار رأي الجماعة.
للمجتمع آراء وحاجات ومطالب يكون التداول بها والتسوية بين أطرافها المتعددة هو جوهر الشورى (وشاورهم بالتي هي أحسن)، وإلا يكون العنف بالرأي الواحد، ناهيك عن العنف الجسدي المادي، وهو ما يحدث عادة في بلدان يحكمها الاستبداد والتفرّد بالسلطة، وكأن المجتمع نتاج الزعيم، لا العكس هو الصحيح.
الناس ليسوا قطيعاً أو قطعاناً تُساق. فقد قال الشاعر الأموي:
أخليفة الرحمن إنا معشر.. حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا.. حق الزكاة منزلا تنزيلا
أليس عجيباً أن الفتوحات (الانتصارات) العربية الإسلامية حدثت في وقت كان أصحابها يقتتلون في حروب أهلية، كان يمكن أن تكون مُدمّرة لهم، لولا زخم المشاركة في الرأي، والممارسة المشتركة، برغم المنافسة والاحتراب. إذ كان كل طرف يسعى لأن يكون جزءاً من القضية ولو استبعد. في المشاركة والشورى، أو السعي اليومي، زخمٌ ما كان ممكناً أن يكون لولاهما.
لا تكون القيادة بالمكاذبة المتبادلة بين الزعيم والجمهور. إذ لا يستطيع القائد النفاذ الى أدمغة الناس ومصادرة تفكيرهم ولو كان عنده كل وسائل التخابر والمخابرات.
محاكم التفتيش التي شاعت في أوروبا في نهاية القرون الوسطى لم تستطع منع الناس من التفكير. الإنسان عميق الغور، والحرية كامنة في أعماق الوعي الذي يستعصي على الحاكم أو القائد مهما كانت قدرته.
الحرية هي الجوهر المكنون أو بتعبير آخر هي السليقة وطبيعة الإنسان. الاستبداد هو سعي القادة والسياسيين في مجتمعاتنا العربية إلى التفرّد وأخذ الرأي والقرار بمعزل عن الناس وحاجاتهم ومطالبهم.
يضطر الزعيم الى الكذب، وعندها لا يُفصح عن المكنون. ويضطر المجتمع الى الكذب وإظهار غير المضمر عندما يستهان به. ألا نستذكر ابن المقفع ومصيره إلى السجن المطبق، وموته عندما تحدّث مداورة في “كليلة ودمنة” بلسان الحيوانات؟
ما زال جمال عبد الناصر في وعي الناس برغم هزائمه في مواجهة الإمبريالية. رفض عبد الناصر مواجهة شعبه عند الانفصال وتدمير وحدة مصر وسوريا عام 1961، والذي يُعتبر أساساً لهزائم شعوبنا ومجتمعاتنا، في العقود اللاحقة، وحتى الآن. رفض الانفصال ولم ينجر الى مواجهة شعبه. لم أشهد في حياتي تظاهرة مفعمة بالحزن والأسى كما عند وفاته. لقد مشيتُ مع الناس من ساحة البرج إلى الطريق الجديدة، ورأيت كلاً منهم وكأنه قد فقد أخاً أو أباً محباً له.
القيادة الحقة تكون في التعبير عن مكنون الناس والتصرّف على أساس أن الزعيم أو القائد واحد منهم، لا يتصرّف بمعزل عنهم وكأنه خُلِق ولا بديل عنه. زهو القائد بنفسه يُدمّره ويُلحق أذى كبيراً بالجماعة.
في كل مجتمع لا بد من تعددية آراء ومصالح، ولا تكون الوحدة بينها إلا بالسياسة والتنازلات المتبادلة والتسويات المتراكمة التي اختصرها الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” بكلامه في المطلع عن القيادة بصفتها “حراسة الدين وسياسة الدنيا”، أي بما نُفسّره في عصرنا الراهن أنه الاعتراف بحق الناس بالإيمان ما شاء الله لهم منه، لكن السياسة هي الإعتراف بالآخرين وضرورة اختلافهم.
أحصيتُ ما ورد في أحد أجزاء كتاب الطبري عن اختلاف الفقهاء، فوجدت الاتفاق بينهم على ثلث المسائل فقط. لا عيب في الاختلاف. العيب والأذى هما عندما لا يعترف القائد بهما، فيقوده ذلك إلى التفرّد والتسلّط.