كلما انتخب الأميركيون إدارة جديدة استقبلها النظام العربي مرحباً معلناً استعداده لتسهيل مهمتها بتقديم المزيد من التنازلات، مفترضاً أنه بذلك يكسب رضاها فتشفق عليه وتخفف من انحيازها الى التطرف الإسرائيلي الذي ثبت أن لا سقف له، لعل معجزة ما تحصل، فتقود الى تسوية ولو بشروط مجحفة فيرتاح النظام العربي ولو الى حين..
ولأن فلسطين كانت القضية العربية الجامعة، فإن معظم التنازلات كانت تقدم على حسابها: يتخلى النظام العربي عن بعض ثوابت علاقته بها ومسؤولياته عنها، ويغري الطرف الفلسطيني بأن يسلك مسلكاً معتدلاً وعقلانياً، وأن يبتعد عن التطرف، أي عن حقوقه في أرضه، ليسهل عليه مهمة «إقناع» الإدارة الأميركية الجديدة بأن مشكلتها مع إسرائيل لا مع النظام العربي بالعنوان الفلسطيني، تاركاً للقيادة الإسرائيلية الفرصة لمزيد من ابتزاز الإدارة الأميركية بالاستناد الى التنازل العربي المفتوح… وقبل الحديث عن حجم التأثير المباشر للوبي الإسرائيلي على السياسات الأميركية.
دائماً يجد النظام العربي، ومن ضمنه وإن في موقع «الملحق» «السلطة الفلسطينية» التي استولدت بتنازلات تاريخية وتفريط خطير بالحق الثابت لشعبها في أرضه، ما يقدمه لكسب ود الإدارة الأميركية بأمل أن تلاقيه على الحد الأدنى من الأدنى من مطالبه، إشفاقاً عليه من ضعفه، وخوفاً عليه من السقوط، والتسبب بالتالي في إعادة إحياء مشكلات جديدة للاحتلال الإسرائيلي كان قد تخطاها عملياً.. على الأرض!
وفي استعادة سريعة لمسلك النظام العربي مع الإدارات الأميركية المتعاقبة يمكن رصد حجم التنازلات التي قدمها هذا النظام من رصيده الأساسي، أي القضية الفلسطينية التي كانت «مقدسة» فصارت بازاراً مفتوحاً، بل سوقاً للمناقصات: ما يعجز عن تقديمه النظام العربي تبادر «السلطة» الى تقديمه لحسابها مباشرة أو تحت ضغط النظام العربي، بقصد المحافظة على شهادة حسن السلوك، التي عليها أن تدفع ثمنها يومياً لسلطة الاحتلال الإسرائيلي حتى لا تلغيها نهائياً… علماً بأنها باتت الآن أشبه ما يكون بإدارة محلية خاضعة وتابعة للاحتلال.
ورهانها الوحيد على «عطف» الإدارة الأميركية واحتياجها إليها لتتمكن واشنطن من الادعاء أمام العرب أنها ليست معادية للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في دويلة منزوعة السلاح على بعض البعض من أرضه، مزنرة بوحوش المستعمرين في المستوطنات التي تبنى على مدار الساعة مستهلكة المزيد من تلك الأرض التي كان يفترض أن يحصل عليها الفلسطينيون بعد مسلسل التنازلات المجانية التي قدموها مباشرة، أو تبرع بتقديمها النظام العربي باسمهم ومن أجلهم، فأفقدهم المزيد من حقوقهم… مجاناً ولوجه الاحتلال الإسرائيلي.
ولا حدود للتنازل عند النظام العربي، يستوي في ذلك أمن الدول التي يحكمها أقطابه أبديا، أو مستقبل هذه الدول التي يتفاقم ضعفها كل يوم بمقدار ما تتعاظم قوة إسرائيل، العسكرية والاقتصادية وبالتالي السياسية، بأفضال ذلك التنازل المزدوج: إذ يقدم العرب من لحم القضية الفلسطينية، ثم تحاول «السلطة» أن تشتري لنفسها موقعاً فتقدم المزيد من «عظم» القضية التي يفترض أن تكون حارسة لها من التبعثر والضياع.
[[[
تم تفتيت القضية الفلسطينية فصارت نتفاً مبعثرة يستحيل جمعها لاستعادة الصورة الأصلية للاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً أن النظام العربي ـ ومن ضمنه «السلطة الفلسطينية» ـ قد أحدث بتنازلاته المتوالية، تشويهاً وتمزيقاً وبيعاً، بالمزايدة حيناً وبالمناقصة دائماً، خروقاً كاد يضيع معها أساس القضية: صارت خلافاً عقارياً محدوداً بين دولة عاتية وجبارة بقوتها الذاتية كما بتحالفاتها الدولية، والأخطر، بالتنازلات العربية المتوالية، وبين شعب يصور دائماً منقسماً على نفسه، موزع الولاءات على أطراف النظام العربي، لا مرجعية شرعية قادرة وحازمة له لا في الداخل ولا في «الخارج»…
ومع كل نشرة أخبار تنثر الدماء العربية، الفلسطينية أساسا، ثم العراقية، وأحيانا اللبنانية، فضلاً عن السودانية والصومالية ومجدداً اليمنية، فتملأ الشاشات، بينما تتهالك الدول التي كنا نحسبها أوطانا راسخة رسوخ الجبال.
ومن أدنى الوطن العربي الى أقصاه، تقدم الشاشات، عبر عروضها الإخبارية، يومياً، بل على مدار الساعة، صورة مأساوية عن الواقع العربي، تفقد المواطن أمله في غده، بل ثقته بنفسه، فضلاً عن ثقته بدولته أو حتى بوطنه.
فالحقيقة التي لا مجال لإخفائها هي أن العالم العربي يعيش حالة من التفكك والضياع وافتقاد القدرة على القرار تنذر بتفتت شعوبه وأقطاره وقضاياه جميعاً.
لم يعد «للعرب» قضية جامعة أو مؤسسة جامعة: خسروا أحلامهم العظيمة في الوحدة أو الاتحاد أو التقارب على قاعدة المصالح المشتركة، وتفرقوا أيدي سبأ، في عالمهم الفسيح الذي لم يعودوا أصحاب القرار في حاضره أو مستقبله: ثرواتهم ليست لهم، وهويتهم قيد النظر، وموقعهم على الخريطة ليس ثابتاً، لان كياناتهم متهاوية ويمكن سقوطها أو إسقاطها أو تعديلها حسب حاجة الآخرين..
تم التحوير بل التزوير في أساس «قضية فلسطين» التي صارت ـ فجأة ـ بعض «أزمة الشرق الأوسط» بما ينزع عنها هوية أهلها ومحيطها العربي، ويخلي طرف العرب من المسؤولية عما أصابها ويصيبها، وبالتالي عن المشروع الإسرائيلي الذي تجاوز احتلال الأرض الى احتلال الإرادة العربية.
مع تغييب «القضية» كان منطقياً أن يُستغنى عن خدمات جامعة الدول العربية التي غرقت تحت أثقال عجزها عن مواجهة المهمات التي أنيطت نظريا بها.
صارت الجامعة العربية أشبه بمستودع للوثائق الدالة على النكبات أو التراجعات ووجوه العجز، يحتاج اجتماعها على مستوى الوزراء الى كارثة قومية أو هزيمة مدوية تفرض عليهم أن يسارعوا الى تدارك آثارها عليهم… أما الاجتماعات على مستوى المندوبين فهي أشبه بمسامرات المقاهي والأندية، أو بحلقات الزجل يقول كل فيها ما تيسر من قصائد الحماسة أو الفخر أو هجاء الخصوم.
على امتداد ستين سنة أو يزيد كانت «فلسطين» تلخيصاً لقضايا العرب وطموحاتهم، يفرض عليهم التحدي الإسرائيلي التلاقي لمواجهته، حماية لأوطانهم ولمستقبل شعوبهم. وكانت المواجهة شرط حياة للأنظمة، خصوصاً أن فلسطين تسكن الوجدان، دينياً وقومياً ووطنياً، وتقدم الراية والبرنامج للأنظمة والأحزاب والتنظيمات، على اختلاف توجهاتها العقائدية.
لكن فلسطين مغيبة تماماً الآن، صارت مجموعة من التفاصيل التي لا يمكن جمعها مجدداً لتقديم صورة للقضية التي كانت مقدسة.
كذلك فإن العراق لم يعد الدولة التي كادت تصبح الأقوى في النظام العربي، خصوصاً أنها كانت الأغنى بمواردها الطبيعية، والأقدر بكفاءات شعبها.
وأخطر ما يتعرض له العراق من تفكيك لكيانه وبعثرة لشعبه على قاعدة التنوع الإثني والعرقي والديني والطائفي، انه يتكامل مع المشروع الإسرائيلي في فلسطين: هناك يجري انتزاع الاعتراف بإسرائيل دولة خالصة لليهود لا يشاركهم فيه من ينتمي الى أي دين آخر. بل ان الدين يغدو قومية. فاليهودي لأي «وطن» انتمى، وكائنة ما كانت جنسيته الوطنية الأصلية هو يهودي أولا وأخراً، وبالتالي هو إسرائيلي له الحق بـأن يأخذ من فلسطين ما شاء، وليذهب الشعب الفلسطيني الى الجحيم.
وها نحن نشهد في العراق بدايات «تبشر» بمثل هذا التفتيت على قاعدة العرق أو المذهب.. فالكردي في الشمال ينفصل عن «عراقيته» وهو يجتهد لإقامة دولته الكردية الخالصة تحت مظلة الاحتلال الأميركي، ساعياً الى مصادرة كركوك التي تسكنها أقليات متعددة، ليضمن بثروتها النفطية «استقلاله» عن سائر العراق…
والاحتلال الأميركي الذي لا يخفي تواطؤه مع أكراد الشمال العراقي يحاول تجديد روابطه مع حزب البعث الذي حكم عليه «بالاستئصال» عند اجتياح العراق، في سياق حملة تحريض للسنة ليواجهوا المشروع الفيدرالي الذي يتبناه بعض الشيعة في الوسط والجنوب.
وثمة أطراف عربية نافذة تشجع «القاعدة» وتنظيمات إرهابية أخرى في تركيز هجمات دموية على التجمعات الشيعية بذريعة منع إقامة دولة شيعية في العراق… بل ان هذه الذريعة كانت في جملة التبريرات التي قدمت للترحيب بالاحتلال الأميركي، لكأنما الاحتلال إنما جاء «نجدة» للسنة لكي يحتفظوا بحكم العراق خالصاً… بينما لم يعد ثمة عراق!
وأية متابعة جدية للتطورات في لبنان تكشف أن نجاح الإسرائيلي في فرض نموذج دولته ذات الهوية الدينية الخالصة أخذ يشجع بعض الأطراف السياسية على المطالبة، ولو على استحياء، بنوع من الفيدرالية الممهدة لاستقلال ذاتي لكيانات طائفية داخل «الدولة» في لبنان، التي طالما كانت «رمزية».
وهكذا فإن ما يجري في فلسطين ولها قد تجاوز بمخاطره شعب فلسطين وحقوقه في أرضه ليتهدد مصائر الكيانات السياسية العربية القائمة، والتي غالباً ما استنبتت بعمليات قيصرية خلافاً لثوابت التاريخ والجغرافيا… وهذا السودان شاهد وشهيد.
خلاصة الأمر أن التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، والصمت عن التواطؤ الأميركي مع إسرائيل في موضوع استنبات المستعمرات الاستيطانية بعد بناء جدار الفصل العنصري، وإشاحة النظر عما يجري في القدس الشرقية وما يتعرض لها أهلها بطردهم منها لكي يتم تطهير «أورشليم» عاصمة أبدية لإسرائيل… كل ذلك لا يشكل تهديداً بتصفية القضية الفلسطينية فحسب، بل إنه يشكل إعلانا عن هبوب عاصفة عاتية أميركية ـ إسرائيلية مشتركة على المنطقة العربية، ولا سيما المشرق العربي، تستهدف تفتيت دوله الى كيانات عنصرية وطائفية ومذهبية تكون إسرائيل قدوتها ومرجعيتها ومركز القرار فيها.
… وصورة الرئيسين الإسرائيلييّن شيمون بيريز وبنيامين نتنياهو في السفارة المصرية في إسرائيل، لمناسبة الاحتفال بـ«اليوم الوطني» (الثورة بقيادة جمال عبد الناصر) إضافة الى مضمون خطابيهما، ليست مما يبعث على الاطمئنان الى مستقبل هذه المنطقة التي يخطط الإسرائيلي لان تكون تحت هيمنته المباشرة، على ان يؤمن للأميركي مصالحه في هذا المشرق من أقصاه الى أقصاه.
فالإسرائيلي مطمئن الآن الى أن مصر قد نأت بنفسها عن ميدان الصراع، ولسوف تكون النموذج لدول عربية أخرى، في الطريق..
[ تنشر بالتزامن في جريدة «الشروق» المصرية