ليس في المنطقة العربية جميعاً، بمشرقها ومغربها، حياة سياسية كالتي نقرأ عنها أو نشاهد بعض معاركها في وسائل الإعلام العالمي، وكلها تدور حول برامج وخطط طريق للتقدم عبر المنافسة الديموقراطية بسلاح «الصندوقة» أي أصوات الناخبين.
الحزب «السياسي» الوحيد القائم في دنيانا هو «حزب الحاكم»، والحاكم الفعلي ـ حتى إشعار آخر – هو «الجيش»، أما المكتب السياسي لهذا الحزب فيتمثل في المخابرات، أساساً، ومعها سائر الأجهزة الأمنية.
حتى في البلاد التي اغتنى تاريخها السياسي بتجارب الأحزاب ذات المبادئ المبشرة بغد عربي مشرق، يقوم على ركائز الوحدة والحرية والاشتراكية، أو الحرية والاشتراكية والوحدة، انتهى الصراع على الحكم بتسلم الجيش، مباشرة أو مداورة، السلطة كل السلطة، مستبقياً الشعارات الحزبية زاهية ومرفرفة فوق مقار فخمة الأثاث في قلب العاصمة وسائر المدن والقصبات في جهات البلاد المختلفة.
أما في الممالك وما شابه، فالحكم للأسر المالكة تحكم باسم الله والنسب الشريف، أو باسم الله والسيف، وإن غطت سلطتها بالشريعة.. والذهب.
في مجال موجبات حماية السلطة لا يختلف الأمر في الجمهوريات عنه في الممالك، فمن لا يخضعه السيف يتكفل به الذهب، و«الحزب الحاكم» بما هو مصدر المنافع والامتيازات سواء لمن في السلطة أو خارجها.
هذا الواقع هو نتيجة لتطورات دراماتيكية طرأت على الأنظمة العربية بعد «النكبة» التي أفضت إلى الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، في العام 1948، و«النكبة» هي التسمية القدرية للهزيمة العربية المدوية في مواجهة العصابات الصهيونية.. وهي تسمية خادعة تخفي أو تطمس المسؤولية المباشرة للأنظمة الحاكمة، آنذاك، ليس فقط نتيجة غفلتها وتقصيرها وبالتالي عجزها عن مواجهة الحرب الإسرائيلية الأولى، بل أساساً بسبب من طبيعة هذه «الأنظمة» التي سلمها «الاستعمار» فرنسياً كما في سوريا ولبنان، أو بريطانياً كما في العراق وسائر أنحاء الخليج التي لم تكن قد عرفت الدولة بعد، «دولاً» ليست بدول، فاحتفت قيادات النضال ضد الاستعمار بهذا الإنجاز التاريخي وتولت مقاليد الحكم في «دول» ملغمة بالخلافات على الحدود مع «الأهل» في الجانب الآخر من الحدود (كما الحال بين سوريا والأردن، وسوريا ولبنان) أو باختلاف الأنظمة والولاءات (جمهورية في سوريا، ملكية في الأردن والعراق) بحكم اختلاف المستعمرين.
عبر هذه الخلافات، وبفضلها، أقيمت على عجل، «دولة» في بعض البادية السورية (إمارة شرق الأردن) سرعان ما تحولت بفضل «النكبة» ونتيجة لها، إلى «المملكة الأردنية الهاشمية»… فقد تحول استباق «النكبة» إلى استثمار سريع لبعض نتائجها على الأرض، ولم يكن بوسع الشعب الفلسطيني – في ما تبقى له من أرضه – أن يرفض «العرض الهاشمي» لأن البديل كان محدداً: تمدد الكيان الإسرائيلي الذي أقيم بالسيف إلى كامل مساحة فلسطين (وهذا ما سوف يحدث في أعقاب هزيمة 5 حزيران 1967).
فتحت «النكبة» الباب عريضاً أمام الجيوش الوليدة والتي تعرضت لهزيمة مريرة، كانت مؤكدة في أي حساب، للارتداد نحو الأنظمة الحاكمة في قصور العواصم، والتي أوفدتها إلى حرب مع عدو تجهل الحد الأدنى من المعلومات الجدية عنه، وبالتحديد عن «عصاباته» التي سوف تشكل عبر الحرب أقوى جيوش المنطقة جميعا، سلاحاً وتدريباً وخططاً ومعلومات توفرها دول العالم اجمع، ثم إنه أعظم، حتى في العدد من كل ما لدى «الدول» العربية آنذاك من جيوش.
وهكذا وجدت الجيوش مبرراً مقبولاً، بل ومشرفاً، للانقضاض على قصور الحكم وخلع المسؤولين عن الهزيمة، وها هي تتولى السلطة، مباشرة أو عبر واجهة مدنية، حزبية في الغالب، منذ أكثر من ستين سنة.
خلال السنوات العشر التي أعقبت الهزيمة في فلسطين توالت الانقلابات العسكرية في سوريا، خصوصاً وقد أمكن لبعض الضباط أن ينشئوا «علاقات تآمرية» مع بعض الأحزاب السياسية، التي وفرت لهم قدراً من الغطاء الشعبي.. لكن ذلك لم يؤد إلى إقامة «دولة» بطبيعة الحال. ربما لهذا، بين أسباب عديدة أخرى لا مجال لتفصيلها، وجدت السلطة القائمة أن مخرجها من مأزق العجز عن إدارة البلاد، هو دمج سوريا في مصر جمال عبد الناصر في العام 1958، وكان قد بات زعيم الأمة منذ مواجهته، مع الشعب في مصر، والتضامن العربي العريض، العدوان الثلاثي في خريف 1956… وقد رأى كثيرون في هذا الإنجاز التاريخي (قيام الجمهورية العربية المتحدة) رداً قوياً على الهزيمة.
بعد خمسة شهور فقط من هذا الحدث المحوري أسقط الجيش العراقي الحكم الملكي الهاشمي في بغداد، في 14 تموز 1958، وقد فضل قائده الزعيم عبد الكريم قاسم التحالف مع الشيوعيين، تمهيداً لتصفية «الشريك القومي» في الثورة، ممثلاً بعبد السلام عارف ومعه «البعثيون» و«القوميون العرب»، مجهضاً الأحلام بانضمام العراق إلى دولة الوحدة. ومنذ ذلك اليوم وحتى سقوط بغداد أمام الغزو الأميركي المغطى بمشاركة عربية عسكرية، ظلت المخابرات وخلفها الجيش، هي الركيزة الفعلية لصدام حسين، ما أغواه بشن الحرب على إيران، فلما خرج منها «منتصراً» فوجئ بأن من مولوا حربه قد انفضوا من حوله، فغزا جارته الغنية الكويت… وكان ذلك المدخل إلى شن حرب أميركية بمشاركة عربية، على العراق، انتهت بإسقاط العراق جميعاً وليس صدام حسين فحسب.
في العام 1961 اسقط الجيش السوري (في غمرة مؤامرة واسعة النطاق كان بين أطرافها سوء الإدارة المصرية) دولة الوحدة، وعاد إلى السلطة عبر سلسلة من الانقلابات لم تتوقف فعلياً إلا عندما قفز إلى القيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد (سنة 1970) بعدما أعاد تركيب الجيش والأجهزة الأمنية ليستمر حكمه ثلاثين سنة كاملة.. ثم وفر، قبل رحيله، شروط تأمين الخلافة لنجله بشار حافظ الأسد.
في العام 1962 كان الانتصار البهي لثورة الجزائر التي قادها «جيش التحرير». وكان بديهياً أن يتولى الجيش زمام الحكم، لأنه «الجسم السياسي» الوحيد المتماسك… ثم كان «طبيعياً» أن ينقلب «جيش التحرير»، بقيادته الميدانية، على الرئيس المنتخب احمد بن بلا الآتي من سجن فرنسي طويل، وفي حال من الغربة عن الجيش… وما زال هذا الجيش هو الحاكم الفعلي، وإن اختار أحياناً واجهة مدنية.
في العام 1962 أيضاً قام الجيش اليمني، ضئيل الإمكانات والعدد، بخلع الإمام البدر بن الإمام أحمد حميد الدين، الذي كان قد حجر على اليمن في القرون الوسطى. وقد هبت مصر عبد الناصر لمساعدة «الثورة».. وكان بديهياً أن يقع التصادم مع السعودية. ثم كان أن استقل جنوب اليمن، وأقيمت فيه دولة على عجل، حماها الاتحاد السوفياتي، حتى إذا ما سقط النظام الشيوعي وعادت روسيا إلى حجمها، سقط النظام الذي بدأ قومياً وانتهى شيوعياً، وأخذ الجنوب إلى دولة الشمال قهراً.. وها هي الحرب الأهلية تهدد اليمن جميعاً اليوم.
تمكن الإشارة إلى أن العسكر يحكم السودان منذ دهر، بعد حقبة قصيرة من الحكم المدني، بالاستناد إلى «الإخوان المسلمين».
كذلك فقد حكم العسكر ليبيا منذ «ثورة الفاتح» التي قادها الملازم «معمر القذافي».. وهو سرعان ما احتكر السلطة جميعاً لمدة 41 عاماً متصلة انتهت بثورة شعبية أفضت إلى فوضى دموية تنهش لحم ليبيا عبر صراع دموي مفتوح بين بقايا الجيش الذي حله القذافي وبين تنظيمات سياسية ظلت ضعيفة ومطاردة على الدوام أبرزها الإخوان المسلمون.
وفي تونس التي حكمها الحبيب بورقيبه لأكثر من ثلاثين سنة، قفز جنرال المخابرات زين العابدين بن علي إلى السلطة، فأزاح «المجاهد الأكبر» ليحكم عشرين سنة تقريباً حتى كانت انتفاضة البوعزيزي، التي باتت تعتبر فجر التغيير في الوطن العربي، فأسقط بن علي وقام فيها حكم ائتلافي لـ«الإخوان المسلمين» مركز الصدارة فيه… وما زال الوضع مفتوحاً على احتمالات شتى، وإن كان مما يزيد في عمره أن لا جيش في تونس، بالمعنى المألوف.
هل هي عودة الجيش إلى السلطة بثياب مدنية مدعوماً بانتخابات شعبية من الصعب الطعن بديموقراطيتها (كما في مصر)؟ أو الحديث عن بديل من الجيش في بلد معطلة الحياة السياسية فيه (مثل سوريا) برغم إعادة تظهير «الحزب الحاكم» و«الأحزاب التاريخية» الأخرى التي سلمت بقيادته منذ زمن بعيد، وارتضت مثله الحكم بالشعار الحزبي وضمانة العسكر؟
لقد خلع المشير السيسي البزة العسكرية، ووصل إلى السدة باستفتاء شعبي يصعب الطعن بنتائجه، مع أن الظروف المحيطة بهذا الوصول استثنائية تماماً، فهو قد تنازل عن إمرة الجيش بعدما دعم تحصينه ومنع خلع قيادته إلا بشروط يصعب توفيرها.
لكنه في نهاية الأمر عسكري بتاريخه وبموقعه الذي غادره.
كذلك فإن الرئيس السوري بشار الأسد الذي خلع البزة العسكرية ما زال يحتفظ برتبته المميزة – عسكرياً- فضلا عن كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة.
الأمر يتصل بطبيعة الحياة السياسية في المجتمعات العربية، التي تكاد تكون بلا أحزاب لها نصابها الشعبي، وبلا نقابات مستقلة.
وما دامت الحياة السياسية خاوية سيبقى «النظام» هو الأقوى، كما أثبتت تجربة سوريا المأساوية، فضلاً عن تجربة مصر التي قادها وحماها «الميدان»، فلما جاءت لحظة الحقيقة كان الحسم في يد الجيش، وهو قد فعلها، مقدماً قائده للرئاسة الأولى..
في انتظار أن يستعيد المجتمع وعيه وتنجح نخبه في بناء حركة شعبية ذات برامج تلبي تطلعات الشعب إلى حكم قادر على الإنجاز، سيظل الجيش وحده قوة التغيير، وبالتالي المؤهل للحكم.. ولو بثياب مدنية.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية