مفرحة هي الأخبار المبشرة بأن العديد من دول أميركا اللاتينية، تتصدرها أكبرها: البرازيل والأرجنتين وفنزويلا، قررت – ولو متأخرة – الاعتراف بـ«الدولة الفلسطينية»، التي لا تزال في منزلة بين منزلتي الحلم والاحتمال، وعلى حدود الرابع من حزيران – يونيه – 1967، فور إعلان قيامها.
على أن هذه الأخبار المفرحة ينبغي ألا تنسينا ما سبقها وواكبها وسيأتي بعدها من تطورات مقلقة، بل محزنة، تتصل بواقع الدول العربية القائمة تحت أثقال خطايا أهل النظام العربي وأخطائهم، ما يجعلنا أمام مسلسل من المفارقات:
÷ المفارقة الأولى أن هذا التعهد بالاعتراف بدولة فلسطينية يصطدم بواقع ان الأرض (وربما الإرادة، عربيا) لا تزال رهينة لدى الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول شطب شعبها والتهام أرضه الوطنية بالمستوطنات، والمزيد من المستوطنات، التي يستورد لها المستوطنين، الذين سيصيرون «سكانها»، وبالتالي «المواطنين» في دولة يهود العالم «الديموقراطية»، على حساب بُنَاتها من أهلها، على امتداد ألفي سنة او يزيد.
÷ المفارقة الثانية ان هذه المبادرة التي تقدم عليها دول اميركا اللاتينية لأسباب مبدئية، تجيء بينما العديد من «الدول» العربية القائمة ككيانات سياسية منذ عشرات السنين، لها من يمثلها في جامعة الدول العربية وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي قد يرفعها نظام القرعة الى عضوية مجلس الأمن الدولي أحيانا، تزلزلها النزعات الانفصالية المتعددة الأسباب والمصادر.
فها هو السودان ينشطر الى «دولتين»، شمالية وجنوبية، مع توقعات جديدة عن تفاقم الحالة الانفصالية وإغراءات «الاستقلال» والتي تنذر بولادة «دول» أخرى في الشرق (دارفور) وفي الغرب، بل حتى في بلاد النوبة شمالاً.
وها هو العراق تأخذه النتائج المباشرة للاحتلال الاميركي الذي ورث عن الطغيان دولة مصدعة البنيان، وشعباً مقهوراً مطارداً في حياته وفي رزقه، الى أنواع من الانفصال السياسي (والاقتصادي بإغراءات النفط) بين جهاته الجغرافية وتركيبته الديموغرافية والطائفية والمذهبية: الشمال الكردي، والوسط السني، والجنوب الشيعي، بينما تظل العاصمة بغداد ومحيطها قيد التفاوض، في انتظار ان يمنح أهلها، بدورهم، حق تقرير المصير!
وها هو اليمن الذي لما يهنأ بدولته الموحدة التي لم يبلغ عمرها العقدين من السنين، يبدو مهدداً في وحدته… وها هي أصوات المطالبة بالانفصال ترتفع ليس فقط في «الجنوب» التي أخرجت الثورة الشعبية فيه الاحتلال البريطاني، ثم أخذته حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح الى الوحدة مع الشمال، بل حتى في الشمال ذاته، نتيجة حكم الفرد المصفح بالعشائرية والعسكر… وبين آخر ما ظهر الى السطح فيه صراعات قبلية داخل المذهب ذاته بإغراءات السلطة ولو على جزء يسير من «التراب الوطني».
وبالعودة الى فلسطين وما يدبر لها، لا بد من التوقف أمام حدث لافت جرت وقائعه قبل أيام قليلة تاركة خلفها العديد من الأسئلة والتساؤلات حول مدى «استقلال» القرار الأوروبي وقدرته على مواجهة الضغوط الاميركية والإسرائيلية.
فقبل فترة وجيزة، جرت محادثات أوروبية مكثفة، وهدد الاتحاد الأوروبي بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967، في محاولة لمعاقبة إسرائيل على رفضها تجميد الاستيطان في الضفة الغربية لاستئناف المفاوضات.
لكن بيان الاعتراف هذا لم يصدر، نتيجة ضغوط اميركية ـ إسرائيلية شديدة، واكتفى الأوروبيون بإصدار «بيان قوي» سيضم الى أرشيف المواقف الأخلاقية التي لا تبني دولة فلسطينية الى جوار «دولة اليهود الديموقراطية» والتي يجد معها الفلسطيني نفسه أمام خيار بائس: بين ان يبقى فلسطيني الهوية مهدداً بالطرد في أية لحظة وتؤخذ منه أرضه، او يتنازل عن فلسطينيته لكي يبقى لاجئاً في أرضه!
وقبل شهور قليلة ظهر رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، في شريط فيديو بثته قناة إسرائيل العاشرة، وهو يتفاخر كيف خرب خلال الانتفاضة الثانية، اتفاق اوسلو. قال: «سوف أقوم بتفسير الاتفاقات بطريقة تسمح لي بأن أضع حداً بهذا القفز في اتجاه حدود 1967… إنني أعرف ما هي اميركا. ان اميركا هي شيء يمكن ان تحركه بكل سهولة، وان تحركه في الاتجاه الصحيح. انهم لن يعترضوا الطريق..».
لعل ما يعزز حالياً ثقة نتنياهو في قدرته على تحريك اميركا في الاتجاه الصحيح، «الهدية» التي جاءته من حيث لم يحتسب… فزعيم الأغلبية في الكونغرس الجديد هو ايرك كانتور، وهذه هي المرة الأولى التي سيحتل فيها يهودي ـ إسرائيلي الولاء الرتبة الأعلى في الكونغرس.
في العام الماضي قاد كانتور وفداً مكوناًُ من 25 عضواً من أعضاء الكونغرس الجمهوريين في زيارة لإسرائيل، انتقد خلالها إدارة اوباما علناً على «تدخلها في الأمور الداخلية الإسرائيلية» مثل طرد عائلات فلسطينية من منازلها في القدس الشرقية، واستمرار الاستعمار والاستيطان اليهودي في الضفة الغربية طوال 43 عاماً.
وما بات معروفاً الآن، ان أركاناً في اللوبي الإسرائيلي كانوا يتولون سياسية اوباما الشرق أوسطية، ومنذ العام 2002 كان الرجل الذي صار رئيساً، يتلقى المشورة من لي روزنبرغ، وهو عضو في «الشبكة الوثيقة ليهود شيكاغو»، والذي «رعى ومكن» مهنة اوباما السياسية على حد تعبير «شيكاغو تريبيون»… وهو من رافق السناتور اوباما في زيارته الأولى لإسرائيل حيث انتبه الى تقديرها لاحتياجاتها الأمنية… ثم ان روزنبرغ قدم اوباما، المرشح للرئاسة، الى مؤتمر اللوبي المؤيد لإسرائيل في العام 2002 حيث تعهد اوباما في تناقض فج مع القانون الدولي والتعهدات الاميركية بأن «القدس ستبقى عاصمة لإسرائيل ويجب ان تظل موحدة». وعلى هذا فإن الخطاب «العاطفي» الذي أورد فيه اوباما الإشارة الى دولة فلسطينية الى جانب الدولة اليهودية لا قيمة له سياسياً، وهو قد سقط من ذاكرة الجميع في أي حال.
يبقى ان نشير الى ان إقرار تمديد تافه مدته 90 يوماً لتجميد توسيع المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية المحتلة (باستثناء القدس الشرقية) ولمرة واحدة، كانت كلفته 20 طائرة مقاتلة من طراز الشبح اف – 35، بقيمة 3 مليارات دولار.
[[[[[
ان دول العالم أجمع تعرف ان «عملية السلام في الشرق الأوسط» قد ماتت، وان امتنع الكل عن دفنها. وبالطبع فإن المبادرة العربية لم تعمر طويلاً.
وبرغم ان «الدول» ومعها أهل النظام العربي، لا يريدون إعلان وفاة تلك المبادرة التي صاغ فكرتها الملكية قلم صحافي اميركي لم يشتهر عنه إيمانه بالحق الفلسطيني، فإن المستقبل الفلسطيني يبدو مظلماً أكثر مما كان في أي يوم مضى:
÷ لا أهل السلطة مستعدون للاستقالة برغم التهديدات المتكررة التي يطلقها رئيسها الطائر دائماً، حتى لا يخضع في كل سفرة الى إذن إسرائيلي بالخروج من «أرضه»، ثم بالدخول إليها.
÷ ولا أهل المعارضة الذين اتخذوا من غزة قاعدة لسلطتهم مستعدون للمجازفة بإعلان الرفض القاطع للمشاريع المطروحة، بل قد صدر عنهم ما يناقض التزامهم المبدئي بتحرير فلسطين من النهر الى البحر، حين أعلنوا انهم يقبلون بدولة في حدود 1967… ثم حاولوا التنصل من هذا الإعلان بطريقة غير موفقة. فالمهم، لهم أيضاً، الاحتفاظ بالسلطة.
أما أهل النظام العربي فلا يعرفون اليأس. وهكذا فإنهم، بعد كل إهانة، يتوجهون الى واشنطن طالبين منها التدخل والتوسط، مع مزيد من التنازلات.
من كان حسن النية او مغرقاً في الوهم منهم او متخابثاً او متواطئاً، كل هؤلاء يتصرفون وكأن الجنرال ايزنهاور هو الذي يحكم الآن الولايات المتحدة، وانه لا بد سوف يتدخل لإجبار إسرائيل على الانسحاب (ومعها بريطانيا وفرنسا) في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في مثل هذه الأيام من العام 1956.
وينسى أهل النظام العربي ان ايزنهاور أولا قد مات منذ عقود، وثانياً انه لم يكن يقوم آنذاك بعمل خيري، ولكنه استفاد من الخطأ التاريخي الذي ارتكبته بريطانيا وفرنسا عبر شن الحرب على مصر بالتواطؤ مع إسرائيل، وكل منها لسبب، لإعلان طرد الإمبراطوريتين العجوزين من الشرق الأوسط، لتحل الولايات المتحدة الاميركية محلهما… آخذة في اعتبارها ان تتولى بنفسها رعاية إسرائيل رعاية مطلقة، بوصفها الشريك الاستراتيجي الدائم.
لكن أميركا ايزنهاور، بغض النظر عن الأغراض الاستراتيجية المختلفة يومها عنها الآن، قد اختفت تماماً، لتظهر أميركا الإمبريالية التي تريد وتسعى وتعمل للهيمنة على العالم كله…
لتوضيح الفارق، يمكن الاستشهاد بما قاله وزير الحرب الاميركي دونالد رامسفيلد: «اننا لا نحصي جثث الآخرين».
وحتى اليوم لا يبدو «الشعب الاميركي» معنياً بأن يعرف كم من العراقيين قتلوا او جرحوا او شردوا من ديارهم في «حرب التحرير» الاميركية لبلادهم، علماً بأن أعداد الضحايا بالملايين..
تماماً كما ان الإسرائيليين غير معنيين بأن يعرفوا كم من الفلسطينيين قتلوا أو شردوا خلال دهر الاحتلال الممتد منذ العام 1967 وحتى اليوم، هذا اذا ما قفزنا عن بداية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بكل المذابح وعمليات القتل الجماعي التي شهدتها أنحاء فلسطين المختلفة، بالمدن والقرى، خلال العام 1948.
[[[[[
دولة الأوهام في فلسطين العربية التي تخلى عنها أهلها لن تبصر النور في عصر سقوط الدول الكرتونية التي أقامها الاستعمار في الأرض العربية، والتي عاشت في قلق مصيري، لا هي تستطيع ان تكتسب قوة من واقعها ولا محيطها يحضنها فيحصنها. والكل بحاجة الى من يحميه ليبقى…وها هي تلك الكيانات تتهاوى بالضربات الانفصالية القاضية فلماذا ستتنازل إسرائيل؟
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية