من حق شباب ثورة مصر ان يعتزوا بإنجازهم التاريخي الذي أعاد إليهم بلادهم وأعادهم إليها بعد افتراق بل تفريق قسري استطال أكثر مما يجوز، فجعلها تتبدى على صورة حاكمها وبلاطه الطاغية: عجوزاً من عصر آخر تتخلف عن دنياها بالأمر وقهر الفقر، فيستقوي عليها عدوها، خصوصاً وقد هجرت أهلها وهجروها فإذا الكل في التيه.
وكنا، نحن العرب خارج مصر، نتابع المشهد الباهر بدموع الفرح ودهشة من يرى أحلامه تنبلج صبحاً جديداً مع ذلك الطوفان من فتية مصر الأبرار وهم يتقدمون لصنع زمانهم بإرادتهم وقد تحرروا من الخوف ومن تهيب القدرات غير المحدودة للدولة التي لم تعد دولتهم وإن ظلت تمسك بمقدرات بلادهم جميعاً من الرغيف الى الوظيفة، ومن ممتلكاتها الهائلة التي أباحتها للسماسرة والنخاسين والمرتشين وأمراء الصفقات المشبوهة، الى قوة البطش التي تطاردهم حتى وهم مشردون في أربع رياح الدنيا طلباً للرزق ولو مغموساً بذل الحاجة.
ومن حقي، كمواطن عربي من خارج مصر، ان افرح بهذا الانتصار العظيم الذي حققه شباب الثورة في «الميدان» الذي اتسع للأمة جميعاً، على امتداد الأيام الثمانية عشر المجيدة، وان أرى لنفسي نصيباً فيه، إذ انه يفتح أمامي في كل هذه الدنيا العربية الفسيحة التي فقد أهلها قرارهم أبواب الأمل بعودة الروح إليها مع عودة مصر الى ذاتها والى دورها وقد باشرت تحرير إرادتها التي كانت رهينة لدى المهيمن الأجنبي والعدو الإسرائيلي.
فمن أحكام التاريخ وحقائق الجغرافيا ان حضور مصر يجعل من العرب أمة تمتلك القدرة على الفعل، وان غيابها يُخرجهم من التاريخ بينما يعيد «الخارج» رسم جغرافيتها بما يجعل قرار الحياة والتقدم في أيدي أعداء غدها.
لقد عاش العرب معظم القرن الماضي يتفيأ ظلال مصر: هي «دولتهم»، بين روادهم في طلب الاستقلال «سعد زغلول»، وبين صناع وجدانهم «سيد درويش»، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وبين محطات نضالهم الوطني «ثورة 1936» التي كانت لها تردداتها في فلسطين وسوريا ولبنان، وبين مصادر إشعاعهم احمد شوقي وطه حسين وتوفيق الحكيم… حتى اذا فجرت الهزيمة في فلسطين ثورة 23 يوليو- تموز 1952 اتخذها العرب قيادة للأمة، فواكبوها تحت راية جمال عبد الناصر، وهي تزخم إرادة التحرر في ديارهم جميعاً ثم تمدها الى أفريقيا وبعض آسيا وبعض أميركا اللاتينية.
وبرغم الغفلة التي تسببت في هزيمة 1967 فقد عادت مصر الى وعيها سريعاً، واندفعت، مرة أخرى الى الميدان عبر حرب الاستنزاف التي مهدت للانتصار في العبور المجيد – 1973-، مستبقية لذاتها شرف القيادة حتى سقط منها مع خروجها (أو إخراجها) من دورها بمعاهدة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي تحت الرعاية الأميركية.
[[[[[[
ذلك حديث آخر جلاب هموم، فلنعد الى ثورة شباب مصر والآمال العراض المعلقة عليها في إعادة مصر الى موقعها الطبيعي والى دورها الرائد عربياً.
لقد افتقد العرب مصر، كما افتقدها شعبها طوال الأربعين سنة الماضية..
كان وعد الأب العربي لأبنائه ان يكافئهم على النجاح بأن يصحبهم الى مصر ليتعرفوا الى منبع الحضارات في آثارها الباقية كما في متاحفها ومكتباتها ودور الثقافة والأدب والفن الأصيل فيها وليقرأوا في سيرة نيلها العظيم جبروت الإرادة الوطنية في السد العالي وفي استعادة قناة السويس لمن حفرها بدماء شبابه.
وكانت شهر عسل العروسين في قاهرة المعز، بقدر ما كانت جامعة القاهرة، ثم جامعة عين شمس وما استولد بعدها من جامعات منبر التخرّج لأجيال وأجيال من الشباب العربي الذي جاء الى مصر بوصفها دار العلوم وبيت الفنون… أما من تعذر عليه الوصول الى القاهرة فقد يسّرت له الجامعة العربية في بيروت، وهي الفرع من جامعة الإسكندرية ان يتخرّج منها طبيباً او مهندساً او عالماً مطلاً على آفاق عصر التكنولوجيا الحديثة.
ثم دار الزمان الأميركي الإسرائيلي بالعرب، ومصر حاضرتهم، دورة كاملة، فإذا بالقاهرة تنسحب تدريجياً من موقعها الممتاز كعاصمة للقرار العربي، ترطن حكومتها بلغة ليس فيها روح الشعب المصري، وتنحاز الى من كانوا في صفوف الأعداء لمصر ودورها، وتنصرهم على المناضلين لتحرير أوطانهم واستعادة مقدراتها من أيدي من غصبوها فرهنوا إرادتها للخارج.
سنة بعد سنة أخذت القاهرة تخسر روحها فيشحب دورها، وتغيب عن وجوه أبنائها الابتسامة وتتضاءل روح الظرف والفكاهة تحت وطأة أثقال الهموم، ويبادرك أصدقاؤك بالسؤال عن مهجر يقبلهم ولو في مواقع تهان فيها كفاءاتهم، لان الحالة في الداخل لم تعد تطاق..
خرجت مصر من العرب فتوالى خروج العرب من عروبتهم الى عراء المهانة. صارت بلادهم لغيرهم يقرر لها مصيرها فيستعدي بعضها على البعض الآخر الى حد الحرب.
لم تعد أي دولة عربية في مكانها، بعد خروج مصر، ولم يعد للدول العربية مجتمعة القيمة والدور والمكانة التي كانت لها. وصارت القمم تعقد بأمر الاميركي او تعطل به، وصارت إسرائيل مركز القرار في الشأن العربي جميعاً.
وخرجت مصر من مصر، فإذا رئيسها العجوز يهرب من هموم شعبه ومن مسؤولياته الى منتجعه في شرم الشيخ، التي باتت أشبه بشرفة إسرائيلية، وإذا الدولة منهبة للصوص الكبار المتسترين بصفة «رجال الأعمال» والذين عرفوا الطريق الى الثروة عبر الذرية المباركة، وإذا الفساد يمتد من المطار الى المطار مغرقاً في مستنقعه رجال الأمن وأهل الإدارة.
ضاقت مصر بأهلها العرب البسطاء الذين أحبوها لذاتها فلم يطلبوا منها وفيها الا ان تكون مفخرتهم، ودار قرارهم السياسي المستقل، وأمل مستقبلهم في حياة تليق بكرامة الإنسان.
ضاقت مصر بقضايا العرب، فانصرفت عنهم بعدما ادعى حكم الطغيان أنها سبب بؤس المصريين وسبب انكسارهم، وذهب الى أمراء النفط الذين استكبروا عليه بوهج ثرواتهم والرعاية الخاصة التي يحظون بها لدى السيد الاميركي… ثم تغطوا به وهم ينحرفون في اتجاه الصلح مع العدو الإسرائيلي، بذريعة انه لا يجوز التخلي عن مصر، كأنما نصرة قضية فلسطين وحقوق شعبها فيها تسيء الى مكانة مصر والى كرامة المصريين الذين أعطوا فلسطين – من دمائهم – أكثر مما أعطاها أهل النفط مجتمعين من مالهم.
[[[[[[
ها هم فتية مصر يصنعون بإرادتهم الثورة ويستعيدون وطنهم.
انه «العيد» في الدنيا العربية جميعاً. انه الوعد بفجر جديد يسقط ليل الطغيان الطويل السائد منذ دهر في الوطن العربي بمشرقه ومغربه جميعاً.
ان هؤلاء الفتية الأبرار قد أعادوا الى مصر روحها، وأعادوا العرب «دولتهم» وأعادوا إليهم الإحساس بأنهم مواطنون لا رعايا، والى أنهم أصحاب القرار في كل ما يتصل ببلادهم ودورها في هذا العالم.
ان الفتية الذين استولدوا الفجر بثورة مصر لا يقدّرون حجم المعجزة التي اصطنعوها بمواجهة الطغيان حتى إسقاطه، وتداعياتها الهائلة على العالم العربي من أقصى مغربه الى أدنى مشرقه: لقد أعادوا خلق «المواطن» في الدنيا العربية الفسيحة.
لقد قدّموا النموذج الفذ للشباب العربي: احضر معززاً بكرامتك وعلمك، بكفاءتك وإرادتك، بتضامنك ووعيك، بإيمانك بحقك ووطنك، فإذا الجيش جيشك لا جيش الطاغية، وإذا القرار قرارك لا قرار العواصم البعيدة، ولا – بالتأكيد – قرار إسرائيل.
لقد نبّهوا كل فرد الى حقه بان يكون مواطناً لا رعية من رعايا السلطان.. فالوطن وطنهم، دولته دولتهم وليست منحة من حاكمها، وحقوقهم فيها ثابتة مؤكدة. يطلبونها ويأخذونها باعتزاز، بدلاً من أن تذلهم الرشوة وتلحق بهم إهانة مد اليد الى الآخر بذلّ المحتاج.
وسيمضي بعض الوقت قبل ان يتنبه هؤلاء الفتية الذين حققوا الإنجاز التاريخي بإعادة مصر الى ذاتها والى دورها الريادي المفتقد، الى خطورة التداعيات التي تتوالد الآن من ارتدادات حركتهم المباركة على الشعوب في الأقطار العربية وعلى أنظمة الحكم وقوى النفوذ فيها.
لقد فتح هؤلاء الفتية باب الغد العربي أمام الشعوب المقهورة بأنظمة القمع في دنياهم الواسعة.
ان أهل النظام العربي الذين يتحكمون بشعوبهم منذ عقود قد اندفعوا يقدمون «التنازلات» ويتعهدون بإسقاط نظريات حقهم في ان يحكموا حتى تجيئهم المنية فيورثوا من بعدهم الأبناء او الأحفاد او الأصهار وسائر ذوي القربى وكأن البلاد من أملاكهم الخاصة ولهم حق التصرف فيها كما يشاءون.
… وها هي مصر تتقدم ـ وسط المخاطر ـ لتستعيد مكانتها التي ضيّعها حكم الطغيان الجبار على شعبه المتنازل أمام عدوه وأمام المهيمن الاميركي الذي سرعان ما تخلى عنه واندفع الى نفاق شعبه «متبنياً « ثورته، مظهراً التعاطف مع أهداف ثورته لأجل احتوائها، وحتى لا تأخذ مصر الى الموقع الذي يستحقه شعبها في دائرة القرار.
ومع الوعي بخطورة المهمة التي انتدب شباب ثورة مصر أنفسهم لأدائها فإن الثقة مؤكدة بهذا الجيل المتنوّر والمطل على العصر وأسباب التقدم.
لقد تصدّى لمهمة نبيلة: ان يعيد بناء مصر، واعياً ان كل شيء خُرّب او مُخرَّب فيها، من الإدارة الى الاقتصاد ومن الأمن الى الحياة السياسية، ومن النفوس والذمم الى التعليم… قبل ان نصل الى قيود معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي، والى الشروط المذلة للمساعدات الاميركية.
ها هي الأهداف تتحقق تدريجياً..
وبديهي ان يستمر شباب الثورة ساهرين على تنفيذ أهدافهم حتى لا يتم التحايل عليها بالتجزئة او بتطويل أمد التنفيذ لكي يدب اليأس في النفوس فيقرع جرس الانصراف للثوار.
إنها الثورة المؤهلة لإعادة صياغة المستقبل العربي جميعاً.
وبهذا الحق سمحت لنفسي بكتابة هذه التحية لأبطال ثورة مصر، التي هي «دولة» العرب جميعاً وعنوان غدهم الموعود.
([) تنشر مع جريدة «الشروق» المصرية