تكشفت حقيقة حال البؤس السياسي، عربياً، من خلال الوقائع التي شهدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عند تقدم السلطة الفلسطينية بطلبها للاعتراف بدولة فلسطين كعضو كامل الأهلية في المنظمة الدولية.
كان أهل النظام العربي منقسمين على أنفسهم، متخاصمين، بعضهم خائف من البعض الآخر، يتهمه بالتآمر عليه، والمجموع بلا قدرة على التأثير.
صحيح ان المطلب الفلسطيني قد نال الكثير من التصفيق، لكن أصحاب القرار كانوا يعملون لمنع تمرير قرار الاعتراف «بالدولة» الجديدة في مجلس الأمن، فيضغطون على بعض الدول الفقيرة و«يأمرون» بعض الدول الصغيرة بسحب تأييدها حتى لا تكون لفلسطين «دولة» بلا أية قدرات وبلا ضمانات لحياتها، ولا تدخل نادي الدول من البوابة ذاتها التي دخلت منها إسرائيل، حتى من قبل ان يستقر «كيانها» السياسي فوق الأرض التي احتلتها من فلسطين قبل ستين عاماً.
هل من الضروري التذكير بان مصر كانت حاضنة منظمة التحرير الوطني الفلسطيني في العام 1964، وأنها ظلت الراعية لنضال الشعب الفلسطيني حتى ضاعت عن دورها وهويتها بعد كمب ديفيد؟
هذا في البعيد، اما في الداخل العربي، فقد توالت، هذا الأسبوع، وفي مواعيد متقاربة، ذكريات لمّا تندثر عن أحداث جرت في الماضي، ولكنها ما تزال تفعل في الحاضر وتؤثر في المستقبل، ويمكن التوقف أمام ثلاث منها على وجه التحديد:
الأولى ـ ذكرى الانفصال الذي أنهى العمر القصير لأول تجربة وحدوية في الوطن العربي، ممثلة بالجمهورية العربية المتحدة التي قامت تحت قيادة جمال عبد الناصر نتيجة اندماج مصر وسوريا في دولة واحدة، شكلت سابقة في التاريخ العربي الحديث، ولم يقيض لها أن تعيش طويلاً ولأسباب متعددة (بين 22/2/1958 و 28/9/1961).
الثانية – ذكرى تفجر اليمن بثورتها الشعبية التي جاءت من خارج التوقع في 26 ايلول سبتمبر 1962، وقد قادها ضباط من الجيش لإخراج تلك البلاد التي كانت خارج الذاكرة من عزلتها عن العصر، التي كان يرعاها الإمام احمد حميد الدين الذي اسلم الروح بعد انتفاضات عدة لخلعه تاركاً خلافته في عهدة ابنه الإمام البدر.
الثالثة – وفاة الرئيس جمال عبد الناصر التي جاءت مباغتة، ومن خارج التوقع، فأحدثت ما يشبه الزلزال في الوطن العربي. بل إن تداعيات هذا الرحيل المفاجئ قد امتدت الى العالم جميعاً، بشرقه وغربه، وإن كانت دول عدم الانحياز في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية الأعظم إحساسا بفاجعة غياب «القائد» في لحظة تشتد الحاجة اليه.. من غير ان ننسى التأثير المأساوي المباشر الذي أصاب قضية فلسطين، خصوصاً أن الازمة الصحية التي أودت بحياة الرجل الذي كان بمثابة المرجعية العربية العليا، قد جاءته وهو بالكاد قد نجح في إيقاف المذبحة في الأردن التي تولدها الصراع المرير بين السلطة الملكية والثورة الفلسطينية التي رأى فيها العرش الهاشمي تهديداً لوجوده، بقدر ما رأت فيها إسرائيل إنذاراً بنجاح الكفاح المسلح في نقل الصراع العربي ـ الإسرائيلي الى مستوى جديد يشكل خطراً على وجودها.
والحق ان هذه المحطات الثلاث لمّا تصبح من الماضي، فما تزال تفعل في حاضرنا وتؤثر في مستقبلنا، وها هي تداعياتها تتوالى فتؤثر في مسيرة الأحداث وتكاد تصوغ اخبار يومنا وغدنا.
[ فأما اليمن الذي كان سعيداً في ماضيه البعيد، فإنه يعيش اليوم أزمة دموية عنوانها الصراع على السلطة التي يتمسك بها الرئيس علي عبد الله صالح وهو الذي أخذها بانقلاب عسكري، جاء في أعقاب انقلاب ثان على انقلاب أول، خصوصاً بعدما دفع بعض دمه ثمناً لها في محاولة لاغتياله قبل مئة يوم، او يزيد، بينما كان يؤدي الصلاة في مسجد الرئاسة في صنعاء، ومعه أركان دولته.
والصراع على السلطة في اليمن مفتوح وهو مؤهل لاستدراج دول جواره جميعاً الى الدخول فيه، خصوصاً انه قد تورط في «تحالف» غير سوي مع الإدارة الاميركية، واندفع أبعد مما تحتمله اليمن الى علاقات غير متكافئة مع السعودية بحيث باتت المملكة ـ ومعها مجلس التعاون الخليجي ـ ترى نفسها معنية بأمر انتقال السلطة (ديموقراطياً) في بيئة عشائرية مسلحة بتراث من الصراعات الدموية التي طالما لعبت فيها الجارة الغنية ادواراً غير بريئة من الغرض… لأن مؤسسها علّم أبناءها «أن خيركم وشركم انما يجيئكم من اليمن، فتنبهوا منها واحذروها».
ومن طرائف زماننا ان يُنصّب مجلس التعاون الخليجي نفسه وصياً على الديموقراطية وعملية الانتقال السلمي للسلطة في اليمن، وكل أنظمته ملكية وراثية، و«دوله» التي لا يطمس غنى مواردها النفطية حقائق تركيبتها السكانية المهجنة، لمّا تتعرف بعد الى الانتخابات ولا هي تقر بمبدأ تداول السلطة، الا داخل الأسرة بل وفي داخل بيت الملك ذاته.
لكن هذا لا يعني بأي حال ان تمسك علي عبد الله صالح بالسلطة، هو توكيد لإيمانه بالديموقراطية وبالانتقال السلمي للسلطة، او بحرصه على إبعاد بلاده عن حافة الحرب الأهلية التي تتبدى نذرها دموية في شوارع صنعاء وتعز وعدن وأبين… وإن كان دهاؤه قد أوصله الى تعظيم خطر القاعدة للتلطي وراءه، ومطالبة الإدارة الاميركية بحمايته باعتباره مقاتلاً ممتازاً ضد الإرهاب.
هل من الضروري التذكير بأنه لولا مصر لما انتصرت ثورة ولما قامت في اليمن دولة أسهمت في تبديل مسيرة التاريخ في تلك المنطقة التي يحرص حكامها على إبقائها في العتمة، بعيداً عن العصر وأسباب التغيير؟
ومفهوم ان للتغيير في اليمن تداعيات غير محدودة على مجمل الأوضاع في منطقة الجزيرة والخليج، خصوصاً اذا اما انتبهنا الى ان تحرك المعارضة الشعبية قد أدى الى تدخل عسكري تمثل بإيفاد قوات درع الجزيرة الى البحرين لقمع انتفاضتها بعد اتهامها أنها من صنع ايران…
ومن باب إنعاش الذاكرة فحسب، تمكن الإشارة الى ان أهل البحرين بأكثريتهم الشيعية ومعهم إخوانهم (السنة) قد رفضوا في العام 1971 وفي استفتاء نظمته الأمم المتحدة، الانضمام الى إيران الشاه محمد رضا بهلوي، متمسكين بعروبتهم وباستقلالهم، متجاوزين موقفهم المعارض للقمع المنهجي الذي كان يعتمده نظام الأسرة الحاكمة فيها، والذي رأى ان منصب «الأمير» قليل عليه فأعلن نفسه ملكاً على الجزيرة التي «تستضيف» القيادة العسكرية الاميركية في منطقة المحيط الهادئ.
تجدر الإشارة هنا الى ان شعب البحرين يضم طليعة النخب الثقافية في الخليج العربي… فهي عرفت المدارس قبل عشرات السنين، وأوائل المتعلمين في تلك المنطقة هم من متخرجي جامعة القاهرة، ثم ان مصر بادرت، ومنذ زمن بعيد، الى إيفاد بعثات تعليمية الى هذه الجزيرة ذات الدور المميز في التاريخ العربي، ولا سيما مع انطلاق الدعوة الإسلامية.
[ أما الذكرى الثانية، الانفصال، فتتزامن مع تدهور الأوضاع في سوريا، معيدة الى الأذهان صورة هذه الدولة العربية ـ المفتاح في منطقتها والتي عاشت في ماضيها حالة من الاضطراب والقلق المصيري، مما دفعها الى الاستنجاد بمصر عبد الناصر في طلب الوحدة حتى الاندماج معها في دولة واحدة (الجمهورية العربية المتحدة) لم يقيض لها ان تعيش الا ثلاث سنوات وسبعة شهور ثم انطفأت مخلفة بعدها مرارات وخيبات أمل ما زالت تؤثر في حاضرها بل وفي الحاضر العربي جميعاً.
ومع الاعتراف بأن النظام القائم في سوريا قد أساء تقدير حركة الاعتراض على جموده وتخلفه ومجافاته لروح العصر وضرورة التجديد والتحديث، لطمس خطيئة التوريث، كما من اجل حماية موقع سوريا ودورها المميز في محيطها، وهي التي كانت ـ ولفترة طويلة – مفتاح المنطقة جميعاً والمثال في استقرار أوضاعها، إلا انه لا بد من الإشارة الى ان في صفوف المعارضات التي تتوالد تنظيماتها في «المهاجر» كالفطر، مَن هويته ملتبسة، فضلاً عن بعض المشبوهين بارتباطاتهم الخارجية… ثم ان الحملات الاميركية على النظام، الذي كان حتى الأمس القريب موضع العناية والرعاية في فرنسا خصوصا وفي أوروبا عموماً، قد تجاوزت المألوف وحركت هواجس كانت نائمة حول حقيقة الموقف الغربي من «الربيع العربي» الذي اتخذت صورته أبعادها الكاملة مع الدور القيادي للحلف الأطلسي في «ثورة ليبيا»، وتوزيع ثروتها النفطية على أقطابه الأوروبية جميعاً… مع حفظ حصة لتركيا التي نجحت حكومتها في إتمام زواج خارج على الطبيعة بين إسلامها العصري وارتباطاتها الأطلسية التي جعلتها تقبل مطالب رفضتها دول أوروبية عديدة لإقامة رادار الإنذار النووي فيها.
المهم ان سوريا الآن تعيش حالة جدية من القلق على المصير بين قصور الإصلاح الذي اقر نظامها بضرورته ثم لم يمض فيه الى حيث تملي الضرورة، وبين الضغوط الخارجية التي لا يمكن فصلها عما يدبر للمنطقة العربية عموماً من عمليات احتواء سياسي وهيمنة اقتصادية على مصادر الثروة، وكل ذلك يأخذ الى مشاريع تقسيم تذكر بما جرى للوطن العربي قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى… وأبرزها وأخطرها معاهدة سايكس بيكو التي قسمت المشرق بين احتلالين: بريطاني لفلسطين والأردن الذي ابتدعت إمارته لتكون فاصلاً في المستقبل، والعراق الذي تم تركيبه اصطناعياً… وفرنسي شمل سوريا التي حاول تقسيمها دولاً طائفية، فضلاً عن لبنان الذي أعيدت صياغة كيانه بمبررات طائفية، ما زالت هي السبب في تفجره بالحروب الأهلية مرة كل عشر سنوات أو أكثر أو أقل، بحسب تعاظم أو تناقص القدرة على مقاومة الضغوط الأجنبية.
وأكثر ما يفتقد السوريون الآن دور مصر التي سبق لها ان أسهمت معهم في حماية سوريا من التهديدات التركية عام 1957، كما حفظت لها الحق بالانفصال والخروج من الوحدة 1961، ولم تتخل عنها في أي يوم في الماضي.
[ تبقى الذكرى الثالثة التي أعادت إليها الاعتبار ثورة يناير، وفاة جمال عبد الناصر، عشية إنجاز مهمة التحرير بحرب أكتوبر المجيدة، وإعادة بناء النظام الذي أظهرت هزيمة 1967 وجوه الخلل الفاضح فيه.
وطبيعي أن يستعيد العرب، عموماً، هذه الذكرى وهم يرون مصر تعود – بالانتفاضة الشعبية ـ إلى روحها وإلى دورها الذي لا يعوض عربياً، وإن كانوا يدركون انها تحتاج كثيراً من الوقت في معالجة ما تسبب به نظام حسني مبارك، وقبله نظام السادات، من تغريب لمصر عن واقعها، وعن روحها، وعن دورها الذي لا بديل منه في المنطقة العربية، بل وفي أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية جميعاً. ولعل فلسطين، بعد مصر، هي أعظم ضحايا انعزال مصر عن أهلها والتحاقها من موقع التابع بمشروع الهيمنة الاميركية ـ الإسرائيلية على المنطقة.
ويعرف العرب أن مصر بحاجة إلى مدى زمني ليس بقصير حتى تستعيد عافيتها، وتعالج أسباب تدمير دولتها والعزلة التي فرضت عليها وأخرجتها من محيطها ومن دورها القيادي الذي لا بديل منها فيه، لكنهم مع ذلك يتعجلون عودتها التي يحتاجونها بقدر ما تحتاجها.
إنهم لا يفتقدون في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر هذا القائد العربي العظيم فحسب بل أساساً دور مصر الذي لا يعوضه غيرها، والذي يرون فيه المدخل الطبيعي إلى نهضتهم وإلى إمساكهم بالقرار في أرضهم الغنية وفي مصيرهم الذي يكاد الآن أن يكون قد بات – مرة أخرى ـ في أيدي الدول الأجنبية الطامعة بخيراتهم، والتي تعمل لإعادة توزيع أقطارهم بثرواتها في ما بينها، مع حفظ حصة محترمة لوكيلهم المحلي: إسرائيل.
وها هو درس عرض القضية الفلسطينية على مجلس الأمن لإقرار حق الشعب الفلسطيني على بعض أرضه، يكشف وحدة الموقف الغربي، بالقيادة الأميركية، خلف إسرائيل، في رفض حق الشعب الفلسطيني في دولة له على أقل من ربع مساحة وطنه المحتل.
إن فلسطين هي القضية، ومصر هي مركز الأمة ومصدر قرارها، وهي قلعة نضالها من أجل التحرر والكرامة والقرار الوطني المستقل.
لذلك ينظر العرب إلى ثورة مصر بعين الأمل بوصفها ثورتهم جميعاً وقيادتهم على طريق الغد الأفضل.
هذا من دون أن يغفلوا عن حقيقة أن مصر بحاجة إلى زمن غير قصير من أجل عودة الروح، ومن ثم تكون العودة إلى الدور الذي سيظل ينتظرها..
مع الأمل بألا يطول الانتظار لأن أعداء الأمة يحاولون إعادة تقسيمها، مرة أخرى، وشطب دورها، بل وشطبها من التاريخ والجغرافيا، إذا ما أمكنهم ذلك.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية