يأتي الإسلاميون الى السلطة في العديد من الأقطار العربية مشبعين بروح الثأر من الماضي، فيثيرون القلق على الحاضر والخوف على المستقبل.
وفي العديد من الإجراءات المرتجلة، فضلاً عن التصريحات والمواقف الارتجالية، يتصرفون وكأنهم قد اختطفوا السلطة خلسة، في عملية انقلابية تمت في ليل، وليس نتيجة لانتخابات ديموقراطية.
هل هذا نقص في الثقة بالنفس، أم هو صادر عن الافتراض أن « اللحظة» التي مكنتهم من القفز إلى السلطة عارضة، وسرعان ما سوف ينتبه الناس إلى أنهم قد اندفعوا «للتعويض» على الإسلاميين حقب اضطهادهم، بعواطفهم أكثر مما بعقولهم او حتى بمصالحهم؟ بمعنى آخر: هل تصرف الناس ـ عفوياً ـ بالرغبة في الانتقام من العهد الدكتاتوري المسقط في الميدان، عائدين الى موقفهم المبدئي برفض كل السياسات التي كانت معتمدة، والتي يشكل «اضطهاد الجماعات الإسلامية» وكل من التجأ إلى الدين هرباً من الظلم والعجز عن التغيير عنواناً لها؟. هل هي إعادة اعتبار إلى حاملي راية الدين الحنيف أم هو تفويض لهؤلاء بصياغة المستقبل، سياسياً واجتماعياً وثقافياً؟.
لقد استغنى «الإسلاميون» فجأة عن التقية، وبادروا إلى الهجوم ومصادرة «الميدان»، حيث لم يكونوا طليعة من اندفعوا إليه، ولا كانت شعاراتهم وراياتهم ومبادئهم هي الطاغية أو الغالبة فيه… وهكذا حصدوا نتائج المبادرات التي اندفع إليها من يخالفهم الرأي، ومن لا يقر بصوابية دعوتهم، بل ويجاهر بالاعتراض على سلفيتها او أصوليتها، فوضعوا الجميع ـ عبر الانتخابات التي جرى تنظيمها، بمواعيدها وضوابطها – بالتواطؤ مع العسكر الذين تولوا إدارة المرحلة الانتقالية، أمام «امر واقع» غير سوي.
ومع أن للإسلاميين، عموماً، وللإخوان منهم بشكل خاص، تاريخاً حافلاً بالاضطهاد والمساومة والتحالف والتصادم مع النظام الذي كان قائماً (وهو نظام عربي واحد وإن تمايز بعضه عن البعض الآخر في التفاصيل)، إلا أن ذلك وحده لا يكفي لتأكيد جدارتهم بحصر إرث النظام الساقط فيهم – لا سيما في مصر- ولا هو يشكل التزكية المطلقة لهم، إذ لم يكونوا وحدهم «المضطهدين»، ولم يتحملوا وحدهم أثقال السجون والنفي ومعاناة النبذ والاستبعاد ووضعهم تحت الرقابة الدائمة.
… بل إن معظم المنتسبين إلى أحزاب أو تيارات سياسية يسارية أو ناصرية أو عروبية، أو حتى كيانية، قد تعرضوا للسجن والاضطهاد والتشريد، في الأقطار العربية كلها (بما فيها مصر) التي حكمها طغاة استولوا على الحكم بانقلاب عسكري، غالباً، أو ورثوا الحكم الانقلابي عن أبطاله ثم سجنوا من كانوا في موقع المورث أو الشريك لينفردوا بالسلطة.
يمكن هنا استذكار تجارب عديدة في أكثر من قطر عربي, الأقرب هي ليبيا، حيث لم تكن هناك أحزاب بالمعنى المعروف، ولكن كانت هناك تجمعات أو هيئات اقرب إلى العمل الاجتماعي منها إلى السياسة. وقد حلت هذه جميعاً، أو ُأجبرت على الدخول في بدعة «المؤتمرات الشعبية»، أو اعتقل العديد من الناشطين سياسياً، وبعضهم لسنوات عدة، ومنهم من سجن لعشرين أو حتى لثلاثين سنة… أما رفاق السلاح ممن شاركوا العقيد معمر القذافي في حركة «الفاتح من سبتمبر»، والتي كانت كلمة السر فيها «القدس» فقد انتهى بعضهم الى المنفى، في حين اعدم البعض الآخر عبر عمليات اغتيال منظمة طاردتهم حتى في منافيهم… ولذلك يبدو المجتمع الليبي، بعد إسقاط «الأخ العقيد» وكأنه بلا رأس، وتبدو «القيادة» المستولدة على عجل، والتي تشهد تبديلاً أو تعديلاً أو تغييراً، بين الحين والآخر، تائهة، تلجأ الى الشعار الديني بوصفه «الموحد» فتطل «القاعدة» وبعض التنظيمات الإسلامية المستولدة حديثاً، لتعتبر نفسها القيادة النموذجية للحكم الإسلامي.
أما في العراق، وتحت حكم صدام حسين، وكذلك في سوريا وتحت حكم حافظ الأسد، فقد استخدم حزب البعث العربي الاشتراكي كستارة لانفراد «القائد» بالحكم، بعد إتمام السيطرة المطلقة على مختلف مؤسسات الدولة وهيئات المجتمع المدني، بالجيش والمخابرات. وقد تعرضت الأحزاب ذات التاريخ، والتي كانت قائمة، لعملية «تذويب» منهجية بالاعتقال لمدة طويلة، إما بالاغتيال المنظم، وإما بقتل القياديين البارزين في السجن وبتهم مشينة ( كما جرى لفؤاد الركابي في سجن النهاية ببغداد).
.. ولأن العروبيين بخاصة، والتقدميين عموماً، كانوا ـ في البدايات ـ شركاء في العملية الانقلابية، وحلفاء مفترضين سياسياً، فقد تركزت عملية «الاستئصال» عليهم، قتلاًَ أو سحلاً أو سجناً مؤبداً، وسعيد الحظ هو من نفى نفسه أو استطاع إلى ذلك سبيلاً فنجا، وإن دفعت عائلته وسائر أقربائه وأصدقائه المقربين الثمن مضاعفاً بعد اكتشاف هربه.
وشهيرة هي مآثر صدام حسين، في هذا المجال، إذ انه تفرد بالإقدام على قتل الأعز من «رفاقه» والأقرب من «أصدقائه» والأغلى من أفراد عائلته بيده وبمسدسه الشخصي.. فضلاً عن تمييزه الأقرب فالأقرب، بالفكر والعقيدة من حزب البعث (قوميين عرب، وشيوعيين، ووطنيين بشكل عام شربوا إيمانهم بالعروبة من صدور أمهاتهم) لكي ينالوا شرف الاستشهاد على يديه.
لعله ـ وأمثاله ـ قد تصرف بدافع الخوف منهم بوصفهم مصدر شرعية نظامه الذي هجر على يدي الطاغية منابعه الفكرية وهيكليته التنظيمية، فلم يجدوا لأنفسهم أو لم يرد الحاكم الفرد أن يعطيهم مكاناً في «نظامه» الذي غدا الآن نظامه الشخصي، هو أوله وهو آخره، هو قائده، وهو آمره، هو عنوان عقيدته وهو مضمونه.. وأما الهيئات والتشكيلات القيادية، في الحزب كما في الجيش أو في الدولة، فهي مجرد ظلال لحكمه الفردي أو هي ـ بالشعارات المفخمة ـ ستارة لتمويه الدكتاتورية.
نستذكر هذه الأمثلة من تحول الحكم الحزبي بشعاراته الواعدة بالجنة في الدنيا إلى حكم دكتاتوري فرد مموه له السلطة مطلقاً، وله قرار الحياة والموت بالنسبة لرعاياه… فكيف إذا حكم من يرون أنفسهم ممثلين لدين الله الحق ولأحكامه القطعية باعتباره تجسيداً للشريعة التي لا يأتيها الباطل من خلفها أو من قدامها.
هل سيكون الاعتراض بالتصويت، أم باللجوء إلى الشارع، تجديفاً؟ وهل سيكون نقد التخلف في المظهر، أو التشدد في احتكار السلطة، اعتراضاً على الإرادة الإلهية، وتمهيداً لدكتاتورية الحزب (أو الاتجاه) الواحد الذي تعودنا أن ينتهي إلى دكتاتورية القائد الفرد الذي مثل الحزب او الجماعة وما ترمز اليه، مكتسباً في هذه الحالة شيئاً من القداسة؟.
ثم إن هناك مسألة في غاية الخطورة تطرح نفسها في ظل تقدم الحركات والأحزاب الإسلامية نحو الإمساك بالسلطة في بلدان عربية عدة، أبرزها هذه العدائية الظاهرة تجاه كل ما له صلة بالعروبة والفكر القومي!
مفهوم أن تدان الأنظمة الدكتاتورية التي طغت وتجبرت وأذلت الشعوب التي حكمها بالشعار القومي، وأن يعلن ـ جهاراً نهاراً ـ عن مناصرة قوى الاعتراض التي خرجت إلى الشارع مطالبة بإسقاط هذه الأنظمة.
ومفهوم هو الخلاف العقائدي التاريخي بين الحركة الإسلامية والحركة القومية العربية، (فضلاً عن الحركة الشيوعية)، الذي تسبب في إحداث شرخ عميق في الشارع العربي، إذ قسّمه إلى شارعين متواجهين بشعارات متعارضة وإن ظل الهدف الذي تتطلع إليه واحداً، من حيث المبدأ.
لكن غير المفهوم، أن تندفع الحركة الإسلامية، وقد وصلت إلى السلطة في العديد من البلاد العربية، وأمسكت بالقرار السياسي، أن تستمر في عدائيتها للحركة القومية التي لا يمكن اتهامها بأنها كانت هي الحاكمة ومصدر القرار في أي من الأقطار التي رفرف فوق قصور طغاتها الشعار القومي.
إن ابرز المناضلين العروبيين (بعثيين وقوميين عرب وتقدميين) قد استفاقوا متأخرين على هوية الأمة فالتزموا بمنطوقها إنما انتهوا على أيدي أنظمة الطغيان التي حكمت بشعاراتهم إما إلى القبر أو إلى السجن المؤبد وإما إلى المنفى، لمن أسعفه زمانه فهرب ورصاص الاغتيال يطارده.
ثم إن العروبة تعني، في جملة ما تعنيه، الرابط القومي بين شعوب هذه الأرض العربية، بمشرقها ومغربها… وهو رابط يتصل بالمصالح الحيوية (اقتصاد، زراعة، تجارة، تعليم، صحة) فضلاً عن الثقافة الجامعة المتصلة حكماً بلغة قريش ومبادئ الدين الحنيف، مع الأخذ بالاعتبار حقوق الأقليات وهي بعض الأمة، ومن صلبها، ليست وافدة عليها وليست طارئة.
وضمن هذا الرابط القومي، بل لعل قاعدته، فلسطين والنضال من اجل تحريرها، وحماية شعبها الطريد أو الأسير تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي استولى على أرضه جميعاً بالقوة وأخذ يستبدل من تبقى من شعبها بالمستوطنين الذين يستقدمهم من خارج الدنيا العربية، ويجعلهم مواطنين في «دولة يهود العالم».
واللافت في مجمل البيانات والتصريحات والأدبيات الصادرة عن الإسلاميين الذين يقفون الآن في قصور الحكم أو عند أبوابها، ليس فقط غياب فلسطين التي كان الافتراض أنها تتجسد في شعار «وأعدّوا لهم»، أو تعهد بمواصلة النضال من اجل تحريرها، بل أساساً أي موقف جدي وصريح حول إسرائيل ومستقبل العلاقة معها كعدو للأمة جميعاً، وكاحتلال أجنبي لأرض عربية (إسلامية، من حيث المبدأ).
لا أحد يطالب الحركات الإسلامية التي غدت الآن سلطات حاكمة بالتوجه فوراً إلى ميدان الجهاد لتحرير فلسطين..
والمدخل إلى المواجهة لا يمكن أن يكون واشنطن!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية