احتفلت إسرائيل، خلال الأيام القليلة الماضية، بالذكرى الثانية والستين (بحسب تقويمها الخاص) لإقامة دولتها، بالحرب، على أرض الشعب العربي في فلسطين.
وتباهى الإسرائيليون عبر احتفالاتهم بأنهم قد بنوا أقوى دولة في هذه المنطقة التي كانت «عربية»، والتي يعطيها العالم، الآن ونتيجة ثبات الكيان الإسرائيلي فيها وتفوقه على مجموع دولها، اسماً جغرافياً من خارج هويتها العربية فيسميها «منطقة الشرق الأوسط».
فإسرائيل، باعتراف أهل النظام العربي فضلاً عن إنجازاتهم في الدول التي يحكمونها أو يتحكمون في مصير شعوبها، هي الأقوى بالمطلق من مجموع الدول العربية، سواء في قدراتها العسكرية الهائلة، تقليدية ومطورة ونووية… وهي تتمتع بازدهار اقتصادي ملحوظ، وصادراتها تسجل عاماً بعد عام أرقاما فلكية، لا سيما أنها قد سجلت تقدماً قياسياً ليس في الصناعات العسكرية بل كذلك في الحواسيب والشطائر الالكترونية كما في الأساليب الأكثر تقدماً في الري بالتنقيط، مما جعلها تحتل مكانة مميزة في مجال تطوير الزراعة وزيادة الإنتاج.
بالمقابل، كان المواطن العربي يرى نفسه غارقاً في مقارنة محزنة بين أوضاع دوله العديدة، التي تقف على حافة الانهيار، في ظل هيمنة أهل النظام العربي… فهذه الدول، لا سيما الأكبر والأغنى فيها، تبدو متهالكة، تفتقر الى «الدور» والقدرة على التأثير في محيطها، وغالباً ما تسلم مقاديرها «للصديق الأميركي الكبير»، بما في ذلك مهمة حماية حدودها، وان كانت أنظمتها قوية جداً على شعوبها وشرسة جداً في مواجهة مطالبتهم بحقوقهم الطبيعية في أوطانهم.
فأما أكبر الدول العربية وأعرقها وأسبقها الى التمدن والثقافة وبناء المؤسسات، مصر، فإن بؤس الأوضاع فيها كدولة وحتى كمجتمع يملأ صفحات هذه الصحيفة والصحف العديدة الأخرى، حكومية ومعارضة وبين بين، بوقائع محزنة ومخجلة في آن، تذكّر بأحوالها في النصف الأول من القرن الماضي، مع مزيد من التردي في مجالات التعليم والصحة والسكن وأسباب التقدم الاجتماعي فضلاً عن ضمور الدور السياسي، لا سيما اذا ما قيس بالدور الإسرائيلي، عالمياً، بل حتى في آسيا وأفريقيا، ناهيك بالمستوى العربي.
بعد مصر ومعها نتوقف أمام السودان الذي خاض شعبه في بحور الانتخابات الرئاسية والتشريعية والجهوية، في ظل نظام عسكري لم يشتهر عنه إيمانه بالديموقراطية… وهي انتخابات فاز فيها النظام، عبر رجاله، بما يشبه الإجماع، وان هي فتحت الباب على مخاطر جدية على وحدة السودان جميعاً.
ولقد التقينا في بيروت، السيد الصــادق المهدي، رئيس الحكومة الأسبق وزعــيم حزب الأمــة الذي كان له دور مشهود في التاريخ المعاصر للسودان، وهو كان قدم للمــشاركة في مؤتمر حول «الوسطية»، انعقد الأسبوع الماضي في العاصمة اللبنانية.
في تقدير الصادق المهـدي أن النــظام سوف يفوز في الانتخابات، لكن دولة السودان سوف تتفكك، وان الجنوب سيذهب الى مصيره في الاستفتاء المقرر تنظيمه نهاية هذا العام، والذي تدل المؤشرات جميعاً على أن انفصاله واقع حتماً، لا سميا أن أرضه تختزن النفط، والنفط جلاب الدول… والولايات المتحدة الأميركية تراهن على هذا النفط كمدخل «للاستيلاء» على الجنوب، وربما لهذا «تساهلت» مع انتخابات البشير!
أما الانتخابات الأطول في التاريخ فهي التي شهدهــا العراق تحت الاحتلال الأميركي في أوائل شهر آذار ـ مارس المــاضي، والتي لما تعلن نتائجها النهائية، رسمياً، لأن المطالبات المتعددة الصوت فرضت إعادة الفرز، يدوياً هذه المرة بعد تقديم طعون حول سلامة الفرز الأول، أو دقته، لا سيما أن الفارق بين اللائحتين «الفائزتين» الأولى والثانية كان ضئيلاً، ويمكن أن يتبدل «الكيان» الفائز، وتتبدل بالتالي صورة الحكومة الائتلافية بالضرورة برئيسها أساساً والوزراء إذا ما «حذفت» بعض الأصوات المطعون بصحتها، مع كل ما يمكن أن يرافق ذلك من تطورات «على الأرض».
والأرض في العراق تحت الاحتلال الأميركي حبلى بالمفاجآت الدموية، وخلال الأسبوع الماضي سقط أكثر من ستين قتيلاً وحوالى مئتي جريح بين المصلين الذين كانوا يؤدون فروضهم الدينية في المساجد والحسينيات في بغداد، ومدينة الصدر فيها خاصة، كما في ديالى وجهات أخرى، بما ينذر بعودة التفجيرات كتعبير ديموقراطي تمارسه «القاعدة» ضد المواطنين البؤساء وبهدف تفجير الفتنة بين المسلمين، في حين أنها لم تهاجم قوات الاحتلال إلا في ما ندر.
ولقد تسنى لي أن ألتقي، خلال الفترة التي سبقت الانتخابات، كما بعد إعلان نتائجها، عدداً من القيادات السياسية والدينية ـ السياسية التي جاءت الى بيروت لأسباب شتى، وعقدت لقاءات مع مرجعيات وقوى وهيئات رسمية لبنانية بعضها طبيعي ومفهوم، وبعضها الآخر يستوقف المتابع، لأنه من خارج التوقع.
لأمر ما، تحولت بيروت على امتداد الشهور الثلاثة الماضية، الى محطة لمختلف الأنشطة الترويجية والتسويقية، داخل السياسة وخارجها، فتوافد إليها العديد من «الأقطاب» الذين تزعموا «الكيانات» أي اللوائح الانتخابية، أو انضووا تحت لوائها في مظهر ديموقراطي للمنافسة في ظلال الاحتلال.
.. مع أن بيروت، بل لبنان جميعاً، ليس بين المراكز الكبرى لتجمعات الذين ألجأهم الرعب والخوف على أبنائهم من المجازر ذات الطابع الطائفي والمذهبي، ليمكن الافتراض أن هؤلاء «الأقطاب» جاؤوا بهدف التواصل مع الناخبين المفترضين أو الترويج لكيانات سياسية معينة تخوض المعركة لنصرة الديموقراطية.
كانت بيروت، والحال هذه، «المركز الدولي» للتواصل مع أشتات العراقيين الذين نشرهم الرعب على مساحة الكون، وكذلك مع قوى النفوذ العربي والدولي، مباشرة أو عبر الوسطاء والسماسرة الذين يتمتعون بحرية الحركة تواصلاً وتخابراً… ثم إنها عاصمة السرية المصرفية حيث لا قيود على تحويل الأموال من حساب الى آخر.
وحرية التحويل، كما تعلمون، إحدى ركائز الحريات العامة والسياسية منها، خصوصاً، كما تعلمون. فالديموقراطية في ظل النظام العربي يحققها تحالف السيف والدينار الذي صار دولاراً أو يورو بعد تراجع الاسترليني.
كانت حركة الأقطاب علنية في جوانب منها: زيارات لمواقع رسمية في السلطة، ولمرجعيات دينية معروفة، ولقاءات سرية تغلفها الشائعات والتكهنات مع دبلوماسيين أو رجال مخابرات مقنعين بالحصانة الدبلوماسية، يفضل أطرافها أن تتم في غفلة من عيون الفضوليين، عراقيين أو سوريين أو أردنيين أو لبنانيين، أو من جنسيات أخرى يمكن تمويهها أو يسهل عليها التحرك والتلاقي وتبادل المعلومات والخبرات بسهولة، وسبحان من سخر الذهب لتسهيل كل صعب.
جاء الى بيروت، قبل الانتخابات ثم بعدها، كل من إياد علاوي، والسيد عمار الحكيم وأحمد الشلبي وإبراهيم الجعفري وبعض مستشاري الرئيس جلال طالباني، ثم الزعيم الكردي مسعود البرازاني وغيرهم كثير… ولوحظ أن البعض من هؤلاء جاء مباشرة بعد زيارة السعودية حيث استقبل الملك عبد الله بن عبد العزيز العديد من رجال الصف الأول في الكيانات السياسية، سنة وشيعة، عرباً وأكرادا…
وفي لقاءات جمعت بين بعض أهل الرأي من اللبنانيين المكتوين بنيران الحروب الأهلية التي تمددت لدهور في الوطن الصغير، وبين بعض هؤلاء الزوار كان الحوار «يتركز» على وجوه الشبه بين العراق ولبنان!
وكان ذلك المنطق غريباً: فالعراق بلد عربي كبير، ليس فيه مشكلة هوية، لان أكثريته الساحقة «عربية»، فاختلاف الانتماء المذهبي لا يبدل الهوية الوطنية والقومية، ثم ان حقوق الأقليات، لا سيما الأكراد، مصونة بالتوافق على مبدأ «الحكم الذاتي» ضمن سيادة الدولة المركزية الواحدة في العراق… في حين أن أصحاب الحل والربط متوافقون على توفير الحريات السياسية والدينية للأقليات المحدودة الأعداد من غير العرب والمسلمين: تركمان آشوريين وكلدان وصابئة ويزيديين.
وحتى بعد إعلان النتائج غير النهائية للانتخابات في العراق جاء الى بيروت عدد من الأقطاب «للتشاور» مع «جهات لبنانية» لم تعرف عنها العبقرية السياسية أو الاهتمام بالعراق، ماضياً وحاضراً، والقدرة على التأثير، وان كانت «مراكز اتصال» أو «صناديق بريد» لقوى مؤثرة في الخارج، ارتُئي أن يتم التواصل معها خارج العراق لضمان السرية الضرورية لتأمين الصفقات السياسية حول المستقبل.
وبطبيعة الحال لم يكن مستساغاً التطرق الى الاحتلال الأميركي أو السؤال عن مدى تأثيره بالمئة والخمــسين ألف جندي المنتشرين في 400 قاعدة في مختلف أنحاء البلاد، عدا مرتزقة «البلاك ووتر» في ديموقراطية العملية الانتخابية، ولا عن الدور الإيراني ونفوذه المعروف داخل الأوساط جميعاً، عربية وكردية، شيعية وسنية.
كان الكل يفضل الجواب بتعابير لبنانية: تعرفون أن العراق متعدد القومية والعرق والمذاهب، مثلكم هنا، ولا بد من مراعاة خصوصياته؟
ولم يكن أي منهم يبدي الرغبة في أن يسمع، لا سيما حين يتم لفت انتباههم الى أن الخصوصيات اللبنانية إنما هي استثمار مفتوح للأجنبي، بل لعل القصد من إنشاء هذا الكيان السياسي كمجمع للأقليات، طائفية ومذهبية، مع تعظيم الخلاف على الهوية انطلاقاً من الدين وكأنه محدد للارتباط السياسي (مع الغرب، الفرنسي ـ البريطاني ثم الأميركي، أو مع الشرق السوري، أساسا، والمصري في زمن مضى، ثم العراقي في وقت لاحق، والسعودي دائماً وان بمستوى أضعف)… وان العراق وطن طبيعي لأهله، لا هو شهد حروباً طائفية أو مذهبية، أو حتى عرقية… مع التنويه بأن قيادات العروبة، رسمية وسياسية، لم تتأخر يوماً عن إعلان تأييدها لحصول أكراد العراق على حكم ذاتي داخل دولته الموحدة.
كان كل زوار بيروت يتحدثون بتفاؤل عن مستقبل العراق وكأن الانتخابات محطة فاصلة بين عصرين: عصر الخلافات والصدامات والصراعات التي كثيراً ما تتخذ من الموضوع المذهبي وسيلة لتفجير القرى والبيوت بأهلها نساء وأطفالاً ورجالاً، وعصر الديموقراطية الآتي فجراً بعد ليل الطغيان الطويل.
لم يكن أحد منهم ليتوقف عند الاحتلال الأميركي وتأثيراته غير المحدودة على سياق الأحداث، بل كانوا جميعاً يقفزون من فوق هذا «التفصيل» المعكر لصفو أحاديثهم المتفائلة وثقتهم بالانتصار على «خصومهم» بالديموقراطية وليس إلا بها… بل ان بعضهم لم يكن يتورع عن الادعاء أن الاحتلال الأميركي يتعجل الانسحاب، وانه سيضمن الحرية والديموقراطية وتكافؤ الفرص والاقتراع بغير ضغوط أو تأثير وإعلان النتائج طاهرة منزهة عن أي غرض، ثم انه سيضمن قيام حكم جديد مؤهل لتسلم عراق غير منتقص السيادة.
…ثم جاءت «البشرى» بتصفية بعض قيادات «القاعدة» في العراق، لتليها بعد أيام قليلة أخبار التفجيرات (13) التي حصدت مئات القتلى والجرحى في أحياء عدة من بغداد، أخطرها في مدينة الصدر، وفي أنحاء أخرى من العراق مستهدفة الشيعة بقصد تحوير الصراع وإظهاره مذهبياً.
وعاد شبح الخوف على العراق يحوم في الأجواء، وكأن الانتخابات لم تكن، لا سيما أن أطرافا عدة استرجعت تعابير عفا عليها الزمن في توصيف المرحلة المقبلة.
وواضح أن إعلان ولادة جمهورية عراقية عربية الانتماء والدور متحررة من الاحتلال الأميركي وبنظام ديموقراطي يحقق طموحات شعبها ستتأخر لبعض الوقت..
.. وأما اليمن وتونس والجزائر وغيرها فتستحق وقفة مطولة أمام علاقة أنظمتها بالديموقراطية وبالعروبة، ثم أمام مستقبلها كدول.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية