هل يحق لعربي من خارج مصر أن يبدي بعض الملاحظات حول معركة الرئاسة وموقعها من مجريات الأحداث في المنطقة، أم أن ذلك سيكون تطفلاً وتدخلاً غير محمود في الشؤون الداخلية لبلد آخر؟
فاليوم تتبدى الانتخابات الرئاسية في مصر وكأنها معركة بين الورثة من أهل النظام وخصومهم، أكثر منها حصيلة ثورة شعبية غير مسبوقة في الأرض العربية، ولعلها فريدة في بابها دولياً.. بل انها تتبدى في بعض وجوهها هزلية مع ان دلالاتها مأساوية!
لكأن «الرئيس» الذي حكم مصر ثلاثين عاماً فتحكم بحياة المصريين، وبالقرار العربي إلى حد كبير، قد حضرته الوفاة، فجأة، فتتقافز أركان نظامه وبعض أصدقائه أو حلفاء الضرورة، إلى حومة معركة الوراثة، أو من موقع الوكيل أو حتى من موقع الخصم الذي دفع الضريبة سجناً أو اعتقالاً أو إبعاداً فاستحق المكافأة تعويضاً عما فاته… علماً أنه نال في حياة المورث حصة أو بعض حصة، بحسب سلوكه وصدق ولائه.
لم يحصل في أي ثورة شعبية في التاريخ أن تجرأ «نائب الرئيس» المخلوع «وذراعه اليمين» على ترشيح نفسه بديلاً، باسم الثورة التي خلعت ولي نعمته وفتحت أبواب الأمل بتغيير النظام الدكتاتوري جميعاً.
ولم يحدث أن ارتكبت بحق ثورة نهض بها شباب الميدان، مقدمين للعالم نموذجاً راقياً للفعل بإرادة التغيير، جريمة في خطورة أن يهزمها «الشيوخ» وأن يصادرها أهل النظام الذي تحركوا لإسقاطه وتوهموا أنهم قد نجحوا في مهمتهم… قبل أن ينتبهوا من غفلتهم ليكتشفوا أن «النظام» قد افتدى نفسه برأسه محاولاً الاستمرار في السلطة الجديدة عبر بعض أهله أو بعض خصومه الأصدقاء إما بذريعة أنهم كانوا مغلوبين على أمرهم ولم يستطيعوا أن يمارسوا حق الاعتراض من موقع المرؤوس، وإما لأن بعضهم ممن اعترض قد دفع الثمن إبعاداً بعد تقريب، ومن حقه الآن أن يأخذ الفرصة لبرنامجه الكامل الذي لم يمكن من عرضه على الناس من قبل.
هي مفارقة حقاً ألا تجد ثورة نهض بها الشباب مرشحاً للرئاسة تحت السبعين عاماً، بينها ثلاثون سنة أمضاها في خدمة النظام الذي ثار الملايين لإسقاطه، أو في المراوحة بين الاعتراض وبين نفاق السلطان حتى تمكن فقدم نفسه بديلاً.
وإنها لمفارقة عظمى أن ينهض الشباب للثورة، وأن يحتشدوا في الميدان ويظلوا فيه حتى سقوط رأس النظام، ثم يصادر الميدان من لم يكونوا فيه، وأن يختصروا المطالب في إحالة ذلك «الرأس» إلى التقاعد المريح، تمهيداً لوراثته.
لقد بات الميدان خارج حلبة الصراع من أجل التغيير ومداه وجذريته… بل إن معظم المرشحين للرئاسة كانوا خارج الميدان، وبعضهم كان ضده، وبعض آخر تمشى إلى الميدان ليأخذ صورة تذكارية، أو جاء متفرجاً وممتحناً تماسكه من حول خطة محددة ترسم الطريق إلى المستقبل، أو تربص خارجه متواطئاً مع المجلس العسكري على تقاسم «التركة».
لم يكن الإسلام السياسي مقموعاً إلى حد المطالبة بالرئاسات جميعاً تعويضاً له عن الاضطهاد، بل إن النظام لم يمانع – وأكثر من مرة – في تقديم الرشى لبعض رموزه.
كان «الشعب» هو المقموع دائماً بأنظمة الطغيان، في مصر كما في تونس وفي ليبيا كما في سوريا وفي اليمن كما في الجزائر.
هذا لا يعني أن «الشعب» في الممالك كان يعيش الديموقراطية على أصولها… لكن الذهب قادر على طمس الواقع، ولو إلى حين، وإشغال الرعايا في الممالك والمشيخات المحمية بنفطها والغاز، – بل وإرهابهم – بنتائج ِ«الثورات» بوصفها مدمرة للدول والأوطان وممزقة لوحدة الشعوب.
لقد نجح أصحاب الذهب في تعزيز موقع رافعي الشعار الديني في وجه «الرعاع» من الشبان المتحمسين، وساهموا في إقناع واشنطن بدعم الإسلاميين الذين تابوا – بعد غزوة نيويورك – عن فعل الثورة والتغيير الجذري ونزلوا إلى ارض الواقع، بدليل أن أحداً لم يرفع صوته بكلمة فلسطين، وأحداً لم يطالب بإلغاء معاهدة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي… بل إن هؤلاء قد امتنعوا جميعاً عن الاعتراض، ولو لفظياً، على إقدام بعض المسيحيين في مصر على خرق الحُرم الذي أعلنه الراحل العظيم البابا شنوده على من يزور القدس طالما استمر الاحتلال الإسرائيلي لها.
هل من الضروري التذكير بأن أغنى الممالك العربية تنسب «الشعب» إلى العائلة الحاكمة، فتلغي وجوده المستقل بذاته، القائم من قبلها والباقي بعدها…. فكيف يمكن أن تقبل ادّعاءاتها عن حقوق الشعوب خارج حدودها، وعن الديموقراطية وهي تشطب نصف «الشعب» سلفاً بتصنيفهم حريماً، ثم تعطي من تبقى حق العيش كرعايا في ظلالها الوارفة؟
ويقال: هذه هي حال الثورات، يقوم بها المجانين ويجني ثمارها الانتهازيون،… ثم يتم الاستشهاد بالوقائع للتدليل على صحة هذه المقولة: فالشباب هم من تحركوا إلى الميدان، وهم من ثبتوا فيه يتصدون بصدورهم الرصاص، ثم تقدم محترفو السياسة وأصحاب الخبرة والتجربة ونهازو الفرص ليقطفوا الثمار.
لكأن أبناء النظام يرثون طاغيته، حتى ليبدو التساؤل شرعياً: ما الفرق بين جمال مبارك وأي من المرشحين المحتملين، مع فائق الاحترام للشعار الديني، الذي يسر لهم التحولات التي عبروها سالمين متقدمين نحو… الرئاسة، فكلهم أبناء النظام، عملياً، بعضهم شرعيون والبعض الآخر بالتبني، إذا كان الحكم سيتركز على جوهر السياسات التي يرفعون شعاراتها؟
هل يستطيع الإسلاميون التنصل من أنهم أضفوا شيئاً من الشرعية على نظام حسني مبارك، عبر مشاركتهم – ولو جزئياً والى حين – في انتخاباته المزورة، وقد رأوا بعد ذلك أنهم سرعان ما دفعوا ثمن تلك المشاركة غالياً؟
ما من شك في أن الإسلاميين قد نالوا شيئاً من الاضطهاد، في بعض الفترات، وخارج سياق التعاون بالقطعة الذي حكم علاقتهم بالنظام.. ولكن الحقيقة أن الشعب عامة قد عانى من اضطهاد النظام، ولم يكن الإسلاميون وحدهم من اضطهدوا في عهود الطغاة، سواء في مصر أم في تونس أم في ليبيا أم حتى في سوريا.
ثم أن الإسلاميين في مصر، تحديداً، لم يرغبوا في تطمين الشعب المصري، والعرب الذين طالما نظروا إلى مصر بأنها قلعتهم ورائدة نضالهم من اجل التحرر والتقدم، بل لعلهم قد طمأنوا عدوهم – مجتمعين – إسرائيل، فصدرت عن بعض قياداتهم تصريحات، وقيل إن بعضهم قدم في واشنطن ولها، ضمانات بعدم التعرض لمعاهدة الصلح المنفرد ولكل موجباتها، بما في ذلك إمداد إسرائيل بالنفط والغاز، (ولننسَ أن غزة تكاد تعيش بلا كهرباء وماء تأديباً لأهلها وتخييراً للسلطة فيها بين الثورة وبين الحكم بالشروط الإسرائيلية).
في السياق ذاته، وبمعزل عن الاستغراب الشامل لتجرؤ عمر سليمان على ترشيح نفسه لرئاسة مصر- الثورة، فإن الأدعى بالاستهجان أن هذا الذي اختاره حسني مبارك نائباً له، في محاولة لرشوة الثوار وإيهامهم بأنه قد تنازل عن تفرده بالسلطة، لم يسع إلى «تبرير» علاقاته الحميمة بقادة الكيان الإسرائيلي، الذين لم يكفوا عن امتداح «تهذيبه» و«إخلاصه لأصدقائه».
الطريف أن هذه العلاقة (ولو وظيفية) مع العدو الإسرائيلي لم تكن بين بنود حملة التشهير التي شنها الإسلاميون عليه، ربما لأنه محظر عليهم الحديث في هذا الموضوع الحساس، فالعلاقة مع إسرائيل خارج البرنامج الانتخابي لهؤلاء جميعاً… والكل حريص على الحديث عنها والتعامل معها وكأنها دولة طبيعية، ليس بينها وبين شعب مصر سلسلة من الحروب التي دفع فيها الشعب المصري عشرات الآلاف من شبابه والكثير من قدراته التي كان يحتاجها لبناء غده الأفضل.
هي الثورة… وغالباً ما تتعرض للسرقة.
والمهم أن يبقى الميدان لأهله، فلا يصادره الذين اختطفوا السلطة باسم الثورة بينما الشباب يفتقدون تنظيماً يحمي ثورتهم.
.. أو حتى لا يتقاسم «الورثة» من أبناء النظام «العهد الجديد» باسم الثورة!
… مع الاعتذار عن هذا التطفل يصدر عن عربي من خارج مصر، ولكنه يرى في ثورة مصر أمله في غدٍ أفضل، مثله مثل إخوانه المصريين.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية