هي سنة إسرائيلية بامتياز، تلك التي عشنا أيامها الأولى مطرّزة بدماء أهلنا في غزة هاشم بفلسطين، ونعيش أيامها الأخيرة وقد ساهمنا في تبرئة الإسرائيليين من جريمة ابادة أسباب الحياة فيها، ثم منحناها حق الفيتو على المشروع الاميركي الذي اعترف ـ مبدئياً ـ بحق هذا الشعب «بدولة» من غير ارض تقريباً في المسافة الفاصلة بين مستوطنتين قائمتين فعلاً وثالثة قيد الإنجاز ورابعة مرجأ العمل في إقامتها ريثما يتم تدجين الرئيس الاميركي باراك اوباما فيتخلى عن دور «المنقذ» متراجعاً الى دور «المبشر» العاجز عن تنفيذ تعهداته إلا… بالصلاة من أجل الضحايا!
هي سنة إسرائيلية بامتياز… وقد باتت إسرائيل الدولة العظمى في منطقة سكانها عرب، لكنهم لا يملكون قرارهم، لا في السلم ولا في الحرب… فالسلم أميركي والحرب إسرائيلية، وهم ـ بمئات الملايين من أعدادهم ـ أقوام من المتخلفين الذين لا يعرفون لغة العصر، وهي القوة (اللهم الا في ما بينهم!)
فأصحاب القرار في شؤون العالم اثنان لا ثالث لهما: الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل… كل حرب اميركية يقاد اليها العالم صاغراً، من العراق الى افغانستان، وبالعكس. وكل حرب إسرائيلية يشارك في خوضها العالم أجمع، بشهادة حرب 1973، ثم ـ اخيراًُ ـ الحرب على غزة، وقد شارك فيها العالم اجمع، ليس فقط بصمت التواطؤ على المذبحة في غزة في مثل هذه الأيام من العام الماضي، بل كذلك بالمؤتمر الدولي في شرم الشيخ الذي مسح الدم عن ايدي السفاح الإسرائيلي، بأوراق مشاريع الإنقاذ والتعويض وإعادة البناء التي لم ينفذ منها حرف واحد، بل والتي كتبت لحفظ ماء الوجه، ولتبرير الجريمة، اعتماداً على ضعف الذاكرة العربية وانعدام القدرة على القرار.
ولأنها سنة إسرائيلية بامتياز، فهي تشهد على النظام العربي، وهو يكتب بدماء رعاياه سيرة خروج العرب من الجغرافيا والتاريخ: يذهب الى حروب أعدائه ضد اهله، فيمتنع عليه ان يكون شريكاً في الانتصار عليهم، وتفرض عليه ضريبة الهزيمة مضاعفة فيدفعها ثم ينظم القصائد في تمجيد قراره الحكيم بابتداع الدور الجديد الذي يحرمه من ان يكون حياً فيرجى او ميتاً فينعى.
صار الكبر عبئاً على أصحابه من أهل النظام العربي فقرروا ان يتصاغروا ليعيشوا!
وصار النفط أقدس من القضية… ومن أجل حماية النفط تهون التضحية بالقدس وسائر فلسطين»: غدا نشتريها جميعاً، ومعها القرار الاميركي والأسطورة الإسرائيلية… يقولون!!
وهي سنة «عربية» أخرى تولد وقد غطى شهورها وأيامها الدم العربي مشرقاً ومغرباً وبين بين،
وها هو يكتب، مع فلسطين وأهلها، بدماء الضحايا الكثر في العراق والضحايا المكتومين في السودان، والضحايا الأكثر في اليمن السعيد ـ بجهاته جميعاً، شمالاً وجنوباً فتتجاوز الحدود مع النظام الذي تختلط في قمته الجمهورية مع الإمامة، والديمقراطية مع المشيخة القبلية، وتتهاوى العصبية الكيانية لدى النظام الجمهوري ليشرك في حربه على المعارضة المتهمة بإحياء الخلافة المملكة التي لم تستخدم في علاقتها مع اليمن، تاريخياً، الا السيف.
هي سنة عربية ولدت قيصرياً بالحرب الإسرائيلية على غزة، وقد اكتسبت شيئاً من التوهج بقداسة الدم المراق غيلة في المدينة التي يشكل اللاجئون من أهل الأرض الفلسطينية غالبيتها المطلقة، فأسقطت أكثر من خمسة ألاف شهيد وجريح، فيهم نسبة عظمى من الأطفال والنساء والشيوخ والمستشفيات والمستوصفات والمدارس والجامعات تتقدمها مكاتب وكالة الغوث الدولية، شريان الحياة الوحيد الذي ما زال يربط هذا القطاع الذي معظم سكانه من اللاجئين لمرتين او ثلاث بأهلهم في الجوار والمحرم عليهم التواصل معه.
هي سنة «عربية» من سنوات النكبة الجديدة، بعد فلسطين ومعها، ممثلة بتمزق المزيد من الكيانات السياسية التي كانت دولاً قوية واعدة بمستقبل أفضل… فيها العراق الذي باتت جنسيته قيد الدرس الآن ! وفيها اليمن التي تتوالد فيه الأزمات السياسية المنذرة بالتحول الى حركات انفصالية تدمر «النموذج» الذي تحقق بالتضحيات الغوالي لدولة عربية تمكنت من استعادة وحدتها بالدم… وها هي مهددة بأن تخسرها بالقتل الجماعي المجاني في فتح مختلف جهاتها، على أيدي أهل نظامها وحلفائه الطارئين الذين طالما قاتلوه ولم يسلموا بوجوده الا بعدما طمأنهم الى انه سيكون خليطاً من الجمهورية الملكية والإمامة الديمقراطية والإمارة القبلية المرتبطة بحبل السرة مع مملكة العائلة المذهبة.
هي سنة عربية استثنائية حقاً، وان استمرت فلسطين عنوانها المتوهج، بل وسياقها المكتوب بدماء هذا الشعب المقهور بقيادته كما بمجموع الأنظمة العربية التي أضاعت قضيته في لعبة الأمم التي تدخلها متباعدة، متباغضة، متآمراً بعضها على البعض الآخر، وتخرج منها في كل مرة بنكبة جديدة.
لا يكفي التنصل من العروبة والخروج عليها مبررا لاضطهاد الفلسطيني ومحاصرته بهويته التي باتت حملاً ثقيلاً على النظام العربي عموماً، يريد شطبها بأي ثمن، بيديه تارة، وبالتواطؤ مع إسرائيل غالباً، وبفتح أبواب ديار اللجوء في أقصى الأرض (النروج ـ الدانمارك)، وبتسهيل انتشار الشتات في أربع رياح الأرض (اميركا ، بشمالها وجنوبها، استراليا، أفريقيا).
المهم أن تنتهي القضية الفلسطينية ثقيلة الوطأة على النظام العربي.
لا يهم أن يشارك النظام العربي إسرائيل والدول العربية بالقيادة الاميركية في تصفية القضية بل لا بد أيضا من تصفية الشعب، باعتماد هذا التوزيع للفلسطينيين كمجاميع بشرية وليس كشعب له أرضه الوطنية المحتلة، وله قضيته المقدسة، بحيث يصبح ثمة كثير من الفلسطينيين وليس من شعب فلسطيني واحد او موحد بقوة قضيته ان لم يكن بقوة انتمائه الى أرضه المقدسة برغم توزعه أشتاتا في أربع رياح الدنيا.
وبديهي ان تستمر فلسطين العنوان ومتن القضية، فهي تستعصي على الطمس او التذويب، وان كانت تتعرض لحروب عربية كثيرة غالباً ما فاقت الحرب الإسرائيلية شراسة وقسوة، وخصوصاً أن ظلم ذوي القربى اشد مضاضة.
ففي لبنان يطارد هذا الفلسطيني بشبح «التوطين»… فقد انتبه المتشددون في حماية العرق في لبنان، الذي يتكون شعبه ـ وبقرار دولي كان بين مبررات استيلاد دولته ثم بات من ركائز نظامه الفريد ـ من مجموعات من الأقليات العربية والدولية، متنوعة الدين والطائفة، متعددة العرق، اذ اتخذ ملجأ لكل من ضاقت به الأنظمة الحاكمة، او استهدفته الفتن الطائفية او العرقية في بلاده.
فأما الوضع في الضفة الغربية فمعروف، وله مواصفاته الإسرائيلية الخاصة، بتواطؤ عربي ـ دولي معلن يضفي شرعية متوهمة على سلطة عاجزة وأسيرة وهذا من بين شروط أسرها في الداخل.
وأما الوضع في غزة فهو الجرح المفتوح الذي عجز الطب العربي عن معالجته.
غزة ارض محروقة، يعيش فيها أكثر من مليون ونصف المليون بائس فلسطيني، هم بأكثريتهم الساحقة من اللاجئين الذين طردتهم إسرائيل من أرضهم الوطنية، مرة في العام 1948 فصاروا تحت السلطة المصرية في القطاع، ومرة ثانية في العام1967، فصارت أرضهم محتلة، وصاروا جميعهم أسرى.
في لحظة قدرية محددة، وضمن ظروف معلومة افلت الخيط من «السلطة» ومن يدعمها فإذا حماس تفوز في الانتخابات الشرعية، ويضطر أهل السلطة من فتح الى تشكيل حكومة ائتلافية تحتل فيها حماس رئاستها والعديد من الوزارات إضافة الى غالبيتها في المجلس التشريعي. وكان الصدام حتمياً بين حماس التنظيم والذي يتقدم لوراثة فتح مسلحاً بإيديولوجيتها ذاتها وبكونه ابناً شرعيا لمنطلقاتها الأصلية عند التأسيس (الشعار الإسلامي والارتباط التنظيمي بالإخوان المسلمين)… وكانت فتح، التزاماً بشروط السلطة، حتى من قبل ان «تدخل» الى الأرض المحتلة، قد تخلت عن الإيديولوجية، وعن التنظيم وصارت خليطاً من الأفكار والمناهج والمصالح فيها شيء من أفكار الماركسيين المرتدين وشيء من القوميين العرب والبعثيين المتقاعدين، وبعض اللاجئين السياسيين الفلسطينيين من المنتمين الى أديان ومذاهب اخرى.
لم تظهر مشكلة مع إسلاميي فلسطين في سوريا، لان نظامها قد استوعب من قبل الأخوان المسلمين فيها، ومن باب أولى ان يستخدم الإسلاميين الوافدين، وخصوصاً أن مصدر دعمهم الأساسي كان إيران (التي حلت محل السعودية الراعية الأصلية) وهي حليف لسوريا.
تبقى المشكلة مع مصر، وهي شديدة التعقيد، وشديدة الحساسية.
فالنظام المصري ينظر الى غزة على انها موقع متقدم في خط المواجهة مع الإخوان المسلمين، مما يجعله لا يقيم كبير الاعتبار لكونهم فلسطينيين. ثم ان اهل السلطة فيها على تحالف مع ايران. وايران في نظر النظام المصري عدو. كما انهم على صلة طيبة مع سوريا. وأهل النظام في سوريا خصوم… وعلى هذا فان للنظام المصري اسبابة الخاصة لمحاصرة هذه الفئة الخارجة عليه في غزة. انه يعتبر انه يواجه مشروعاً انقلابياً، ويواجه شعب فلسطين المفقر، المحاصر، الذي يحتاج الى الخبز والدواء والكتاب والمياه والنور وسائر أسباب الحياة، مع السلاح وقبله، ومع السلطة وقبلها.
النظام المصري يعتبر نفسه في حالة حرب مع السلطة في غزة ومن يدعمها. ولذلك فله أسبابه لحصارها، بمنطقه الأمني الذي يغلب، في هذه الحالة، على مشاعر الاخوة والتاريخ. وبالمنطق ذاته تصبح إسرائيل موضوعياً في موقع الحليف. وتصبح سلطة عباس ضرورة حيوية. المهم منع الأخوان المسلمين من التمدد من قاعدتهم المسلحة في غزة الى مصر (عبر الصحراء التي لا عمران فيها ولا حياة والممتدة لأكثر من اربعمئة كيلومتر).
[[[[[
على فلسطين أن تنتظر ما لن يكون.
أما إسرائيل فلها الأرض والبحر والفضاء، لها التفوق المطلق بالسلاح نووياً وتقليدياً، وبالاقتصاد، حديثاً وتقليدياً، ولها المدى المفتوح بالسيف كما بالذهب والنفوذ الاميركي والولاء العربي، المكين…
من أين يأتي السلام، إذن؟!
فلنستعد لسنة أخرى من سنوات الدم العربي المهدور، ولنكتب مرثيات المستقبل العربي الذي نغتاله بأيدينا،
وكل عام وانتم بخير… (مع الاعتذار عن هذه التهنئة البائسة بالعام الجديد!)
[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية