أريد للعرب أن يكتشفوا الديموقراطية فاكتشفوها متأخرين.
لذا فإن الديموقراطية التي يراد بها التخلص من أنظمة الاستبداد والدكتاتورية تأتي محمولة على دبابات أميركية أو تجري في ظلال الأساطيل وشبح الحرب، أميركية أو إسرائيلية، ولكنها تبرر نفسها بتحرير الشعوب العربية عن طريق إجبارها على تعلم الديموقراطية والأخذ بها.
اللافت أن معظم أهل النظام العربي، سواء من تم التخلص منهم أو المراد التخلص منهم الآن، إنما وصلوا الى السلطة برعاية النفوذ الأميركي أساسا والغربي عموماً، أو أنهم حكموا طويلاً وعاثوا في الأرض فساداً وبطشوا بشعوبهم فقضوا على نخبها بالسجن أو بالقتل أو بالتشريد أو بشراء ضمائرهم حتى خلت الأرض لهم لدهور، فتعذر على شعوبهم، من بعد، أن تعرف طريقها الى غدها.
قال لي مواطن عراقي شاب: لم أعرف طوال عمري إلا صدام حسين رئيساً، هو مصدر الحياة، وهو من يلخص الوطن والدولة والشعب… وبرغم معرفتي بأنه دكتاتور، ورغم وعيي بأنه يختصر العراق في شخصه إلا أنني لا أعرف غيره، ولا أعرف الطريق الى غيره.
وقال لي مثقف سوداني تجاوز الخمسين من عمره: سألني ابني هل يذهب الى صندوق الاقتراع لينتخب أم لا يذهب، فلم أعرف كيف أجيبه، خصوصاً أنه أضاف فقال إنه لا يعرف في السودان سياسياً واحداً غير البشير، ثم إن الحملة الغربية عليه تجعله يبدو وكأنه زعيم وطني، فكيف يقترع ضده مع وعيه بأنه دكتاتور؟!
ويمكن استخدام أي من هذين المثلين في معظم أرجاء الوطن العربي، فالمواصفات هي هي في أهل النظام العربي كله مشرقاً ومغرباً.
[[[[[[
قبل تسعين عاماً، تقريباً، وعلى قاعدة معاهدة سايكس ـ بيكو (1916) بين بريطانيا وفرنسا، استولد الاستعمار البريطاني ـ الفرنسي المنتصر في الحرب العالمية الأولى، وعلى أنقاض الإمبراطورية العثمانية (أو ما كان دولة الخلافة) الكيانات السياسية لما نعرف الآن من «دول المشرق العربي»، بعد شيء من التعديل والتبديل في الحدود تمهيداً لإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، تحقيقاً لوعد بلفور الذي أعطته بريطانيا للحركة الصهيونية العالمية بإقامة دولة لليهود، قبيل انتهاء الحرب، في 2 تشرين الثاني ـ نوفمبر 1917.
هكذا برزت الى الوجود «دول»: سوريا، إمارة شرقي الأردن، لبنان، العراق وفلسطين، فقد حمل الاستعمار كل كيان من هذه الكيانات بـ«وضع خاص» لن يكتب له الاستقرار إلا بعد إقامة «دولة إسرائيل»، في مثل هذه الأيام من العام 1948.
بالمقابل فإن الكيان السياسي لدولة السودان لم يظهر، عملياً، إلا في أوائل الخمسينيات، وبعدما أنهيت حقبة الاستعمار الثنائي شكلاً (البريطاني ـ المصري) والبريطاني فعلاً للسودان، الذي تكاد دولته أن تكون بمساحة قارة، والذي يشكل سكانه مزيجاً من قوميات وعناصر وإثنيات متعددة.
يمكن الاستطراد للقول إن «دول» المغرب العربي قد استولدت، أو انها اتخذت صيغتها السياسية الحالية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. فما عدا المملكة المغربية، لم تظهر الدول العربية في الشمال الأفريقي إلا في الخمسينيات، باستثناء الجزائر التي استولدتها الثورة وأعادت اليها هويتها الأصلية في الستينيات، فيما كانت ليبيا مملكة بولايات ثلاث تخضع كل منها لاستعمار غربي (ايطاليا وفرنسا وبريطانيا) قبل أن ينشئ الأميركيون قاعدة عسكرية لهم في عاصمتها طرابلس في الستينيات من القرن الماضي، أما تونس فكانت مستعمرة فرنسية.
كانت مصر هي «الدولة» الوحيدة بكيانها الوطني الثابت في المشرق العربي، فيما كانت المغرب المملكة ذات التاريخ الممتد لألف عام في الماضي، هي الدولة الوحيدة في المغرب العربي… وإن لم تكن أيهما مستقلة فعلاً.
وبرغم أن معظم هذه الدول قد عرف لعبة «الانتخابات» في وقت مبكر، إلا أن الحكم كان في يد الاحتلال أو الانتداب الأجنبي، فرنسياً أو بريطانياً، حتى أقيمت «دولة إسرائيل» لتشكل «النموذج الديموقراطي» القائم على قاعدة دينية وعنصرية طاردة لأهل البلاد من الفلسطينيين.
عبر التحولات التي شهدتها الدول العربية عموماً، سواء بالنضال لإخراج قوات الاحتلال الأجنبي، أو بالصراع مع الكيان الصهيوني الذي فرض الحرب على هذه الدول الحديثة الاستقلال والضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، والمتباعدة سياسياً، قامت أنظمة شمولية قادها العسكر أساساً بعد إدانته الأنظمة التي كانت قائمة بالعجز أو بالتواطؤ وحملها المسؤولية عن الهزيمة في ميدان فلسطين. وليس من المصادفات القدرية أن الحكم في كل من الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن يتولاه رؤساء وقيادات متحدرة من جذور عسكرية.
ربما لهذا تحولت الانتخابات في معظم هذه الدول الى «استفتاءات» ليست لها علاقة حميمة بالتعبير الديموقراطي، إذ ليس ثمة مساحة كافية من الهواء بين الإجابة بنعم إجبارية أو «لا » مكلفة بتبعاتها الثقيلة.
حتى في لبنان، بلد التعدد الطوائفي والمذهبي، والذي كان يقدم نفسه وكأنه «واحة الديموقراطية» في المشرق بل ربما في الوطن العربي كله، التهمت الحروب الأهلية التي تمددت فيه دهراً تقاليده «الديموقراطية»، وصارت الانتخابات لعبة لأمراء الطوائف، فيما عاد «المواطنون» رعايا لهؤلاء «الأمراء» الذين لا يمكن تبرئتهم دائماً من شبهة العلاقة مع دوائر أجنبية، أو من الافتراض أن حركتهم بالشعار الطائفي أو المذهبي الصريح، إنما تخدم المصالح الأجنبية، الأميركية أساساً ومعها دائماً إسرائيل.
وحتى في لبنان بتعدديته، شهدنا العسكر يتولون ـ ديموقراطياً ـ زمام السلطة في مراحل فاصلة من تاريخه السياسي: اللواء فؤاد شهاب، بعد الوحدة المصرية السورية وثورة العراق(1958) ثم في المرحلة الأخيرة الممتدة بين 1998 واليوم، وعبر رئيسين: العماد إميل لحود ثم العماد ميشال سليمان، الرئيس الحالي.
الجديد في الأمر أن قوى الهيمنة الأجنبية باتت هي المرجعية الدستورية والقانونية للأنظمة العربية ذات الجذور العسكرية، وهي تحاول أن تؤكد انتسابها الى … الديموقراطية!
[[[[[[
لم ترتفع صرخة اعتراض واحدة على حقيقة أن الانتخابات في العراق إنما تجري بطلب الاحتلال الأميركي وتحت إشرافه المباشر، وانه هو هو من وفر لها التغطية العربية أساساً، والإقليمية ومن ثم الدولية، خصوصاً وقد صنفها «إنجازاً تاريخياً» مفترضاً انه قد يفيده في محو الصفحات الدموية التي سجلها على امتداد السنوات السبع المنقضية على احتلاله العراق، والتي قتل خلالها أو تسبب في قتل حوالى مليون عراقي، وفي تشريد حوالى ثمانية ملايين عراقي، بين دول الجوار (سوريا والأردن أساساً، ولبنان) ودول الشتات في المغتربات الأوروبية والأميركية، فضلاً عن المليوني لاجئ الى حيث أقاربهم داخل العراق.
وكان من اللافت أن أعظم المروجين لهذه الديموقراطية الأميركية في العراق تحت الاحتلال كانت أجهزة إعلام نافذة وهائلة الغنى تتبع دولاً لم تعرف الانتخابات في تاريخها، بل لعلها كانت ولا تزال تعتبرها رجساً من عمل الشيطان ينبغي تجنبه!
وها ان الانتخابات في السودان تحظى برعاية دولية شبه كاملة، تتولاها هيئات معروفة باحتضان الديموقراطية الناشئة في الوطن العربي، غالباً ما تعرف باسم «منظمات المجتمع المدني» التي تتمتع بإمكانات مادية محترمة، تمكن أعضاءها من السفر حول العالم لمتابعة بل رعاية «حقوق الإنسان» امرأة وطفلاً والحوامل والعوانس والمطلقات والمتزوجات من أجانب، المطالبات بالهوية الوطنية لأطفالهن، بعدما هجرهن الأزواج، أولئك الذين ولدوا بعد انتهاء العلاقة الحميمة.
ومن قبل السودان، رعت منظمات المجتمع المدني وبتلك الهيئات الدولية التي تكلف نفسها أعباء السفر ومشاق الانتقال الى الوعر من الأرض، كاليمن مثلاً، لرعاية الديموقراطية الوليدة وتقديم الشهادة بأن الانتخابات قد جرت في اليمن السعيد في أجواء هادئة بل مثالية ولا تشوبها شائبة… حتى لو كانت بمثابة المقدمة الموسيقية للحرب الأهلية التي تقف اليمن على عتبتها، أو تلك الانشقاقات الخطيرة التي تتهدد الكيان السياسي لدولة السودان بعد إنجازها!
ومن قبل السودان والعراق، كانت هذه المنظمات ذاتها قد وفرت شهادة حسن سلوك نموذجية للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، من خلال إشادتها «بالعملية الديموقراطية» التي تمت عبر الانتخابات التي أجريت في الأرض الفلسطينية المحتلة، وانتهت ـ كما نعلم جميعاً ـ بالانشقاق الوطني الخطير الذي قسم المقسم من فلسطين، فصارت لدى الفلسطينيين «سلطتان» واحدة في الضفة وأخرى في غزة، كلتاهما تعيش على المنح والقروض والإعانات والحسنات والصدقات، للضبط ليس فقط عن حماية الشعب أو الأرض، بل حتى عن حفظ المسجد الأقصى في القدس الشريف والأحياء العربية من حوله، كما عن حماية الفلسطينيين الذين اضطرتهم ظروف الاحتلال لتبديل أماكن سكنهم… وثمة الآن أكثر من 75 ألف فلسطيني تهددهم السلطات الإسرائيلية بالطرد لان بعضهم من غزة ويقيم في الضفة أو بالعكس، أو لان بعضهم قد لجأ مضطراً الى جواز سفر من أي دولة في العالم ليمكنه أن يتحرك سعياً وراء الرزق غالباً.
[[[[[[
لا أحد يمكنه الاعتراض على الأخذ بمبدأ الديموقراطية، حتى في أرض تحت الاحتلال، ومع الوعي تماماً أن الاحتلال لا يمكن أن يسمح بديموقراطية تنتهي بحشد الشعب من خلف مطلب إجلائه واستعادة الاستقلال الذي ضيعه الطغيان.
لكن من الضروري حرمان الاحتلال الأجنبي من شهادة تزكي عشقه للديموقراطية في البلاد التي احتلها قهراً وكبّد أهلها خسائر بشرية مخيفة وخسائر اقتصادية يصعب حصرها.
فالديموقراطية المصنعة في بلاد الغير والتي تجري بالأمر، وفي ظل صراعات وصدامات سياسية في ظاهرها، ولكنها تستبطن الطائفية والمذهبية والعرقية، سرعان ما تعود لتنفجر حرباً أهلية تذهب بالكيان السياسي للبلد المعني… وهذا ما نتخوف منه على العراق تحت الاحتلال الأميركي، وعلى السودان تحت الرعاية الدولية المستجدة، وقد كان رئيسها ـ إلى ما قبل حين من الزمن ـ مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية، ومن قبل ومن بعد على اليمن الذي تنهكه الحروب المتعددة الأسباب والهويات.
الديموقراطية ستارة للعيوب… ويمكنها أن تغطي على الإثارة الطائفية والمذهبية، بل أن تفرضها طريقاً إجبارياً إلى المستقبل (نموذج لبنان)… وهكذا تلغي شكليات العملية الانتخابية المضمون الديموقراطي لأي انتخابات، وقد يغدو الأعظم طائفية والأعظم تعصباً لعنصره هو الممثل الشرعي المناسب.. وبالديموقراطية!
[[[[[[
قديماً كان يقال إن الشيطان يسكن في التفاصيل.
وثمة شياطين كثيرة تسكن العمليات الديموقراطية التي قد تمهد لتطورات خطيرة في غير بلد عربي.
ويمكن القول إن أهل النظام العربي قد أثبتوا أنهم أكثر خبثاً ومكراً من الشياطين فجعلوها في حالات كثيرة، تتبدى عاطلة من العمل.
من خارج اللعبة الديموقراطية التي فرحت أنظمة عربية كثيرة بتطبيقها خارج حدودها، وروجت لها مسخّرة وسائل إعلامها الفضائية والمكتوبة، والكثير من أموالها، والعديد من الدعاة، سنكتفي بالنموذج الفلسطيني ونعمة الديموقراطية التي أسبغها عليه الاحتلال الإسرائيلي.
إن على «المخلوق» الفلسطيني الذي تنكر عليه هوية أرضه، أن يخضع لستمئة نقطة تفتيش، متعرضاً في كل منها إلى مختلف أنواع الإهانات والتعذيب، فإذا ما مضى الوقت المحدد وسقط عليه حظر التجول، كان عليه أن «يختفي» حتى لا يُعتقل أو يُبعد من جديد.
مع ذلك فإن المتحكم ببعض أبرز وسائل الديموقراطية (الإعلام) يتهم الفلسطيني بأنه يخرج على الديموقراطية حين يخرج لمقاومة الاحتلال.
إن الترويج للديموقراطية الإسرائيلية هو الوجه الآخر لنسيان الاحتلال الأميركي في العراق من خلال الحديث عن الإنجاز الديموقراطي الذي تحقق بفضله، والذي خصصت بعض الفضائيات العربية ساعات لسفير الاحتلال وهو يتباهى به، قافزاً من فوق واقع أن العراقيين قد أثبتوا ـ حين واتتهم الفرصة ـ أنهم مهتمون بمصير وطنهم، وأنهم معنيون بكشح أشباح الطغيان والاحتلال معاً، وتأكيد جدارتهم بأن يصنعوا مستقبلهم بإرادتهم فوق أرضه…
وعلينا أن ننتظر «اليوم التالي» قبل أن نطمئن إلى غد العراق أو السودان أو اليمن، في ظل الإنجاز الديموقراطي الذي أتى محمولاً على طائرات الدمار الشامل!
أما فلسطين فلها الله من قبل ومن بعد، في ظل تحويل هذا النظام العربي الى «منارة للديموقراطية» تشهد للاحتلال، أميركياً وإسرائيلياً، وكل ذلك واحد موحد دائماً.
ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية