العرب، بل العالم كله، على موعد مع حــدث مرشح لأن يدخل التاريخ من بابه العريض يوم السبت المقبل، وعبر القمة العربية الثانية والعشرين التي ستضيف الى الجغرافيا السياسية اسماً جديداً يتمثل بمدينة « سرت» التي فرضها العقيد معمر القذافي «عاصمة بديلة» من طرابلس، وفقاً للقاعدة التي استنبطها وعممها وهي: «من ليبيا يأتي الجديد».
ولسوف تكون هذه القمة فريدة في بابها بالتأكيد: فالداعي إليها لم يقبل يوماً ان يصنف بين الملوك او الرؤساء او السلاطين، ومع ذلك فهو يحضر معظم القمم، جنباً الى جنب مع أولئك الذين طالما هاجمهم وهجا بعضهم وشتم بعضهم الآخر، وشّهر بهم جميعاً وأدانهم بجرائم خطيرة بينها التبعية للأجنبي ( الأميركي خاصة… حتى لا ننسى « طز، طز في اميركا)، وبينها استغفال شعوبهم وبيع القضية لحماية عروشهم، وبينها ابتداع حل لقضية فلسطين يتمثل في جمع الإسرائيليين والفلسطينيين في دولة واحدة أعطاها اسم «إسراطين» الخ.
لأول مرة، إذن، ستعقد قمة الملوك والرؤساء العرب تحت رئاسة «قائد» لم يرض ان يحمل أي لقب من ألقابهم الرسمية، مع انه أطولهم عمراً في السلطة. أكثر من أربعين سنة، ثم ان سلطته مطلقة أكثر من أقدمهم في الحكم، بمن في ذلك متوارثو العرش في الممالك والسلطنات والإمارات وما استجد من نظم حكم جمهوكية او مهكوجية في الوطن العربي.
ثم انها ستعقد في مدينة سرت وهي الأحب الى قلب «القائد» الذي عظّم بناءها، بوصفها مركز ديار قبيلته التي تنتشر من حولها، والتي جاءها لقبها الذي صار بديل اسمها الأصلي من واقعة ان كبيرها كان من اشد المؤمنين إخلاصا لدينه، وانه عرف بأنه ظل يردد اسم الجلالة حتى قذف الدم من فمه فاشتهر باسم «قذاف الدم» الذي عدل في ما بعد واختصر الى « القذافي».
ستتلاقى اللطائف والطرائف والغرائب والعجائب جميعاً في حضرة، بل وتحت رئاسة من لا يكف عن مفاجأة الناس بل ومباغتتهم بغير المألوف او المتوقع من التصرفات والتصريحات والخطب، فضلاً عن الملابس والأزياء التي تختلط فيها الألوان الأفريقية الزاهية مع أحدث الأزياء الإيطالية والفرنسية، وإن ظل باب المفاجآت مفتوحاً أمام «الأخ العقيد» الذي يأتي كل يوم بجديد.
اما داخل الخيمة ( التي قد تقام داخل القصر) والتي سيتلاقى فيها ذلك الحشد من «القادة العرب»، او من ينوب عنهم، تتقدمهم الأزمات والحروب والصراعات التي تسببوا فيها او عجزوا عن منعها، والتي سوف تفيض عن الخيمة الأفخم من إيوان كسرى، فلسوف يكون المشهد طريفاً برغم مأساوية مضامينه، والكل في ضيافة من تعارك مع معظمهم، وأحرج
-2-
جميعهم في مناسبات عدة، متبنياً منطق المواطن العادي في مواجهتهم.
لا مشكلة في جدول اعمال القمة.
الشاطر عمرو موسى تكفل ـ على عادته في كل قمة ـ بإعداده بدقة. لاجئاً الى تلك اللغة التي يتقنها، فأزال بخبرته العريقة الألغام والقنابل الناسفة، متيحاً لأقطاب القمة أن «يعالجوها» في الداخل، بعيداً عن الأضواء والآذان.. والحلول: بالكلمات العامة التي لا تعني شيئاً في بعض الحالات، وبالقفز من فوق المستعصي على الحل بالإرجاء، او بحصر الخلاف وإرجاء البحث فيه او إحالته الى القمة المقبلة، مع تكليف الأمين العام بتحضير مقترحات لحلٍ عجز الملوك والرؤساء عن ابتداعه.
وخلافاً لقاعدة «من ليبيا يأتي كل جديد»، فلسوف يطرأ «جديد» على جدول اعمال هذه القمة هو ملف الإمام السيد موسى الصدر الذي اختفى مع رفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين خلال زيارة لليبيا، في أواخر شهر آب ( أغسطس)، في ظروف غامضة، لم ينفع الزمن والتحقيقات التي شاركت فيها أكثر من دولة ( ايطاليا خاصة) الى جانب لبنان في كشف ملابساتها وتحديد المسؤولية عن «الاختفاء المريب» لهذا القائد الديني والسياسي الكبير والذي كان ـ بالفعل ـ اكبر زعيم شعبي في لبنان، وأحد مؤسسي «المقاومة» للاحتلال الإسرائيلي ( للتذكير: كانت إسرائيل قد اجتاحت جنوب لبنان وصولاً الى نهر الليطاني في منتصف آذار (مارس) 1978، من دون أن تنجح فصائل المقاومة الفلسطينية في صدها، وهي كانت تنتشر في معظم مناطق الجنوب، متجاوزة ما اتاحه لها اتفاق القاهرة الذي عقد بين الدولة في لبنان وقيادة المقاومة الفلسطينية ممثلة بقائدها الراحل ياسر عرفات، وبرعاية الرئيس جمال عبد الناصر..).
كان الإمام موسى الصدر قد قدم الى طرابلس من الجزائر حيث استقبله الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين ثم اتصل بالعقيد القذافي طالباً منه الاستماع الى شكواه من (تجاوزات المقاومة الفلسطينية التي تهدد امن لبنان عموماً، وأهالي جنوبه بشكل خاص، الذين يتعرضون للانتقام الإسرائيلي وهم تقريباً بلا سلاح، بينما رجال فتح وخلافها من فصائل منظمة التحرير يطلقون قذائف الكاتيوشا، عبر الحدود، من دون تركيز وينسحبون فيجيء الانتقام الإسرائيلي عبر قصف الجنوب، وقد تهجر نصف سكانه بعيالهم الى أمكنة بعيدة طلباً للأمن لأنهم لم يكونوا يملكون ما يقاومون به آلة الحرب الإسرائيلية).
على هذا فإن الإمام موسى الصدر كان قائداً وطنياً كبيراً، فضلاً عن انه كان يشغل ـ رسمياً ـ منصب «رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى»، وهو موقع ديني ـ سياسي في آن… ثم ان هذا المرجع كان من الساعين بجد الى التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقد استقبله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أكثر من مناسبة، كما سهل له اللقاء مع شيوخ الأزهر والعلماء فيه، مما يسر أمر تدريس المذهب الشيعي (الجعفري) في الأزهر الشريف إضافة الى مذاهب السنة، واعبتاره المذهب الخامس( الى جانب الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي).
-3-
وطبيعي ان يشغل الاختفاء الغامض لهذا المرجع الديني ـ السياسي اللبنانيين خاصة، والعرب عامة، ومعهم الإيرانيون حيث للعائلة الحسينية (أي الأشراف) فرع هناك، وللإمام موسى الصدر شخصياً مكانة رفيعة يحوطها التقدير والاحترام،لا سيما في اوساط المعارضة النشطة للشاه (آنذاك).
من أسف ان العقيد معمر القذافي قد استخف بالقضية ولم يولها ما تستحق من اهتمام وسعي لكشف الحقيقة، معتبراً ان «هذا الشيخ كان في ليبيا لأيام ثم غادرها، وليست لنا أي مسؤولية بما أصابه بعدما ترك طرابلس»…علماً ان ليس من شاهد مستعد للتأكيد ان الإمام موسى الصدر ورفيقيه قد غادورا طرابلس فعلاً في يوم معلوم وبطائرة معروفة والى جهة محددة بالذات.
لهذا غاب الرئيس اللبناني (ووفده المفترض) عن هذه القمة ـ تاركين المكان لقضية تحتاج حلاً، وليس ثمة من يحل.
[[[[[
هذا مجرد «هامش» للقمة العتيدة التي ستكون، على الأرجح، الأتعس والأعظم استيلاداً لليأس من أهل النظام العربي ولقاءاتهم، على مدى العشرين سنة او يزيد.
أما «المتن» فلسوف يزدحم بالمشكلات والخلافات التي بلغت حد الحرب في بعض الحالات، والانشقاقات التي تتهدد أكثر من «دولة عربية»، ليست السودان أولها ولا اليمن آخرها… فضلاً عن العراق الذي ما زال على كف شيطان الاحتلال الاميركي. ودائماً في الأول والآخر فلسطين القضية والأرض والشعب وسلطتها المنشقة على ذاتها برغم انها جميعاً ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومهددة بالتذويب المنهجي الذي أخاف حتى الأمين العام للأمم المتحد ة حين زار رام الله، الأسبوع الماضي، و «اكتشف» ان الفلسطيني «ينظر» الى أرضه ولا يستطيع الوصول إليها، حتى في المدينة الواحدة، فضلاً عن ان حركته داخل الضفة الغربية مثلاً محكومة بستمئة نقطة تفتيش ناهيك بتصنيف الأراضي (أ و ب و ج) كنوع من مرحلة الضم الكامل لهذه الأراضي الفلسطينية الى دولة يهود العالم: إسرائيل!
ان القمة الثانية والعشرين ستواجه، على الأرجح، مشكلة المصالحات التي باتت تبدو «مستحيلة»، ثم أنها ستكون ـ ان هي وقعت ـ بلا مضمون، لأن القادة بمجموعهم لا يملكون ان يقدموا بديلاً من عجزهم الجماعي إلا تخليهم عن القضية المقدسة التي كانت مبرر قممهم، حتى ثبت خواؤها من أي مضمون، بدليل تكرارها 22 مرة بينما «القضية: «تتضاءل» و«تتصاغر» بفضل مجهوداتهم حتى باتت «مشكلة إسرائيلية داخلية»، تحاول ان تحلها مع المرجعية العليا للعرب في زمن هزيمتهم المستمرة» الإدارة الاميركية!
لقد مهدت لجنة المبادرة العربية التي طمسها العجز عن فرضها على جدول اعمال الإدارة الاميركية، للتراجع عن «الثوابت» فضلاً عن المبادرة الملكية نفسها، عبر استقدام «السلطة» التي لا سلطة لها لتطالب بإرجاء «الحسم» لمدة أربعة شهور، تنفيذاً لرغبة اميركية، واستنقاذاً للقمة العربية من افتضاح أمر تخليها عن «القضية المقدسة».
-4-
وهكذا أفادت إسرائيل للاندفاع قدماً على طريقها الى «ابتلاع» الضفة جميعاً، انطلاقاً من مواقع القداسة فيها: القدس العربية، بدءاً بالمحيط المباشر للمسجد الأقصى، وهي كانت استرهنت ووضعت يدها على الأحياء العربية بالشراء او بإجبار الأهالي (أصحاب الأرض منذ آلاف السنين) على ترك املاكهم لعجزهم عن دفع الضرائب المستحدثة بقصد طردهم لإسقاط حقهم فيها، وبالتالي وضع اليد عليها… وكتمهيد مباشر فقد أعادت إسرائيل بناء الكنيس العتيق «الخراب اليهودي»، وهي تواصل هدم المباني المحيطة به حتى يكون المبنى الأبرز … في انتظار التفرغ لهدم المسجد الأقصى بذريعة «إعادة إظهار الهيكل» الذي «دفنه» المسلمون تحت مسجدهم «الذي باركنا حوله».
بل إن العجز العربي قد حرض حكومة نتنياهو على الاندفاع قدماً على طريق تهويد القدس (ومعها الخليل حيث يحاول الفلسطينيون بسلاح أجسادهم العارية أن يحموا الحرم الإبراهيمي)… وهكذا لم يتورع وزير الإسكان الإسرائيلي الإعلان عن مشروع لبناء 1600 وحدة سكنية جديدة على ارض يفترض ان تكون «من حصة» الفلسطينيين، بينما نائب الرئيس الاميركي جو بايدن يختال مزهواً «بصهيونيته» في الحيز الباقي للسلطة من حول رام الله.
ووفقاً للتقاليد الإسرائيلية العريقة في المخاتلة والخداع نتيجة الاستقواء حتى على الإدارة الاميركية ذاتها، فقد حاول نتنياهو تطييب خاطر بايدن بالاعتذار اليه و«توبيخ» وزيره الذي لم يراع اللياقات في أصول استقبال الضيف الكبير.
ولقد ابتلع نائب الرئيس الاميركي الإهانة، وغادر مهيض الجناح، لتسارع وزيرة الخارجية الاميركية الى «تأنيب» نتنياهو، مع التوكيد على رسوخ العلاقات الاميركية ـ الإسرائيلية رسوخ الجبال… ثم انتهى الأمر كله بتوجيه دعوة رسمية من الرئيس الاميركي باراك اوباما الى بنيامين نتنياهو للتوكيد على ان ما بين اسرائيل والولايات المتحدة ثابت ثبوت الشمس، لا يتبدل ولا يتغير الا لمزيد من القوة والمتانة حتى لتكاد الدولتان تكونان واحدة!
من الطبيعي، والحال هذه، أن يبعث نتنياهو بتحياته الرقيقة الى القمة العربية الثانية والعشرين (؟!!!) وهو يؤكد ان «البناء في القدس سيستمر لأنه مثل البناء في تل أبيب»!
لقد قرع نتنياهو ـ بيد اوباما ـ جرس الانصراف للقمة العربية من قبل ان تنعقد.
ولعل الرئيس الاميركي الأسمر الذي اعتبره أهل النظام العربي «هدية من السماء» لا يطلب من هذا الحشد من الملوك والرؤساء الذين تتجاوز ثرواتهم الأرقام جميعاً، ان يساهموا في تكلفة عمليات بناء المستوطنات الجديدة ما بين تل أبيب والقدس كما في سائر أنحاء الضفة، توكيداً لإيمانهم بأن زمن الحروب قد ولى وانتهى (ومعه العرب)… وبأن عليهم ان يقبلوا دولة يهود العالم في جامعتهم العتيدة، وأن يشركوها علناً في قممهم اللاحقة التي ستتولى تصفية آخر ما يتصل بفلسطين الأرض والقضية، بما يريحهم من عناء هذه القضية
-5-
المنهكة، ولاّدة الشهداء، ومثيرة القلاقل في هذه المنطقة المضطربة التي آن الأوان لكي يرتاح أهلها ويريحوا… وخصوصاً أن الحروب الأهلية تتهدد الكثير من دولهم بالتمزق ـ ديموقراطياً ـ والتفتت بدءا بالسودان وصولاً الى اليمن، مروراً بالعراق تحت الاحتلال الديموقراطي، مع عدم إغفال ما يجري في أقطار المغرب العربي والخليج العربي الذي هرب من الخطر الإيراني الى أحضان الاحتلال الاميركي حيث الأمان والاستقرار وهدوء البال والتخلص من هموم العروبة المتحدرة من زمن مضى وانقضى، ولا بد ان ننساها، لكي تهنأ الأجيال الجدية في حياة… بلا حروب ولا قضايا جلاّبة حروب!.
[ ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية