في عدد «الاهرام»، السبت الماضي، استذكر الزميل الكبير ابراهــيم نافع اللــقاء الـيتيم الذي اجرته الصحافة المــصرية مع الامــين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، قبل إنجاز التحرير في 25 أيار ـ مايو ـ من العام 2000.
وبحكم الزمالة التي تربط بين الاســتاذ ابراهيم نافع وبيني، فقد طلب إليّ ان أتولى ترتيب موعد اللقاء مع السيــد حســن نصر الله، وهكذا كان: ذهبنا معاً، وكان يصحب ابراهيم اربعة زملاء بينهم باحثان في مركز الدراسات الاستراتيجية في الاهرام، احدهما الدكتور عبد المنعم سعيد، ومحرران، وكان معي بعض زملائي في «السفير»، وكانت لنا صفة الشاهد فقط.
كان الوصول سهلاً، يومذاك، الى مقر الامانة العامة لحزب الله في حارة حريك، قلب الضاحية الجنوبية، وهو المقر الذي دمرته الغارات الجوية الاسرائيلية في حرب تموز 2006 على لبنان جميعاً، وعلى المناطق التي تقدر أن فيها مقارَّ قيادية او مستودعات سلاح، او وهذا هو الاهم: قياديين لحزب الله.
استقبلنا السيد حسن نصر الله بكثير من الإكرام والود، خصوصاً انها كانت المرة الاولى التي تجيء فيها إليه صحافة مصر لمحاورته والتعرف الى أفكاره وإلى خطط حزب الله ورؤيته للبنان والمنطقة، لا سيما بعد اجلاء قوات الاحتلال الاسرائيلي اذ كان كل شيء حينها يشير الى ان موعد التحرير الكامل للأراضي اللبنانية ليس بعيداً، وهو ما تم فعلاً بعد 68 يوماً من موعد اللقاء.
ذلك ان التحرير قد تم إنجازه فعلاً في 25 أيار ـ مايوـ من العام 2000، وكان واحداً من الأعياد القومية العظيمة، خصوصاً ان العدو الاسرائيلي قد أجلى جنوده وآلياته ومدفعيته الثقيلة ليلاً، تاركاً مجموعات العملاء الذين تعاونوا معه على امتداد سنوات مما كان يسمى «جيش انطوان لحد» لمصيرهم… فخونة أوطانهم لن ينالوا من العدو إلا الاحتقار والتخلي عندما تقتضي مصالحه ان يبدل من خططه الحربية بما يتناسب مع مصالحه.
بعد التعارف وتكرار الترحيب وإبداء الاستعداد للاجابة عن أي سؤال تحمله بعثة «الاهرام»، افتتح الاستاذ ابراهيم نافع الكلام بأنهم قد جاءوا ليعرفوا من قيادة حزب الله مباشرة أفكار هذا الحزب الذي يخوض معركة تـحرير ما كان متبقياً من الأراضي اللبنانية تحت الاحتلال الاسرائيلي.
يومها كان ما عرف آنذاك بالشـريط المحتل الذي يضم معظم المناطق الحــدودية للبـنان مع فلسطين المحتلة، ما زال خاضــعا لقـوات الاحتلال التي نصّبت فيها «جيشا» من المرتزقة اللبنانيين بقيادة ضابط متقاعد هو العميل انطوان لحد.
بعد التقديم، اخفى الزميل ابراهيم نافع عينيه تحت النظارة السوداء، تاركا مهمة المباشرة في الحوار الى الدكتور عبد المنعم سعيد.
ولقد فوجئنا، نحن شهود الحال، بأن الاسئلة الاولى كانت بعيدة كل البعد عن الحزب وعن العدو الاسرائيلي وعن تحرير الأراضي المحتلة، بل عن السياسة جميعاً، ومواقف الحزب مما يجري في المنطقة من حول لبنان.
كان السؤال الاول عن موقع الاحلام في التفسير الديني،
…وكان السؤال الثاني عن زواج المتعة ورأي السيد حسن نصر الله فيه.
أما السؤال الثالث فكان عن «التقية» وموقعها من ثوابت العقيدة في المذهب الشيعي.
ولقد استفزتنا جميعا هذه الاسئلة لغربتها عن اللحظة السياسية، فضلاً عن انها تخرج بالحوار مع القائد السياسي لأكبر حزب في المنطقة العربية عن إطاره، وتتجاوز قضية التحرير التي تبرر وجود هذا الحزب وتقديمه مئات الشهداء وآلاف الجرحى وعشرات الأسرى من أجل هدف تحرير الأرض والكرامة.
على ان السيد حسن نصر الله ظل محافظاً على هدوئه، كما على ابتسامته الوادعة، وأخذ يجيب عن الاسئلة الخارجة عن موضوعه بالتفسير الشرعي وظروفه، ملمحا الى ان غيره من علماء الشريعة يستطيعون ان يقدموا شرحاً أفضل وأكمل، «لان ظروف الجهاد من أجل التحرير أخذته بعيداً، فصار اكثر اهتماماً بالعدو الاسرائيلي وسياساته التوسعية وقدراته العسكرية خصوصاً ان الجبهة مفتوحة لحرب حقيقية تأخذ كل وقته واهتمامه وقراءاته التي توجب عليه ان يكرسها لمعرفة العدو… مختتما اعتذاره بالإشارة الى انه قد اعد نفسه لحوار سياسي يأمل منه ان ينقل الزملاء في «الاهرام» صورة صادقة وأمينة عن «حزب الله» ودوره في معركة التحرير العربية، عــبر مواجهاته اليومية الناجحة مع العدو الاسرائـيلي المتفوق في سلاحه المتطور وفي قدراته اللوجســتية الهائلة، والذي يسيطر على الجو بطيرانه الهائل القوة وعلى البحر بمدمراته وزوارقه الحربية الحديثة.
تدخلت في محاولة لاعادة الحوار الى سياقه الطبيعي فســألت الســيد حسن نصر الله عن آخر لقاء له مع السفير المــصري، فابتـسم بشيء من الحزن وقال انه لا يعرف الســفير ولا أي موظف دبلوماسي عامل في السفــارة المصرية.
ألححت بالأسئلة عن السفراء او الدبلوماسيين العرب والاجانب الذين ســبق له ان التقاهم، فإذا هم كثر، بينهم سعوديون وكويتيون وجزائريون وفرنسيون وروس وإســبان وإيطاليــون وأفارقة وهـنود وباكـستانيون الخ…
قال ان العلاقات مع بعضهم على مستوى السفراء، ومع آخرين على مستوى المستشارين والقناصل، وهم في الغالب الأعم من ضباط المخابرات «نحن نعرف هذا وهم لا يخفونه…».
وكنا في لبنان عموماً، وفي «السفير» خصوصاً، نعرف من بعض السفراء العرب والأجانب تفاصيل عن علاقات بعض الدول بحزب الله وقد لخصها احدهم بالقول: كيف لي ان أدعي انني عرفت لبنان إذا ما تجاهلت اكبر وأقوى حزب سياسي لبناني وأحد اكبر الأحزاب السياسية العربية… ثم ان الصراع العربي الاسرائيلي هو الاساس في سياسات المنطقة فكيف يمكن ان أتجاهل هذا الحزب الشعبي الكبير والذي بات باعتراف الجميع قوة سياسية مؤثرة في السياسات جميعاً؟!
بل إن أحد السفراء العــرب كان يهتف مهللاً كلما جاء الحديث عن حزب الله وعــن أمينه العام السيد حسن نصر الله: إنه ولد عمي، ولد عمي، فأنا ايضا من السادة، وإن كنت سنّي المذهب!
بعد تلك المشاغبات، عاد الحديث الى سويته، وانطلق السيد حسن نصر الله يشرح مخاطر اسرائيل وأطماعها ومشاريعها التوسعية. تحدث عن المستعمرات الاستيطانية وتعاظم مساحاتها وتزايد أعداد وحوش المستعمرين الذين يستقدمون من أربع جهات الأرض، وتبنى لهم المستوطنات على حساب أراضي الفلسطينيين ويسلحون بأحدث الأسلحة وتطلق أياديهم في مصادرة أراضي اصحاب الأرض لتهجيرهم بعيداً عنها.
وتحدث السيد حسن نصر الله عن مصر بكثير من الحب، والتقدير لدورها، مفتقداً تأثيرها الذي يمكنه ان يغير في صورة الواقع العربي المتردي.
قال وأعاد مشدداً ان وحدة العرب هي مصدر قوتهم،
وأكد في اكثر من مرة، خلال كلامه، انه يحتفظ في وجدانه بصور مشرفة لبطولات الجيش المصري في حرب اكتوبر والعبور العظيم لاسترداد حقهم في ترابهم الوطني.
وقال ان غياب مصر عن دورها يحدث خللاً استراتيجياً تفيد منه اسرائــيل، وحذر من خطورة المشروع الاسرائيلي لتفريغ الضفة الغربية من أهلها لاستقـدام المزيد من المستعمرين.
وقال انه كغيره من ابناء جــيله وعى على الحياة من خلال الكتّاب والأدباء والشعراء المصريين، الذين كان يحرص على متابعة ما تيسر له من نتاجهم وهو يدرس في النجف الأشرف.
[ [ [
…ونعود الى ما كتبه الاستاذ ابراهيم نافع في عموده «حقائق» يوم السبت الماضي، وقد جاء فيه: «… ولم يخف الرجل قناعاته الفكرية او توجهاته السياسية التي ترى في إيران النموذج والقدوة، ويلتمس الأعذار لسوريا في عدم القيام بأعمال المقاومة انطلاقا من الجولان المحتل، ويلوم مصر لأنها لم تساند المقاومة…».
ان في هذا الاجتزاء إخلالاً بصدقية العمل المهني، كما يعرف بالتأكيد الاستاذ ابراهيم نافع، وهو الصحافي العتيق والمتمرس.
ومن حـق الاســتاذ ابراهيم نافــع او غــيره من الكتّاب والصحافيين ان يخــتلفوا كل الاختلاف مع السيد حسن نصر الله وسائر قيادات «حزب الله»، فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
لكن اجتزاء مقاطع او سطور من مقابلة نشرت على صفحة كاملة من «الاهرام» في السادس عشر من فبراير ـ شباط ـ سنة 2000، سيخل بالمعنى وسيظلم المتحدث فيها، والذي اغتنم تلك الفرصة الفريدة في بابها والعــزيزة على قلبه من أجل ان يقدم حزبه، وأن يشرح موقعه النضالي في قلب حركة التحرر العربية، للجريدة المصرية الكبرى، مفيـداً من كونها المــقابلة الاولى التي تتضمن اعترافا به وبحزبه وبالدور الجهادي للحزب الذي أنجز تحرير الأرض اللبنانية المحتلة بعد 68 يوماً فقط من تلك المقابلة اليتيمة.
ولقد وجدت من واجبي، كشاهد ساهم في ترتيب الموعد وتولى مرافقة الزملاء الأعزاء من الجريدة التي احتلت مكانة مميزة في وجداننا بتاريخها العريق ودورها التنويري الممتاز في المراحل الصعبة من المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بأن ادلي بشهادتي حول الحوار اليتيم ومجرياته.
ولست اقصد، بأي حال، اتهام الزميل الكبير ابراهيم نافع بالتحريف او سوء القصد، لا سمح الله، لكن الاعتماد على الذاكرة في ظروف كهذه ليس أمراً مشكوراً، خصوصاً ان الغلط في كلمة او في تأويل معنى جملة واحدة قد يخل بالمعنى المقصود.
ولقد كان احرى بصديقنا القديم ان يعود الى المقابلة فيختار منها مقاطع حرفية تؤكد ما ذهب إليه في استنتاجاته معتمداً على الذاكرة المثقلة بالكثير الذي تحمل.
وشكراً للزميل الكبير ابراهيم نافع انه قد أتاح لي ان اقدم شهادتي على إنجازه سبقا صحافيا ممتازاً، في ذلك اليوم من فبراير ـ شباط ـ 2000، وهو الإنجاز الذي شفعه بتقديم ممتاز أين منه ما نسمعه من القاهرة وفيها هذه الأيام!
([) تنشر «السفير» النص بالتزامن مع صحيفة «الشروق» المصرية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان