إحساس طاغ بأن الثورة قد سرقت. تنحى مبارك ولم يتعفَّف «الاخوان». أعوان مبارك في الخارج هم حلفاء مرسي في الداخل: تواطؤ مع الإدارة الأميركية، انتساب إلى المعسكر المذهب في الجزيرة والخليج، ودائع ووعود واستثمارات من مؤسسات مالية حاملة الشعار الإسلامي.. ومع ذلك، فشرعية الميدان أقوى.
تأكد، بالتجربة الحسية، وعلى مستوى الوطن العربي كله، أن حماية الثورة تتطلب جهوداً جبارة تفوق جهود تفجيرها وإسقاط نظام الطغيان..
وتأكد ما ليس بحاجة إلى تأكيد، من أن الثورات مسيرة حياة وليست انتفاضة عاصفة يفجرها المقهورون لامتهان كرامتهم وحرمانهم حقوقهم في بلادهم، ثم يعجزون بعد ذلك عن الانتقال من «الميدان» إلى دواوين السلطة الثورية، لأنهم لا يملكون البرنامج، ولم تمهلهم الظروف لنسج التحالفات مع أصحاب المصلحة بالتغيير الثوري، فيتقدم «الانتهازيون» لاختطاف الثورة والانحراف بها عن مسارها، تاركين «شباب الميدان» في دوامة ارتباكهم وفرقتهم والنقص في برنامجهم للتغيير.
وبرغم أن المواطنين العرب جميعاً سيحتفلون بالذكرى الثانية لانطلاق الثورة من ميدان التحرير في القاهرة، بعد أسابيع قليلة من «انتفاضـة البوعزيزي» في تونس، إلا انهم يدركون حجم المأزق الذي تعيشه مصر نتيجة الشبق الى السلطـة والرغبة في الهيمنة على القرار وإعادة صياغة الحياة في «المحروسة» والذي يتسبب في تهديد الوحدة الوطنـية وفي استـمرار تغييب مصر عن دورها العربي والمزايدة على نظام الطغيان الذي أسقطته الثورة في مجال «مراعاة» الإدارة الاميركية والالتزام بمقتضيات سياستها في هذه المنطقة، وكذلك في مجال «تطمين» إسرائيل الى ان «الإخوان» لا يختلفون – جوهريا – في هذا المجال لا عن أنور السادات ومعاهداته ولا عن حسني مبارك وتنازلاته الإضافية.
ولقد سبقت انتفاضة «البوعزيزي» في تونس ثورة «الميدان» في القاهرة بأسابيع قليلة، فأنعشت آمال الشعوب العربية المقهورة بأنظمة الاستبداد التي تمتهن كرامتها وتفرض عليها التخلف بما يكاد يخرجها من العصر.
وعندما تفجر الغضب الشعبي العارم في مصر ونجح في إسقاط حكم الطغيان، اعتبرت الشعوب العربية، في المشرق والمغرب، أن فجر غد جديد يبزغ فاتحاً أبواب الأمل بتغيير شامل يعيد القرار الى الشعب الذي كان مغيباً بالإرهاب والقمع والسلطة الكلية للقائد الفرد و«حزبه» الواحد الذي يتكون من خليط من المرتزقة والمنافقين وأصحاب المصالح والاحتكارات التي تحرم الناس حقوقهم في خيرات بلادهم.
اليوم، وفي غمار الذكرى الثانية لانتفاضة البوعزيزي في تونس وثورة الميدان في مصر تتراجع مشاعر الزهو بانتصار الإرادة الشعبية على الطغيان ويتبدى واضحاً ان عملية التغيير الثوري والاندفاع الى بناء الغد الافضل تتعرض لمخاطر جدية، وان «الحكم الجديد» الذي وصل الى سدة السلطة يمارس سياسة فئوية ويحاول احتكار القرار ويكاد يدعي أن «الثورة» ثورته مع انه قد سارع الى الالتحاق بها عندما تأكد له انها منتصرة حتماً، ومن ثم فهو يندفع الى إقامة حكم الحزب الواحد بقوة الشعار الإسلامي كما بضعف جمهور الميدان في تنظيمه وفي قدراته المادية.
لكـأننا أمـام ثـورات مخطوفة أو مرتهـنة لقوى لم تكن رائدة في التصدي لحـكم الطـغيان، ولكنـها تملك من القدرات المادية وفعاليـة التنظـيم والـعلاقات الدولية مع عواصم القرار كما مع الشبكة العالمية للإسلام السياسي، كانزة الذهب، ما قد يمكنها من اختطاف «الثورة»، ولو إلى حين، مع كل ما يسـتدعيه هـذا الاختـطاف من اشتبـاكـات وبلبلة واختـلاط الأوراق وإعـادة الاعتـبار الى حـكم الطغـيان والإفـادة من دعم جماعات المنتفعين منه لمواجـهة ثورة «الميـدان».
فالحكم الإخواني لم يتورع عن الذهاب الى التحالف مع «نجوم» نظام الطغيان، بل هو بادر إلى الإفراج عن العديد من أقطابهم متجاوزاً محاكمتهم حسب الأصول، وفيهم من هو متهم بارتكاب جنايات ضد المواطنين او ضد المال العام، وسمح لبعضهم بان يطلوا على الرأي العام بادعاءات كاذبة ليس فقط لتبرئة الذات بل وكذلك للادعاء بأنهم كانوا من «الثوار النائمين» بشهادة إيمانهم بالدين الحنيف.
بالمقابل، افاد النظام الجديد – القـديم من غياب الوحدة عن صفوف الثورة، والعجز عن بناء جبهة موحدة وقوية تجمع شتات هذا الطوفان من الجماهير الذي يكاد ان يكون بلا قيادة، على كثرة المتصدرين، وبلا برنامج برغم السيل المتدفق من الأفكار والمقترحات ومشاريع التوحد او المشاركة في جبهة مؤهلة لان تعيد رص الصفوف وتوحيد المتباينة آراؤهم في برنامج مشترك للتغيير.
[[[
ان جماهير الثورة حاضرة، وهي لم تغب يوماً واحداً عن الميدان، لكن قياداتها المفترضة لم تنجح حتى الساعة في إدارة الحوار البناء الذي يؤدي الى صياغة البرنامج المنشود وخطة التحرك المطلوب.
ومفهوم ان حكم الإخوان يتعجل في استكمال سيطرته على مؤسسات الدولة، كما يندفع الى التحالف مع «المترددين»، او المستعدين لعقد الصفقات الشخصية، ويحاول مخادعة شباب الثورة كما فعل عبر الانتخابات ثم عبر اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور المؤقت، ثم عبر «لجنة الحوار» الذي يبدو انه يدور بين متفقين… حول جنس الملائكة، أكثر مما يتصدى لمهمة إشراك الثوار في السلطة التي جاء بها ميدانهم ثم اختطفها التنظيم الوحيد الذي كان قد غادر الميدان ليستعد للاستيلاء على السلطة، وبعد ذلك «يحاور» من فوق، وبقوة الأمر الواقع، من ظل شغلهم الشاغل حماية الثورة بالموقف وليس بالقدرات.
من هنا اختلاط الزهو بالنجاح في تفجير الثورة بالمرارة نتيجة عدم القدرة على استكمالها والاندفاع الى تحقيق شعاراتها التي تترجم مطالب الشعب المقهور بالطغيان وتعيد إليه حقوقه المسلوبة.
ربما لهذا السبب تغيب البهجة عن الاحتفـال بالذكرى الثانية للثورة في مصر.. برغم ان «الميدان» لما يخسر بعد شبابه الذين أضاءوا الليل العربي جميعاً بأرواحهم المتوهجة وبإرادة مقاومة الطغيان حتى إسقاطه.
ولغياب الفرح سببه المباشر: الإحساس الطاغي بأن الثورة قد سُرقت، وان «الثوار» لم يكونوا مستعدين لما بعد مرحلة إسقاط نظام الطغيان الذي فاجأ الجميع بهشاشته.. وعلى رأس «الجميع» الأصدقاء الكبار في واشنطن، والذين «أمروه» بان يتنحى فنفذ الأمر وسلم السلطة إلى أعوانه في قيادة القوات المسلحة الذين لم يكونوا من الثورة او فيها… حتى وان حفظ لهم الميدان أنهم لم يتصدوا لها برصاص يقتطع شعب مصر ثمنه من لقمة عيشه.
السرقة واضحة الآن بتفاصيلها جميعا، والتواطؤ بين «الإخوان» ومن معهم وبين الإدارة الاميركية والمعسكر المذهب في بعض الجزيرة والخليج ومعه تركيا لم يعد من الأسرار، بل أن وقائعه باتت مكشوفة: زيارات دعم وتأييد، ومشاريع قروض او ودائع أو وعود باستثمارات بمليارات الدولار، واجتماعات متوالية للمؤسسات المالية حاملة الشعار.. الإسلامي.
ومع أن ذلك كله لم يعرف طريقه إلى التنفيذ إلا أن مجرد إشاعة هذا المناخ المطمئن قد يعطي النظام فرصة للمناورة وتقديم الوعود بأن الرخاء قادم عبر «الحكم المؤمن»… وماذا يهم ان كان مشروع الدستور قد أقر بطريقة غير دستورية؟! أو كان الإخوان يتقدمون في محاولة السيطرة على الدولة بمؤسساتها المختلفة، قبل ان يستعيد شباب الميدان وعيهم وقدرتهم على استكمال التغيير بالوسيلة الديموقراطية الوحيدة التي يعتمدونها: الانتخابات..
لقد أنهك النظام المصريين في مسلسل من الانتخابات المباغتة والاستفتاءات العبثية، وبينما هو يواصل «استئصاله» للمؤسسات المعارضة، بدءاً بالقضاء، مروراً بالنقابات والاتحادات المهنية، وصولاً إلى الصحافة مؤسسات ونقابة… حتى لو أغفلنا غارة السلفيين على المدينة الإعلامية، وتجاوزنا عن أحاديث كبار «الإخوان» عن «حقوق اليهود في مصر» وهم الذين أخرجتهم إسرائيل من واقعهم كمواطنين طبيعيين في بلادهم لتجعلهم جنوداً في جيشها يقاتلون «أهلهم» في مصر.
على ان كل تلك المناورات والمؤامرات وحالات التواطؤ لن تزيد من «شرعية» الهيمنة الإخوانية على السلطة، ولا هي ستنتقص من شرعية «الميدان» وشبابه وقدرتهم على الاستعداد للمرحلة المقبلة وقد وحدوا صفوفهم او توافقوا عبر جبهة سياسية متينة البنيان، تستدرك ما فات من أسباب المقاومة، ثم التقدم لتظهير وجه مصر الحقيقي والذي لا يشبه بأي حال وجه «المرشد» أو «الشاطر» أو ما بينهما.
وكل عام ومصر بخير، ليكون العرب بخير..
(تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية)