I غمرت الفرحة دوائر القرار في العواصم العربية المختلفة: لقد انتصرت الديموقراطية الطوائفية في لبنان انتصاراً باهراً، وألحقت هزيمة مدوّية بالمعارضة المشتبه في ولائها لشعار «لبنان أولا» والمتهمة بأن لها صلات تحالف أو تعاون أو تقارب ما مع «معسكر الشر» الذي يضم إيران وسوريا وجهات أخرى معادية للحرية والتقدم والانفتاح!
وفي غمرة احتفالاتها المدوّية بهذا النصر الخارق الذي تهون أمامه التضحيات، ولو تجاوزت المليار دولار، لم تنتبه دوائر القرار هذه لخبر رأته عادياً ومفاده أن إسرائيل تشترط عدم مشاركة «حزب الله» في الحكومات اللبنانية الجديدة، فإذا ما فرضت التوازنات الداخلية إشراكه فإن هذه الحكومة ستتحمل المسؤولية كاملة عن هذا «الخرق» الفاضح.. للديموقراطية!
صار بوسع إسرائيل، إذاً، أن تقرر في الشؤون الداخلية لكثير من الدول العربية… وها هي تضم لبنان الى حظيرة الدول التي ترعاها وتمنع «التطرف» من حرف حكوماتها عن أهداف السلام الإسرائيلي!
الطريف أن إسرائيل توظف في هذا المجال الاستثمارات السياسية والمالية العربية، حتى ليبدو كأن وحدة الخصم قد جمعت فوحدت الموقف بين «عرب الاعتدال» وإسرائيل التطرف التي جمعت حكومتها عتاة العنصريين ودعاة تهجير من تبقى من الفلسطينيين في أرضهم الوطنية لتهب أملاكهم التي توارثوها منذ آلاف السنين عن أجدادهم، للمستعمرين المستقدمين من أربع رياح الأرض لكي تصير فلسطين «دولة اليهود» المطهرة!
الطريف أن أجهزة الإعلام الرسمية العربية، لا سيما في تلك الأقطار التي لم تعرف الانتخابات في تاريخها، وكانت ولا تزال تحرّم «الديموقراطية» باعتبارها رجساً من عمل الشيطان، قد خاضت غمار الانتخابات النيابية في لبنان، التي رآها المواطن اللبناني الأسوأ في تاريخه، خصوصاً أنها جرت بموجب قانون طوائفي مستعاد من سنة 1960، ويعتمد الفرز الطوائفي بين اللبنانيين… وهي قد كرست صفحات خضراء وصفراء وسوداء في صحفها، وبرامج على مدار الساعة في محطاتها الفضائية للترويج «لمرشحيها» في هذه الانتخابات التي رأتها وتعاملت معها وكأنها المعركة الفاصلة بين الخير والشر، والديموقراطية والدكتاتورية، والتبعية للأجنبي مقابل الاستقلال والحرية و«لبنان أولاً»، حتى كتب لها النصر المبين!
… وفي اللحظة الحاسمة تقدمت إسرائيل لتنغص على هؤلاء المستجدين في نصرة الديموقراطية من العرب، فتدعي أنها هي من تحكم باللعبة ومن ثم بالنتائج، وهي بالتالي من يفرض شروطه عمّن اعتبروا أنفسهم منتصرين في معركة الديموقراطية التي ترى إسرائيل في نفسها منارتها الوحيدة في هذا الشرق المفروض عليه إظلام الدكتاتوريات!
II تخففت القيادات العربية من وقارها وكادت تخرج الى الشوارع في تظاهرات ابتهاج عارمة بتحقيق انتصار تاريخي مبين: لقد صدق الاحتلال الأميركي وعده فخرج من «قلب» المدن العراقية ليكتفي بالوقوف على بابها، حارساً لأمن مواطنيها، فضلاً عن توليه مهمة حماية استقلال العراق جميعاً ووحدة شعبه وأرضه الوطنية!
لا يهم أن يترافق هذا «العهد» الأميركي مع تجدد عمليات القتل الجماعي في مجازر منظمة ينسب تدبيرها الى سفاحي تنظيمات «مجهولة»، حتى وإن تسترت بلافتة «القاعدة» بهدف النفخ في نار الفتنة بين «العرب المسلمين» في العراق شيعة وسنة.
ولا يهم أن يكون الأكراد قد أنجزوا ترتيبات «استقلالهم» في شمالي العراق، مع إصرارهم على الاستيلاء على منطقة كركوك الغنية بالنفط والأقليات العرقية والطائفية والمصالح المتشابكة، وكل ذلك «يبشر» بمجازر لاحقة تسيل فيها دماء العراقيين أنهاراً، تحت سمع الاحتلال الأميركي وبصره… ربما كانت الاعتداءات المنظمة على الكلدان والآشوريين بقصد تهجيرهم من الأرض التي أعطوها تاريخها فكان فجراً للتاريخ الإنساني جميعاً، هي المقدمة أو الإنذار الناطق بالدم لما سوف يصيب الأقليات الأخرى إذا ما تمسكت بأرضها وهويتها «العراقية» ورفضت أي عملية فرز عرقي أو طائفي، وإجمالا كل محاولة لتقسيم العراق بما يهدد كيانه الوطني بالاندثار!
ولا يهم أن تكون التيارات الوطنية العابرة للطوائف قد أكدت تمسكها بوحدة التراب العراقي، فرفضت الأكثرية الساحقة من «الشيعة» شعار «الفيدرالية» الذي رفع في محاولة لفصل الوسط والجنوب عن سائر أنحاء العراق، بينما تمسكت القيادات الواعية من «السنة» بوحدة التراب الوطني، والدولة الواحدة للعراق الموحد.
المهم أن قوات الاحتلال الأميركي ستخرج من قلب المدن لتقف عند بوابتها، متيحة للسلطة أن تظهر في الصورة «مستقلة» تماماً، لها وحدها حق القرار في الشأن الوطني تأكيداً «للسيادة»!
III تحولت القيادات والمرجعيات السياسية العربية إذاً، الى «معلقين» على الأحداث، وأحيانا الى شهود زور على ما يجري من تطورات أو أحداث حتى في منطقتهم ولدولها المختلفة، أو في دول «الجيران»، تستوي في ذلك تركيا أو إيران أو حتى… إسرائيل!
أما الدول الكبرى، ولا سيما أعظمها أي الولايات المتحدة الأميركية، فهي فوق النقد، وبالطبع فوق المحاسبة حتى ان هي أخطأت معهم أو سلكت مسلكاً يفترض أن يثير فيهم حمية الثأر لكرامتهم.
… وها هي إسرائيل تذلهم مجتمعين منفردين فيتقبلون الإهانة صاغرين لأنهم كفوا عن أن يفترضوا أن فيهم من القوة، أو أنهم يملكون من أسبابها ما يفترض أن يمنع عنهم ـ أقله ـ الإهانة، بعد أن امتنع عليهم «الدور» أو أنهم تخلوا عنه تهرباً من مسؤولياته.
لنأخذ طريقة تعاطي «العرب»، عبر قواهم النافذة، مع الأحداث الخطيرة التي شهدتها إيران، خلال الأسبوعين الماضيين، بدلالاتها المباشرة وانعكاساتها المحتملة على مجتمعاتهم (وعلى دولهم بالاستطراد).
ثم، فلنتأمل في طريقة تعاطي «العرب»، عبر قواهم النافذة، مع المواقف الإسرائيلية التي توالت عليهم، رداً على خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في جامعة القاهرة، خلال رحلته المشرقية، وما تضمنه من إيماءات أو إشارات لا تصل الى حد اعتبارها خطة أو مشروع خطة متصلاً بالقضية الفلسطينية التي كانت ذات يوم القضية العربية الأولى والأخطر والأهم الى حد إضفاء قدر كبير من القداسة عليها.
فأما إزاء إيران فإن بعض «العرب» قد خاضوا فيها، من دون دعوة ومن دون معرفة حقيقية بطبيعة النظام وطبيعة المعترضين على نتائج الانتخابات الرئاسية فيها، حرباً شرسة تحت عنوان نصرة «الإصلاحيين» فيها، وكأن هؤلاء قاب قوسين أو أدنى من الانتصار لإسقاط نظام ولاية الفقيه القائم في هذه الدولة العريقة، التي تشابه في وجوه كثيرة مصر.. لا سيما بموقع الدولة في وجدان المواطن.
ولعل السلطة في مصر كانت أكثر تعقلاً من أن تدخل في مراهنات بائسة على سقوط هذا النظام الذي يستند الى ركائز دينية راسخة، بحيث تستحيل معارضته من خارجه. فحماية دولة الإسلام واجب كل مسلم، وإيران في نظر الإيرانيين (وهم مسلمون وإن كانوا شيعة) هي «دار الإسلام» وحماية دولة الإسلام واجب ديني قبل أن يكون واجباً وطنياً.
المعارضون هم أبناء النظام. ليسوا طارئين عليه ولا يرتضون أن يصنفوا أعداء. حتى المعترض منهم على شخص ولي الفقيه لا يمكنه أن يعترض على القاعدة الدينية التي يرتكز إليها المرشد…
والتصنيفات التي تقسم المعارضين الى إصلاحيين ومحافظين تصنيفات وهمية أو أنها في أحسن الحالات «مستوردة»… فبين مؤيدي كل من المرشحين من يمكن اعتبارهم إصلاحيين وكذلك من يمكن اعتبارهم محافظين. المعيار هو الصراع على السلطة من داخل النظام لا من خارجه، ولا يقل الإصلاحيون شراسة عن المحافظين في مواجهة الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً. وهكذا اتسعت المساحة أمام الدولة التي ترفع راية الإسلام.
واذا كانت طبيعة النظام ومؤسساته معقدة، فإن مواقف المختلفين واحدة من القضايا التي تواجه إيران، سواء في جوارها القريب، كالعراق، أو في محيطها البعيد فالأبعد من أفغانستان الى باكستان، ثم الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقاً.
فحيثما تصادمت الأنظمة السياسية مع الإسلام اتسعت المساحة أمام الدولة التي ترفع راية الإسلام، خصوصاً أنها «الدولة الوحيدة القوية والقادرة» بين دول الجوار.
واذا كان مفهوماً أن يصنف الغرب القوى الإيرانية حسب مفاهيمه فيرى في بعضها «إصلاحيين» وفي بعضها الآخر «محافظين»، فأي معيار يعتمده العرب لهذا التصنيف؟! من هو «المحافظ» عند العرب ومن هو «الإصلاحي»، لا سيما اذا ما أرادوا الفرز بين حكامهم؟!
أما الدين فإن العديد من حكام العرب إنما يحكمون باسم الإسلام، مباشرة أو مداورة ، بل إن بعضهم يرتكز أولاً وأخيراً الى الدين فكيف تراهم يحاسبون أولئك الحكام في إيران باسم الإسلام؟
لهذا رأينا الرهان العربي المتعجل على سقوط النظام الإيراني ينتهي بمهزلة ـ مأساة، وسيكون على هؤلاء المتعجلين غداً أن يتقدموا بالاعتذار تلو الاعتذار لأهل النظام في إيران… ولكن المهم: ماذا تراهم سيقولون لشعوبهم؟! وكيف سيعتذرون لها عن هذا التضليل المقصود وعن نتائجه التي قد يصعب تجاوزها مع الدولة الكبرى في الجوار؟!
وكيف لمن يتنازل لإسرائيل بهذا السخاء غير المبرر وغير المقبول أن يتشدد الى حد التجني مع دولة جارة ليس بينه وبينها أي سبب لعداء جديد سيضر بالطرفين.
الديموقراطية في لبنان.. فهمنا وأمرنا لله، بغض النظر عن مقاتلها!
الديموقراطية في إسرائيل.. لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
أما الديموقراطية في إيران فهي سبب لتجديد الحرب بين المسلمين والعياذ بالله؟!
فهل بين الفقهاء من يفتي بأي الديموقراطيات يطالب حكام العرب لأنها تلائم شعوبها القاصرة والتي لما تبلغ سن الرشد؟!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان