تأكد سقوط «الإخوان المسلمين» من موقعهم على رأس السلطة، في امتحان الديموقراطية والتسليم بالإرادة الشعبية، ولن يصدق المواطن في مصر، ومن ثم العرب خارج مصر، فضلاً عن دول الغرب – أساسا – ومعه الشرق – أية أرقام أو نسب مئوية لخيار الناخبين في مصر، وكم منهم قال «نعم» ومن قال «لا» في الاستفتاء المتعجل على الدستور الذي تم إنتاجه في ليل.
لقد «استولدت» نصوص الدستور قيصريا، وتم تهريبها وكأنها من الممنوعات، وربما لهذا أعلن الطعن في النتائج من قبل أن تعلن السلطة التقديرات غير الرسمية لتوزع أصوات المشاركين.
وواضح أن الانقسام الذي شرخ المجتمع قد ذهب بالدستور الذي يفترض به أن يكون أساس وحدة الشعب على اختلاف الاتجاهات السياسية، فضلاً عن اختلاف الانتماءات الدينية والطائفية.
مع ذلك، يمكن القول أن «ثورة 25 يناير» ما زالت تفعل فعلها في حشد الرأي العام ضد الغلط والانحراف، لكن انقسام القوى الوطنية والديموقراطية، وسقوط بعض «الرموز» التي غادرت تاريخها، في فخ إغراءات السلطة ووعودها المذهبة، كل ذلك تسبب في خسارة نصر محقق عبر إسقاط الدستور الاشوه.
لقد كسر الشعب المصري مجموعة من الحواجز النفسية والمادية التي سبق أن حكمت تصرفاته قبل «ثورة الخامس والعشرين من يناير»، وتمكنت قواه الحية من إلزام السلطة التي باتت هويتها مكشوفة تماماً بمجموعة من القواعد التي تحفظ الحد الأدنى من كرامة الشعب، الذي لولا ثورته، لما كان الرئيس الاخواني في موقعه الحالي.
لكن ارتجال الدستور وتهريبه ذات ليل قد خربا صدقية «الإخوان»، مرة أخرى بعد الوعود الرئاسية وطريقة تشكيل الحكومة.
ولقد حاول الشعب الذي باشر استعادة حقوقه في وطنه أن يقول رأيه في هذا الدستور، المحشوة نصوصه بالألغام النافية للديموقراطية، لكن استعجال «الإخوان» شرعنة السلطة التي آلت اليهم بالمصادفة القدرية، قد احرق الفرصة لبناء مستقبل أفضل، بمشاركة المصريين جميعاً، على اختلاف انتماءاتهم الدينية وتوجهاتهم السياسية.
ليس دستوراً للبلاد ذلك الذي يصوت نصف المصريين ضد نصوصه المهربة والتي تحاول أن تلغي كل ما حققوه على امتداد رحلتهم الدستورية وقد كانوا رواداً فيها، منذ العام 1923، حين تقدمت مصر كطليعة فانتجت عقول نخبتها دستورها الأول، بينما كل المنطقة العربية ـ والكثير من دول العالم لا تعرف الدستور.
ولن يعزز الدستور الجديد الذي تعذر على المعارضة مناقشته بالروح العلمية والجدية التي تستحقها صياغة الحياة السياسية في بلد الثورة الشعبية على حكم الطغيان، من شرعية الرئيس الفائز بأكثرية النصف زائد واحداً، بل هي ستكشف تعجل الذين تورطوا في إيصاله إلى السدة، منعاً لوصول غيره ممن افترضوا انه أسوأ منه.
بل إن هذه الخطيئة الجديدة في تهريب الدستور ستؤكد الشرخ في قمة السلطة، وهو شرخ ستظهر أثاره مستقبلاً في سائر المؤسسات التشريعية والتنفيذية، طالما أن هذه الفئة تجاهر بأنها تنوي احتكار السلطة، وبالدستور المطعون في طريقة إعداده ثم في طريقة إقراره.
هل من العدل أن تحكم الدولة رائدة الفقه الدستورية ومنتجة الدستور الأول في هذا «العالم» الواسع من حولها شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، بدستور يطعن فيه نصف المصريين، بينما اقره النصف الآخر ـ إذا صدقنا الأرقام المعلنة – متغاضيا عن كل العيوب الخطيرة في بعض نصوصه المجافية للديموقراطية والتي تهدد الوحدة الوطنية أكثر مما تصونها؟
حتى لو صدقنا النتائج الأولية بالأرقام التقريبية التي أعلنت، فليس من الطبيعي أن يحكم رئيس وصل الى السدة بنصف أصوات الناخبين (بمعزل عن مصدرها وأسبابها) بدستور تعارضه الأكثرية الفعلية، إذا ما انتبهنا إلى طبيعة القوة الرافضة ومواقعها في قلب مصر وفي سياق نضال شعبها من اجل غد لا طغيان فيه ولا تفرد ولا تزوير لإرادته ولا تشويه لتاريخه في السعي من اجل الديموقراطية والتحرر من هيمنة السلطان المعزز بالدعم الدولي، الاميركي أساسا.
في أي حال، ليس أمرا بسيطاً أن يتبدى رفض الدستور واضحاً جلياً في القاهرة، ذات العشرين مليون مواطن، العاصمة والمركز والقلب السياسي والثقافي والاجتماعي، ومركز الجامعات والمعاهد العليا، كما في بعض المحافظات المدينية والمسيسة، تاريخياً، بينما جاءت «نعم» من البيئات الأقل تقدماً والطرفية (أسوان والصعيد عموما وسيناء بمجاميع سكانها الذين يغلب عليهم الطابع البدوي المحكوم بموالاة السلطة لأنهم بحاجة إلى اعاناتها ووظائفها..).
وهكذا فان الدستور الذي اقر في ليل، استجابة لتعجل «الإخوان» استكمال السيطرة على الدولة، لم يعزز شرعية الرئيس بالاضطرار إلى المفاضلة بين مرفوض ومقبول هربا من الفرض.
فالسند الدستوري لعهد الرئيس محمد مرسي اضعف من أن يمكنه من التفرد بالحكم.. بل إن الرئيس الآن، وبعد أقل من ستة اشهر على توليه، أقل شعبية مما كان قبل دستوره الذي كان «الإخوان» (ومعهم السلفيون) يأملون بتهريبه لتعزيز الشرعية المنقوصة، نتيجة تحزبه الذي يصر على تأكيده في مختلف إجراءاته المرتجلة، وآخرها المخادعة بإلغاء نص دستوري أو استبداله بآخر لا يقل سوءاً عن سابقه.
ان الدستور المطعون في سلامة صياغاته القانونية، وفي انفتاحه على العصر، وفي احترامه لتجربة الشعب المصري مع الدستور ثم لمعركته العظيمة ضد الطغيان ليس أغلى من الوحدة الوطنية.. بل يفترض فيه أن يكون بين ركائزها ودعائمها.
ومن حق الشعب المصري الذي يرابط في الميدان والساحات الأخرى وصولاً إلى «الاتحادية» أن يحظى بدستور لا اثر فيه «للإكراه الديموقراطي» بالاستفتاء المدبر والمًُصنع.
فالإنجاز التاريخي الذي حققه الشعب المصري بخلع الطاغية سوف يحكم مسار الأحداث بعد اليوم في المنطقة العربية جميعاً، بل وفي مختلف أنحاء العالم الذي تبهره صلابة الشعب المصري وصموده خلف مطالبه لمدة سنتين، بغير أن ييأس أو يتعب… بل ان الشواهد الواضحة هذه الأيام تدل على أن الشعب مستعد بعد، وبقوة، لمواجهة انحراف السلطة الاخوانية نحو الطغيان تحت الشعار الديني.
لقد أعلن الشعب في مصر موقفه. قال نصفه على الأقل «لا». لا لمحاصرته في رأيه. لا لإكراهه على البصم بنعم على ما يرفضه احتراما منه لتاريخه ونضالات أجياله، لا لما لا يقبله من الافخاخ والمكائد المعدة سلفا، أو ما يضطر إلى قبوله حتى لا يستعدي عليه السلطة التي تفترض أن لا راد لإرادتها.
ولهذه «اللا» المقدسة وجهها الآخر، إذ هي تؤكد حضور الشعب، ليس فقط بالمعنى المادي، بل بالمعنى السياسي اولاً واساسا.
لقد قال «لا» لنظام الحزب الواحد، خصوصاً وانه حزب مقفل بالشعار الديني، وهو يستخدم هذا الشعار في السياسة بما يفسد السياسة ويسيء إلى الدين.
وقال «لا» للتعصب، دينيا كان أم سياسياً.
صحيح أن بعض القيادات السياسية والثقافية قد خانت دورها، وان الأزهر قد زج به بما لا شأن له فيه، وان الجمعية التأسيسية قد ارتكبت ما يمكن اعتباره نوعا من التزوير في لجنة الصياغة، وفي تمرير النصوص بلا مناقشة كافية وفي غياب المعترضين، ولكن النتيجة التي انتهى إليها الدستور المهرب تؤكد النقص فيه، كما النقص في الأغلبية التي يحتاجها لاعتماده.
بالمقابل، قال الشعب المصري «نعم» للوحدة الوطنية التي يسيء إليها هذا الدستور الذي هربه بعض المتعصبين في ليل، ثم جرت محاولة يائسة لتمريره بأصوات الذين تعودوا أن ينافقوا السلطة، فكيف وقد غدت جامعة للدين والدنيا، حسبما تفترض وتمارس!
لقد أنهى شعب الميدان، بانتفاضة «25 يناير» المجيدة عهود الطغيان بالإكراه أو بالتحايل، بالقمع المباشر أو بالشعار الديني الذي يمكن تحويله الى قوة إكراه.. وانهى عصر محاصرة المواطن برفض الغلط، والا الغي رأيه بل حقه في وطنه ودولته.
يمكن الاندفاع إلى ما هو ابعد والقول: إن رفض نصف المصريين هذا الدستور الذي لم تحترم نصوصه حقوقهم وإرادتهم، هو خطوة على طريق استعادة المواطنين «دولتهم».
لم تعد الدولة في مصر إقطاعية الفرعون، هي بعض أملاكه يقرر فيها ولها ما شاء، أي ما يناسب مصالحه، بغض النظر عن آراء «رعيته» وحقوقها في «الدولة»، بل هي قد غدت دولة مواطنيها بشهادة هذه الآلاف المؤلفة التي لا تتعب من الاعتصام ومن التظاهر ومن محاصرة الرئيس في قصره.
ومع أن الأجواء المحتقنة تنذر بمخاطر عديدة، بينها أن تُهدر دماء المعترضين من المصريين، في خطوة نحو «تجديد» الطغيان، وهذه المرة بالشعار الديني، إلا أن وعي الشباب الذي صنع الثورة مؤهل لان يجهض محاولات التآمر على السلم الأهلي، والاستمرار في معارضته للاستبداد من اجل حقه في حياة أفضل في دولة ديمقراطية حقاً.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية