تسمر ملايين العرب، خارج مصر، أمام شاشات الفضائيات ليتابعوا «صنع التاريخ بالقانون»، على حد توصيف بعضهم وقائع الجلسة الفريدة في بابها والتي ستتوج محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني السيد مبارك وعهده.
كانوا يقفزون بتمنياتهم من فوق التعثرات التي أضرت بصورة «الميدان» وأعجزته عن الإنجاز المرتجى، مفترضين أن هذا المشهد الحضاري الفريد في بابه قد يعوض ما خسرته ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011 من زخمها وجذريتها بانكشاف النقص في كفاءتها أو تحديداً في جهوزيتها لإنجاز المهمة بإسقاط النظام الدكتاتوري، برموزه وركائزه كافة وليس برأسه فحسب.
بدوا واثقين من القاضي الذي قدم نفسه منذ اليوم الأول للمحاكمة في صورة تليق بالسمعة الممتازة ـ تاريخياً ـ للقضاء في مصر، عندما يحرر نفسه من قيود ولي الأمر السياسي، سيختم مهمته بما يتناسب مع خطورتها كمساهمة جدية في صناعة «الدولة الجديدة».
استمعوا بانتباه إلى المطالعة ـ المقدمة المكتوبة بعناية والتي أعطاها الصوت المتهدج للقاضي، الذي يدرك انه إنما يخاطب التاريخ، مضموناً يليق بالمهمة التي ندبه لأدائها القدر، وسط الصمت المهيب السائد في قاعة المحكمة المرتجلة وخارجها، متجاوزاً حدود مصر إلى أربع جهات الوطن العربي، ومن خلفه عواصم القرار في الكون جميعاً.
مع نطق القاضي بعبارة «السجن المؤبد لمحمد حسني السيد مبارك» علت الهتافات وأفلتت صيحات «الله اكبر» و«يحيا العدل» لتتكرر مع نطقه بالحكم ذاته على وزير داخلية الطاغية المخلوع حبيب العادلي.
بعد ذلك تبدلت لهجة القاضي وتبدل استقبال الجمهور داخل القاعة وخارجها، وسرى الغضب في الحشد الذي كان يركز نظره وعقله وأحاسيسه جميعاً في أذنيه، قبل أن يتفجر عارماً في كل مكان، ليعود اليأس فيسيطر على الناس الذين كانوا يتابعون وقائع مشهد هو أجمل من أن يصدق، وهو بالتالي اخطر من أن يتحقق!.
في لحظة انتبه الناس، داخل مصر وخارجها، إلى أنهم ذهبوا بعيداً مع تمنياتهم وأحلامهم، فالثورة التي صودر ميدانها من قبل أن تكتمل لا تستطيع أن تنجز في المحكمة ـ وضمن الظروف التي عاشتها خلال الشهور الستة عشر- ما قصرت عنه، سواء بسبب من اختلاف أهلها أو بسبب من نقص في أهليتهم، وهم الذين تلاقوا من دون تخطيط ومن دون برنامج مشترك وبقيادات وقوى مختلفة فكرياً وسياسياً إلى حد التناقض ـ ما لم يستطع الميدان أن يحسمه ويقرر فيه.
تفاقم الإحساس خارج مصر، تماماً كما في داخلها، بالخطر على الثورة من الاغتيال، أو تحوير مسارها.. واستقر في اليقين ما كان موضع شك منذ فترة طويلة: المجلس العسكري بكل ارتباكاته وطبيـعة وظيـفته وظـروف وصـول أعضائه إلى مواقعهم، وحرصهم على امتيازاتهـم الكثـيرة، لا يمكن أن يكون من الثورة وفيها… بل هو، بالتـكوين، ضدها، وإذا كـان قد امتـنع عن مواجهتها فلأنه اضعف من أن يتصدى لتلك المهمة مباشرة، وهو قد نجح في احتوائها ثم تواطأ على أهدافها، مستفـيداً من تناقض فكري وسياسي بين مكوناتها، عبر محطات محورية بينها: إرجاء مهمة وضع دستور جديد ليكون قاعدة ثابتة للتغـيير، ثم التـلاعب بالميـدان عبر مناورات عديدة شملت تغييرات متواترة في تشكيل الحكومة، وإشــغال الناس بانتخابات مجلسي النواب والشورى، بحيث تقسمهم المصالح والمطـامح، وتفرق صفوفهم الأغراض، أو يضرب اليأس تطلعاتهم، فيقبلون بالأمر الواقع، ثم يذهبون إلى الانتخابات الرئاسية وقد صار الميدان من الذكريات.
وهكذا، وبقوة الأمر الواقع ، ينحصر التنافس على الرئاسة بين القوتين الأكثر تنظيماً، والأغنى بالمال والقدرة على التأثير بالشعار الديني، في حين يتصادم الأبناء الشرعيون للميدان، في صورته الثورية الأولى، خصوصاً أنهم عجزوا عن التوحد او حتى عن التلاقي على برنامج مشترك، مما جعلهم يواجهون بعضهم بعضاً في الانتخابات، بدل أن يواجهوا متحدين، وبمرشح واحد تتقاطع عنده مصالحهم المشتركة، مرشحي النظام القديم وشعار الإسلام السياسي… وهما، في تقدير كثيرين، وجهان لعملة واحدة، وقد كانا على قدر من الشراكة داخل نظام مبارك.
وقع الحكم الذي أصدره القاضي احمد رفعت على الناس، داخل مصر كما في خارجها، وقوع الصاعقة، ورأوا فيه محـاولة (جـديدة) لاغتيال الثورة. وكان طبيـعياً أن يتهموا المجلس العسكري بالتــدخل، وأن تـتركز الاتهامات على النيابة العامة التي تذرعت بأنها لم تستطع تأمين الأدلة والبراهين الكافية لإدانة أركان وزارة الداخلية والذين يحـملون المسـؤولية عن قتل المتظاهرين وعن تشويه صورة الميدان ومحاولة حرفه عن أهدافه التي جيشت الناس ودفعتهم الى «الإقامة» في الميادين حـتى تحقيق المطالب.
ولقد فهم الناس، داخل مصر كما في خارجها، أن الحكم يقدم تزكية مجانية لآخر رئيس للحكومة في عهد مبارك، وهو الفريق احمد شفيق، بوصفه ضمانة لاستمرار الوضع على ما هو عليه… فشفــيق هو ابن المؤسسة العسكرية، وسيكون حريصاً ـ بالتالي ـ على الامتيازات الهائلة التي تتمتع بها، والتي كان ينظر أليها دائماً على انها «رشوة» تقدم للجيش حتى لا يهتم بالسياسة، وينشغل بالتقديمات التي يحظى بها ضباطه… خصوصاً أن تنازلات النظام المتتابعة عن مقومات السيادة الوطنية كانت تخرج احتمالات الحرب او المواجهة مع العدو الإسرائيلي من أي حساب، اما الصديق الاميركي الكبير فيقدم المنح والسلاح والذخيرة والتدريب وكأنه «جمعية خيرية».
ماذا كان وقع الحكم على حسني مبارك خارج مصر؟!
لنترك الجماهير تتجرع الإحساس بالخيبة والخوف على ثورة مصر، بل وعلى مصر ذاتها، التي لن تسكت عن اغتيال ثورتها.
لنلتفت الى الحكام العرب وكيف تلقوا «الصدمة».
من المؤكد، بداية أن أهل النظام العـربي من ملوك وأمراء وشيوخ، إضافة إلى ملوك الطــوائف وأمراء الفتنة في مختلف أرجاء الوطن العـربي الفسيح، قد تلقوا هذا الحكم الذي حصر جريمة تغيـيب مصـر عن دورها، بل وإلغاء هذا الدور الحاسم، بشـخص الطاغية منـفرداً ومعه جلاده بارتياح بالغ.
لقد شعر هؤلاء جميعاً بأن أعلام الثورة قد طويت، واندفع بعضهم يهنئ البعض الآخر، والأرجح ان جميعهم قد تواصلوا مع المجلس العسكري، في صورة او أخرى، مهنئين على «هذا الإنجاز التاريخي».. فهو قد نجح، او يكاد، في إفراغ الثورة الشعبية من مضمونها، عبر سلسلة الإجراءات التي اتخذها منذ أن ولى نفسه السلطة بديلاً من رئيسه المخلوع، قبل سبعة عشر شهراً، فوفر بذلك فرصة لأعداء الثورة للانقضاض عليها وحرفها عن مسارها الذي بشرت به ملايين الميدان.
«الآن نستطيع ان ننام ملء جفوننا. لقد بقيت مصر حيث نريدها أن تكون. لن تزعجنا كوابيس الثوار وهم ينصبون المشانق لرجالات العهد الماضي، او يقيمون المحاكمات الثورية التي كان مقدرا لها ـ لو تمت ـ ان تفضح أدوارنا داخل مصر وفي سائر أنحاء الأرض العربية».
كذلك فقـد عم الارتيـاح أوسـاط الطوائفيـين والمذهبـيين، في مخـتلف أقطار المشرق العربي، بعد الاطمــئنان الى ان الثورة قد أجــهضت، وان مصر ستظل في غيبـتها بعيداً عن دورها الذي لا تعوضها فيه اية دولة عربية، وبالتالي فإن قدرتها على التغيير في محيـطها ستتضاءل، مفسحة في المجال أمام أنظـمة الاستبـداد العـربي للتأثير فيها بذهبـها وبمـشاركتها في الحصار الاميركي ـ الإسرائيلي على مبدأ الثورة وقواها الحية.
وبالتأكيد فإن دعاة الفتنة الدينية او الطائفية في المشرق هم الآن أكثر اطمئناناً الى ان مصر لن تعود للعب دورها القيادي، التحرري والتحريري، في منطقتها، وأنها ستغرق في مشكلاتها الداخلية، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، زمناً طويلاً، وبالتالي فلا خطر منها على الذين هاجروا من هوياتهم وتخلوا عن مصالح بلادهم للأجنبي.
وحدها إسرائيل جاهرت بارتياحها، وتخلت عن لهجة التهديد التي كانت اعتمدتها مع احتمال ان يتوحد الميدان خلف مرشح واضح الهوية، عربياً، وواضح النهج الإصلاحي الجذري، داخلياً.
وفي تقدير أي مواطن عربي معني بشؤون مصر، باعتـبارها الدولة الوحيدة المؤهلة لقيادة هذه الأمة، ان فوز أي من المرشحين للرئاسة، سواء الإسلامي او العسكري، لن يعني له احتمال التقدم على طريق أحلامه او تمنياته.
سيكون، أمام الناخب المصري، خيار من اثنين أحلاهما مر.
أما بالنسبة للعربي خارج مصر فما زال يأمل أن يكون للميدان دوره في الغد، من اجل استكمال مهمته.
والكلمة للميدان بعد… أو هكذا يتمنى العربي خارج مصر، مفترضاً أن تلك هي أمنية المواطن المصري أيضاً.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية