ربما لأن الأمر يتصل بالقضية المقدسة فلسطين، بكل تراثها النضالي العريق، فان الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة تتخذ سياقاً مختلفاً عما شهدنا من سلوك الإسلام السياسي في أقطار عربية أخرى، ولا سيما حيث تيسر لتنظيم «الإخوان» أساساً وبالشراكة مع تنظيمات إسلامية أخرى الوصول إلى الحكم أو السيطرة عليه.
وليست مبالغة القول أن النتائج التي ستفضي إليها المواجهة بين تنظيمات المقاومة في غزة، وأكثريتها الساحقة إسلامية التوجه، وبين العدو الإسرائيلي، ستشكل محطة انتقالية بين عصرين: عصر ما قبل الإسلام السياسي حاكما، والعصر الذي يتولى فيه الإسلام موقع القيادة في كل من مصر منفرداً وتونس (بالشراكة مع قوى أخرى وان ظلت له القيادة) وليبيا (وان بشكل عشوائي).
لقد كان الإسلام السياسي في موقع «المعارضة» للاتفاقات التي عقدتها أنظمة حاكمة (أولها في مصر) وبين العدو الإسرائيلي، ولكنه لم يصل يوماً إلى حد القطع معها، بدليل مشاركته في الانتخابات النيابية وفي الحركة السياسية عموماً سواء في مصر أو في الأردن… من دون أن ننسى أن قيادات الإسلام السياسي قد اتخذت من قطر «مركزاً» لحركتها ومحطة انطلاق لأنشطتها متعددة الأهداف، سواء في المنطقة العربية أو في العالم الإسلامي، فضلاً عن حركة اتصالاتها مع عواصم القرار في العالم الغربي، من دون أن ننسى أن الدوحة «تستضيف» قيادة التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين.
وحين وقعت الحرب الإسرائيلية الأولى على غزة في أواخر سنة 2008 كان الإسلام السياسي ممثلاً في «حماس» قد أنجز – بالكاد – هيمنته على «الحكم» في هذا القطاع بانقلاب مباغت نفذه ضد «السلطة الفلـسطينية» في رام الله، في ظل معارضة رسمية عربية ودولية شاملة، بلغت حدها الأقصى بامتناع مصر عن فتح بوابات العـبور الوحيـدة إلى بلد «الـعرب» في رفح، في حين أدار أهل النظام العربي وجوههم إلى الجهة الأخرى، وبعضهم بشيء من «التشفي» بهؤلاء «الخوارج» الذين يهددون مشروع التسوية في الشرق الأوسط وبالتالي تعكير العلاقات مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، و«نسف» سياق التطبيع مع إسرائيل التي لم تعد عدواً بشهادة «اتفاقات السلام» التي عقدت مع كل من مصر والأردن ومكنت «السلطة» من أن «تدخل» لتتخذ من رام الله عاصمة لعهد السلام الجديد.
وحدها الأمم المتحدة، ولأسباب مبدئية تتصل بطبيعة الأهداف المعلنة لتبرير وجودها، حظيت بالإذن الإسرائيلي فدخل أمينها العام غزة المهدمة، بالقصف المتواصل على امتداد 22 يوماً والذي رافقه اجتياح بري تولى تدمير المؤسسات الفقيرة ومقار الحكم وقد كانت فاتحته مجزرة الشرطة حيث قتل القصف الإسرائيلي من جنود الشرطة قيد التدريب.
وحين أوقفت الحرب الإسرائيلية على غزة التي أعطتها إسرائيل اسماً له رنينه الموسيقي كان على غزة أن تنهض من تحت الركام، استناداً إلى مساعدات محدودة جاءتها من منظمات إنسانية في الغالب الأعم، إضافة إلى بعض التبرعات الشعبية…
كان «النصر» الأخطر اعتراف العالم – واقعياً، أي دوفاكتو – بسلطة «الحكومة المقالة» إسلامية التوجه والشعار في غزة.. صارت «حماس» شريكا مضاربا «للسلطة الشرعية» التي يرئسها محمود عباس في رام الله والتي كانت تحظى باعتراف دولي رسمي، ضمنه اعتراف إجماعي عربي، سمح لها بان تفتح سفارات في معظم العواصم العربية، وممثليات في العديد من دول العالم، غرباً وشرقاً.
على أن التطور الأخطر جاء مع الفرصة التي أتاحتها الانتفاضات العربية عبر إسقاطها بعض أنظمة الطغيان، وتقدم الحركات الإسلامية نحو السلطة في أكثر من بلد عربي.. وكان أخطرها وصول رئيس من الإخوان المسلمين إلى سدة الرئاسة في مصر، بانتخاب شعبي مباشر، لا يتسع هنا المجال لمناقشة الالتباس في الظروف التي أدت إليه، مما عزز الحكم الجديد الذي جاءت به ثورة البوعزيزي في تونس والذي تصدرته حركة النهضة ذات المنحى الإخواني.
انفتحت الأبواب مبدئياً أمام حماس الحاكمة في غزة، لكي تعوض «شرعيتها المنقوصة» باعترافات عربية، ولو ضمنية، سعت جاهـدة لتحويلها إلى نوع من التحالف تحت الشعار الإسلامي. وتوالت زيارات قادة حماس الى القاهرة، وبينها زيارة «رئيس الحكومة المقالة» إسماعيل هنية التي حارت السلطة المصرية الجديدة في كيفية التعامل معها، ثم اختارت إضفاء الطابع الشخصي، حين اتصل الأمر بالرئيس، أو الطـابع التنظيمي في اللقاء مع جماعة الإخوان التي لا تستطيع رفض استقبال «الإخوة في التنظيم» ولكنها تحاذر الالتزام رسمياً بما من شـأنه «استـفزاز» إسرائيـل او الإيحاء بسلوك قد يهدد اتفاقات السلام المعـقودة مع هـذا العدو في الماضي والممنوعة مخاصمته الآن بما يحرج مشروع السلطة الإخوانية في مصر.
الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة فتحت الباب أمام طور جديد من الصراع العربي – الإسرائيلي.
بداية: مكنت الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني من أن يستعيد زخم مقاومته. فليس سراً أن فترة ما بين الحربين الإسرائيليتين على غزة قد شهدت مسلسلاً من التنازلات التي أقدمت عليها السلطة معتذرة بالتخلي العربي الرسمي عنها وبالضغوط الدولية، حتى سيطر اليأس على الشعب الفلسطيني ومعه سائر الشعوب العربية.
ثم إن المقاومة الباسلة التي أبداها الشعب الفلسطيني في غزة أعادت «القضية» إلى الصدارة وعبر مواجهته الحرب الإسرائيلية الجديدة موحداً، متخطياً الانقسامات التنظيمية إذ قاتلت «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» وسائر المنظمات، موحدة تحت راية فلسطين.
وبالتأكيد فان هذه الوحدة في المواجهة قد أعادت الاعتبار إلى المقاومة في فلسطين، بعدما كادت تختفي تحت ركام الخلافات على السـلطة التي صارت – بذاتها – موضوع الصراع بين رفاق السلاح بما أراح العدو الإسرائيلي وجعله «يتفرغ» لاستعراض قوته بالحديث اليومي المتكرر عن قدراته الهائلة التي تمكنه من ضرب إيران وتصفية المقاومة في لبنان فضلاً عن توجيه الإهانات اليومية المذلة لرئيس السلطة الفلسطينية في رام الله في آن ٍ معاً. أما حماس وسائر المنظمات المقاتلة في غزة فقد كانت خطته أن يصفيها عبر عمليات اغتيالات مدروسة، وكان العنوان الأول الشهيد احمد الجعبري.
كانت تلك نقطة التحول في مسار المواجهة، إذ أعطت المقاومة في غزة «مناسبة» شرعية للرد، وبقدر عال من الجهوزية لم يكن يتوقعها العدو الإسرائيلي خصوصا وقد استخدمت فيها أنواعاً متطورة من الصواريخ، إن من حيث المدى أو من حيث الفعالية… وهكذا انهمرت صواريخ «فجر» «على عدد كبير من المستعمرات الصهيونية، القريبة من «حدود» غزة أو البعيرة وصولاً إلى النقب، بل وتفجر بعضها غير بعيد عن تل أبيب ولامس بعضها حدود المدينة المقدسة، القدس. وكان واضحاً أن القيادة الإسرائيلية لم تكن تتوقع أن تكون مثل تلك الصواريخ بعيدة المدى والمحملة بطاقة تفجير هائلة قد وصلت الى المقاومة في غزة، فكان عليها أن تعيد حساباتها… دون أن تتخلى عن ادعاء القدرة على تدمير ذلك القطاع المحاصر والمعزول عن سائر مناطق وطنه فلسطين، كما العالم كله، لا سيما وان معبر رفح يخضع لحسابات مصرية معقدة، لم يخفف منها سقوط حكم مبارك ومجيء إخواني إلى قمة السلطة في القاهرة.
لقد بدلت هذه الصواريخ، الآتية من البعيد البعيد، والتي بذلت جهود جبارة لتمريرها من مصدرها النائي إلى قيادة المقاومة في غزة، في قواعد اللعبة، جذرياً، مستولدة معادلة جديدة: تضربون غزة فنضرب تل أبيب..
هذا في الميدان العسكري، أما في المجال السياسي فصارت الحسابات أكثر تعقيداً: فلن يستطيع حكم الرئيس الإخواني في القاهرة، وحكومة الإخوان ـ ولو بالشراكة مع أطراف أخرى في تونس – وبعض الحكومـات النفطـية التي قفزت إلى تصدر «الربيع العربي» أن يشيحوا بوجوههم عما يحدث لغزة وفيها نتيجة الهجمات بالطيران والصواريخ الإسرائيلية، ولا بد لهذه السلطات المستجدة على الحكم، والتي كانت تأخذ على منـسبي أنفـسهم الى الحركة «القومية» التخـاذل في مواجـهة الاعـداءات الإسرائيـلية والهرب من أي مواجهة مع تل أبيب، ولو على الصعيد الدبلوماسي في الأمم المتحدة.
وإذا كان ابرز ما قرره وزراء الخارجية العرب، خلال اجتماعهم الطارئ في الجامعة العربية في القاهرة، أن يقوم وفد منهم بزيارة غزة، لدعم صمودها في مواجهة العدوان الإسرائيلي و«حصر أضراره»، تمهيداً لمحاولة «التعويض» وإعادة بناء ما تهدم، فان هذه الزيارة تفتح الباب لأسئلة عديدة ووجيهة.
بين تلك الأسئلة: هل هدف الجولة إقناع مجاهدي غزة بالتهدئة، ومقابل ماذا، أم أن الهدف – ولو بالتمني – دعم صمود الشعب الفلسطيني، وتأكيد الوقوف إلى جانبه، سياسيا ومادياً… ولا نقول و«عسكريا» للتعذر.
هل هدف الجولة التمهيد لصفقة ترضي حماس باستمرار «حكمها» أم ستتجاوز ذلك الى مساعدة الشعب الفلسطيني في استعادة وحدته؟
بمعنى آخر: هل ستتصدى بعثة الجامعة العربية لمحاولة المصالحة بين «السلطة الفلسطينية» بقيادة محمود عباس والقيادة الميدانية في غزة، والتي تتولاها «حماس» وان كانت منظمة «الجهاد الإسلامي» قد باتت طرفا في المعادلة الجديدة لا يمكن تجاهلها.
في أي حال فان غزة – بجماهيرها ومقاومتها وتحت قيادة حماس المؤتلفة الآن مع مختلف «الفصائل» ـ قد حققت نصراً باهراً، يحتاج إلى حماية قادرة ومؤهلة.
ومؤكد أن ما تحقق في هذه الجولة الجديدة باهر وسيكون له أثره السياسي الواضح في مواجهة العدوان الإسرائيلي المفتوح على الفلسطينيين، في غزة التي يحاصرها منذ دهر، كما في الضفة الغربية التي يتحكم برغيف الخبز فيها كما بمختلف وجوه الحياة، ويشكل السلطة الفعلية مستخدماً وجه «السلطة الوطنية» لقناع قمعي مع تحميلها المسؤولية عن صعوبة العيش وضيق مساحة الحركة.
إن فلسطين تدخل طوراً جديداً في نضالها من اجل أن تكون لأهلها.
ثم انه امتحان خطير للإسلاميين، حيث يحكمون منفردين أو بالشراكة، من اجل أن يؤكدوا أنهم مؤهلون لان يعودوا إلى هذا الميدان الذي غادروه منذ أمد بعيد.
ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية