كشفت زيارة الرئيس الأميركي باراك اوباما لإسرائيل سقوط «العرب» من الذاكرة السياسية لدول العالم، الكبرى أساساً، وتحول دولهم عموماً إلى «محميات» أو إلى «ملحقات» بالغير، أو إلى جزر معزولة متروكة لقدرها…
لقد فقد العرب موقعهم المؤثر، ليس فقط على القرار السياسي الدولي بل أساساً على ما يتصل بقضاياهم القومية كما بشؤونهم المحلية المباشرة.
لم يعد «العرب» موجودين، بالمعنى السياسي، لا كمجموعة ذات دور فاعل، أو قوة تأثير، حتى في ما يتصل بأمنهم القومي أو بدورهم في العالم، ولا كدول ذات هوية محددة تجتمع على الحد الأدنى من المصالح المشتركة، أو على مواجهة مخاطر الانقراض وافتقار القدرة على حماية الذات، فضلاً عن التأثير على القرار الدولي المتصل بشؤونهم.
ولعل زيارة الرئيس الأميركي قد أكدت – مجدداً – أن الإسلام السياسي قد أنجز مهمته التاريخية: محاولة طمس الهوية الجامعة بين الدول العربية، وتظهير الخلافات بين القوى الحية في المجتمعات العربية عن طريق إعلان حرب مفتوحة بين الإسلام والعروبة ستنتهي بتدميرهما معاً، بحيث تجرد هذه المنطقة الممتدة بين المحيط والخليج من هويتها عبر تسميتها الجديدة: «الشرق الأوسط الجديد».
وليس في «الشرق الأوسط الجديد» إلا دولة مركزية واحدة هي إسرائيل، ومجموعات من القبائل والطوائف والمذاهب والإثنيات المتصارعة، والتي عليها أن تقتتل من دون أن تؤثر على مصادر الطاقة، إنتاجاً ووسائل مواصلات بحرية وبرية…
لم يفعل باراك اوباما في خطبه كما في وقوفه أمام المقدسات السياسية لدولة يهود العالم إلا توكيد التسليم بالشراكة الكاملة مع إسرائيل، باعتبارها الدولة المركزية لهذا الإقليم، مع لفتات تعاطف إنساني مع تلك الأقلية العربية فيها، التي كانت صاحبة الأرض التي اسمها فلسطين، وآن لها أن تنسى التاريخ والجغرافيا وتتأقلم مع واقعها الجديد… وسوف لن تبخل عليها واشنطن بما يسد الرمق، على أن تبقى منقسمة إلى حد المخاصمة: فالفلسطينيون ممن صاروا «رعايا» من الدرجة الثالثة في دولة يهود العالم هم «إسرائيليون»، ومن في الضفة الغربية هم «فلسطينيو» الدولة التي لا ارض لها، أما في غزه فهم «جماعة حماس» التي لا يمكنها أن تعوض غياب المركز ولا بوسعها أن تجسد القضية بأصلها وثوابتها.
يكفي الالتفات إلى الاختلاف الفاضح بين خطاب الرئيس الأميركي في جامعة القاهرة أثناء زيارته مصر في حزيران 2009 ومضمون خطبه المكتوبة أو تعليقاته المباشرة وإشاراته خلال زيارته الأسبوع الماضي إلى إسرائيل، للتثبت من عمق اختلاف مواقف اوباما اليوم عنها في زيارته الأولى إلى المنطقة العربية.
في القاهرة، قبل أربع سنوات، كان باراك اوباما مبشراً بعهد جديد في العلاقات الدولية عموماً، مذكراً بأصوله الأفريقية وبوالدته المسلمة ونشأته في اندونيسيا، لكي يؤكد تفهمه لضرورة بذل الجهود من أجل تسوية عادلة للمسألة الفلسطينية، ومن ثم لعلاقات طبيعية مع الدول العربية خصوصاً والعالم الإسلامي عامة…
أما في إسرائيل، التي جاء لزيارتها وحدها، باعتـبار أن الأردن «حديقتها الخلفية» كما كان يقول بعض أسلافه، فقد تحدث باراك اوباما عن «تحالف لن ينكسر»، وجال على أضرحة مؤسس الفكر الصهيوني هرتزل وبناة الدولة الإسرائيلية من بن غوريون إلى اسحق رابين وغيرهما، وكأنهم من أبطال الاستقلال الأميركي.
بل إن اوباما قد تجاوز نتنياهو في حديثه عن أهمية إسرائيل وخطورة دورها، باعتبارها الوجه الآخر للولايات المتحدة الأميركية، وكاد يختصر فيها المنطقة جميعاً، في حين كان نتنياهو يتعهد في خطابه أمام الكنيست بالحفاظ على إسرائيل الدولة الواحدة الموحدة، مؤكداً انه سيعيد طرح مشروع القانون الدستوري الـذي يعتبر إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي ويلزم المحكمة الدستورية العليا أن تحكم لمصلحة يهودية الدولة.
تصرف اوباما على أساس أن إسرائيل هي الشرق الأوسط الجديد، جميعاً، وبرغم ذلك لم يكن قادة الكيان الصهيوني «لائقين» معه… وعامله نتنياهو وكأنه آت لطلب المغفرة، ويكفيه أن يأكل الفلافل والحمص بطحينة باعتبارهما من أساسيات المطبخ الإسرائيلي… ثم يجول في «المحمية الفلسطينية» للتأكد من الفوارق الحضارية الهائلة بين الحضارتين، وانعدام التأثير العربي على المشروع الإسرائيلي بتهويد القدس المحتلة، وتخلي عرب النفط خصوصاً عن كل ما يمكن أن يستفز «أقوى دولة» في المنطقة، بدليل موقفهم من الحرب الإسرائيلية على غزة، وكذلك بالتنكر لالتزاماتهم بتأمين الأموال اللازمة للسلطة الفلسطينية كي توفر الطعام لشعبها وليس السلاح لتحرير الأرض.
هو «التحالف الذي لن ينكسر»، إذن بين أميركا وإسرائيل، والشرق الأوسط ليس إلا إسرائيل.
لم يشر باراك اوباما، ولا نتنياهو، بكلمة إلى «الربيع العربي» والى دور «الإسلام السياسي» الذي قفز إلى السلطة في أكثر من دولة عربية، وإن كانت نتائج ذلك كله قد تبدت واضحة في الاطمئنان الذي تعيشه إسرائيل، بحيث خلت الخطبة من النبرة الدفاعية عن الدولة المهددة، وقدمت بديلاً منها الدولة القادرة والمؤهلة والمستعدة للهجوم على إيران استكمالاً للهيمنة على المنطقة جميعاً.
على أن «مبادرة اوباما» لمصالحة إسرائيل مع تركيا، بوصفها الدولة – النموذج للإسلام السياسي كانت ذات دلالة: فارتباط تركيا بالقرار الأميركي، وعلاقة تركيا بإسرائيل، هي من الثوابت في منهج الإسلام التركي.
على أن الأخطر في «شؤون الاعتماد» أن يكمل الإسلام السياسي ما باشره حكم الاستبداد، أي مواجهة العروبة وإنكار دورها كهوية أصيلة لهذه الأرض وشعوبها، وشطب فلسطين كقضية جامعة، من والاها فهو الصديق، ومن حاول تقزيمها تمهيداً لمحوها من الذاكرة قبل الخريطة فهو العدو.
ومن خلال زيارة باراك اوباما لإسرائيل، وتصريحاته فيها، وجهده في مصالحة نتنياهو مع بطل النموذج الناجح للإسلام السياسي ورئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان، تأكد انه لا حاجة لبطل عربي للإسلام السياسي، خصوصاً ان رموزه، في مصر وتونس فضلاً عن ليبيا، وقبل الوصول إلى «مجاهديه» في سوريا، ليست مشجعة، فضلاً عن أنها ليست كفوءة، بدليل تخبطها في الحكم الذي تيسر لها الوصول إلى سدته في لحظة قدرية.
بل إن باراك اوباما تصرف، عبر زيارته لإسرائيل وخطبه ولفتاته فيها (ومجاملاته في رام الله)، وكأن لا عرب في منطقة الشرق الأوسط… وشطب هوية المنطقة يبدو مقصوداً ومخططاً له لكي تصبح إسرائيل، هي «الدولة»، وهي «المركز» والباقي «ملحقات»… وطالما لا عرب فلا شعب في فلسطين بل جالية أجنبية أو ضيف ثقيل على دولة يهود العالم.
ولم يكن ممكناً أن تتم مثل هذه التصرفات النابية لو أن «العرب» حاضرون في ذهن اوباما، أساساً، ومن بعده في ذهن نتنياهو.
يمكن القول إن اوباما قد أفاد من غياب مصر العالقة في براثن التنظيمات الإسلامية، إخواناً وسلفيين، وهو غياب أفقد «الوطن العربي» مركزه… وكذلك من غياب سوريا الغارقة في أزمتها الدموية التي تكاد تذهب بها كدولة – مفتاح في المشرق العربي، ومن غياب العراق الدولة التي كانت مهابة وقادرة على لجم الاندفاعات الهوجاء للمسؤولين في الجزيرة والخليج تحت ستار الخوف من إيران.
باختصار، فإن الإسلام السياسي الذي وصل إلى السلطة في بعض الدول العربية هو إسلام مدجن وعاقل وناطق بالانكليزية… وغالباً ما يلتبس عليه الأمر في النظر إلى إسرائيل، إذ يرى فيها الولايات المتحدة الأميركية.
هل يفسر هذا كله تصاغر الرئيس الأميركي باراك اوباما أمام إسرائيل واندفاعه إلى نفاق نتنياهو بهذا الشكل النافر؟!
لعله افترض أن العروبة باتت من الماضي، وأن الإسلام السياسي لا مستقبل له إلا كتابع، قراره في واشنطن، واستطراداً فلا يمكن أن يكون معادياً لإسرائيل، وبالتالي فقد تعامل مع نتنياهو بوصفه الرجل الأقوى «في هذه المنطقة»، وصاحب القرار فيها سلماً وحرباً.
هل صار الشرق الأوسط إسرائيل فقط ومعها بعض المحميات التي كانت عربية فخرجت من العروبة وعليها إلى التيه بالشعار الإسلامي تحت العلم الأميركي؟
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية