يقصد أهل النظام العربي، أو من يمثلهم، بغداد، بعد أيام، للمشاركة في القمة العربية الثانية والعشرين. أخطر ما في القرار: عودة «العرب»إلى العراق، بعد دهر من القطيعة، وبعد تبدلات هائلة طرأت على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذه الدنيا العربية الواسعة، اختفى معها «المركز» وسادت حالة من الفوضى الشاملة نتيجة الافتراق العلني، حتى لا نقول «الصدام» بين العروبة والإسلام السياسي… وسقطت اسرائيل سهواً من دائرة الاهتمام.
من حيث خطورة الأوضاع تتماثل المبررات التي تجعل انعقاد هذه القمة «ضرورة» مع تلك التي كانت سائدة أواخر العام 1963، والتي دفعت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى إطلاق الدعوة إلى «قمة عاجلة»، والى تلبية القادة العرب جميعاً الدعوة، متجاوزين خلافاتهم الحادة.. وهكذا توافدوا سراعاً إلى القاهرة حيث احتضنت الجامعة العربية قمتهم على امتداد ثلاثة أيام، وكان عنوان القمة: ضرورة توحيد الموقف العربي لمواجهة مشروع حرب إسرائيلية على المياه العربية، عبر إقدامها على تحويل روافد نهر الأردن.
… وكان ضرورياً أن يعود أهل النظام العربي الى قمة ثانية، بعد تسعة شهور، انعقدت في الخامس من أيلول – سبتمبر- في الإسكندرية، وامتدت لستة أيام، وأقروا فيها ما شكل إطاراً لقيادة عسكرية موحدة، في ظل القيادة السياسية المتلاقية على هدف مواجهة العدو الإسرائيلي، وحماية بعض الحقوق الطبيعية لثلاث من «دول الطوق» هي: سوريا والأردن ولبنان.
مع قمة بغداد تحوم في الأفق أسئلة وتساؤلات عديدة، بينها:
من يذهب من «العرب» إلى قمة بغداد؟
والى أين يذهب العرب بعد قمة بغداد؟
هل سيتقاربون خلال قمة بغداد.. أم تكون هذه آخر قمة عربية؟
تدل السوابق أن مؤسسة القمة قد فقدت وظيفتها كإطار استثنائي جامع لأهل النظام العربي.. فلم يعد «العرب» عرباً. ولم تعد القواسم المشتركة قائمة ومعتمدة، ولو بحدها الأدنى.
صار الإسلاميون بأنواعهم، إخواناً وسلفيين وأصوليين قد يلامس بعضهم حدود «القاعدة»، أكثرية نافذة، وتجاوزوا بمبادئهم وطروحاتهم القومية، (أي العروبة)، ولسوف يحاولون ـ بالتأكيد ـ أخذ القمة إلى سياق آخر مختلف عما كانت تشهده رحابها من تجاذبات.
ومن أسف، انه لم يعد ممكناً اعتبار القمة ساحة صراع بين العروبة والإسلام السياسي.. فالعروبة مهزومة، والإسلاميون على صهوة جواد الانتصار، وربما خطر في بال المؤتمرين، او بعضهم، تغيير التسمية ذاتها، او وظيفة الجامعة ومن ثم القمة.
ولكن.. أي إسلام سياسي هذا الذي سينتصر، في الجامعة، وهل له صيغة ومن ثم توجهات متطابقة؟
هل إسلام الفائزين بالانتخابات في مصر هو ذاته إسلام متصدري الحكم في تونس؟ وهل هو ذاته إسلام التائهين في «ولايات» ليبيا ومنافيها؟ وأين يقع إسلاميو أمير المؤمنين الذين أوصلتهم الانتخابات، بتوجيه مباشر منه، الى السلطة في المغرب؟
ثم.. هل ستحضر فلسطين القمة، وتحت أي مسمى: منظمة التحرير الفلسطينية، أم السلطة تحت رعاية الرباعية، أم غزة المحررة بالشعار الإسلامي تحت الحصار الإسرائيلي؟
وهل يمكن القمة تبرير غياب أو تغييب سوريا الغارقة في دمائها؟ وهل عند القمة ما تقدمه لهذه الدولة المؤسسة، ولشعبها الذي أعطى من دمه لكل حركة تحرر أو تحرير في الوطن العربي؟ أم تراها سوف تشدد من العقوبات الهادفة الى تجويعه تحت ذريعة أنها تعاقب «النظام» لا الشعب؟
لقد صودر قرار الجامعة في مقرها بالقاهرة فتعطل دورها في دمشق وتحولت الى مجرد ساعي بريد يأخذ ألازمات العربية إلى مجلس الأمن لتقرر «الدول» فيها ما يتناسب مع مصالحها، وما يخدم صراعاتها على هذه المنطقة ذات الأهمية الفائقة، في مصادر ثرواتها كما في موقعها الاستراتيجي، وقبل الحديث عن حقوق شعوبها وعن طموحهم المشروع إلى حياة أفضل.
اللافت للنظر أن معظم الملوك لن يحضروا قمة اليوم الواحد أو نصف اليوم، كما يحاول البعض «تقزيمها» لتبرير حضوره الذي قد يشكل تزكية للسلطة المنقسمة على نفسها.. لا ملك السعودية ولا ملك المغرب ولا ملك البحرين (على الأرجح).. وربما حضر ملك الأردن لأسباب يتداخل فيها الأمن والاقتصاد ومصالح المعبر (النفط والمساعدات المباشرة وأعداد العراقيين المقيمين في الأردن، ومعظمهم من أصحاب الثروات والنفوذ).
كذلك لن يحضر «الرئيس» المصري المؤقت، المشير حسين طنطاوي، لأسباب تتصل بالأوضاع المضطربة في مصر، خصوصاً أن وضع الحكومة مهزوز.
سيحضر الرئيس التونسي الذي حملته الثورة إلى السلطة، كما سيحضر القائم مقام الرئيس في ليبيا الذاهبة إلى التشطير.
مفهوم أن يحضر «قادة» جيبوتي وجزر القمر وموريتانيا والصومال.. ولكن حضورهم سيعني زيادة في تأثير أصحاب القدرة على التأثير، ولا يعني ضخ الزخم في القرار.
سيحضر رئيس لبنان لأنه لا يملك سبباً للغياب. وسيحضر أمير الكويت لأسباب تخص الكويت، ومحاولة لتصفية «النزاع» التاريخي على الجغرافيا النفطية، براً وبحراً.
باختضار: سيكون التلاقي في بغداد قمة رمزية أهم ما فيها إعادة الاعتبار إلى العراق كدولة، وإن بقيت وظيفتها العربية محل اختبار أو امتحان.
أخطر ما يتهدد هذه القمة، التي يستحيل فيها اتخاذ قرارات جدية، ان تتحكم الأحقاد في ما قد يصدر عنها.. فالإجماع مستحيل، وكذلك اتخاذ القرارات بالأكثرية بسبب غياب «الكبار»، أي مصر البلا رئيس، والسعودية التي لا يغني وزيرها عن الملك، وسوريا «المطرودة» من الجامعة التي استنبتت نواتها فيها.
وسيظل السؤال الأكبر: كيف سيتم التعامل مع الموضوع السوري؟
المضيف لا يريد أن يذهب إلى الحرب على دمشق.. وهو قد حاول أن يعفي نفسه من موجبات المقاطعة الكاملة، أقله اقتصادياً، فضلاً عن أنه يقدر لسوريا موقفها المبدئي من الاحتلال الأميركي وما قدمته من جهد لمساندة توجهات الحكم نحو تحرير إرادته ومحاولة حماية وحدة البلاد. بعد ذلك تتزاحم أسئلة تخص البلد المضيف في أوضاعه الاستثنائية التي تضغط عليه سياسياً وأمنياً واقتصادياً بسبب من فساد الإدارة.
فالقمة تنعقد في عاصمة دولة مهيضة الجناح، مهددة في وحدتها الوطنية، وكيانها السياسي مشروخ بالإقليم الكردي.
وبقدر ما تعني القمة إعادة الاعتبار الى هذه الدولة العربية الكبيرة والتي كانت بين المؤسسين لجامعة الدول العربية، فإن واقع السلطة فيها قد يضيع الكثير من احتمالات الإفادة منها لتعزيز مكانة العراق ودوره العربي والدولي.
فالحكم المركزي مشقق الرأس وسلطته الفعلية رمزية إلى حد بعيد، نتيجة للصراع السياسي الذي انحدر ـ واقعياً ـ إلى المستوى الطائفي والمذهبي فضلاً عن العرقي.
السؤال الذي تضج به بغداد، فضلاً عن العواصم العربية:
هل يرئس الوفد العراقي المضيف رئيس الدولة جلال الطالباني أم رئيس الحكومة نور المالكي؟
والسؤال يخفي أو يحاول أن يخفي إشكالا سياسياً له خلفية عنصرية:
هل يرئس القمة العربية، لأول مرة في تاريخها، رئيس كردي، أم يغيب هذا الرئيس لأسباب صحية لتكون الرئاسة لعربي هو رئيس الحكومة؟
قمة العرب في بغداد لن تستغرق إلا نصف يوم.. والأرجح أن تظل محركات الطائرات حاملة الضيوف «شغالة».
.. والصورة التذكارية هي أهم إنجازات هذه القمة: أن يكون القادة العرب في عصر نهوض الحركة الإسلامية، قد عادوا إلى بغداد أو حاولوا استعادتها وطي الصفحة السوداء لعصر الطاغية صدام حسين والصفــحة الأكثر سواداً لعصر الاحتلال الاميركي الذي تفوق على «سلفه الصالح» دموية، كما في تشريد أبناء بلاد الرافدين التي كانت تعتبر قلعة العرب وعنوان صمودهم في مواجهة مشاريع التقسيم والتفتيت، والتي تتهددها هذه المخاطر حالياً.
لقد كانت القمة العربية الأولى، قبل نصف قرن إلا قليلاً، علامة طيبة عن عودة الأمة إلى الوعي بذاتها وبوحدة مصيرها في مواجهة العدو الإسرائيلي بكل القوى الدولية التي تدعمها، والتي يتعاظم دعمها له بحيث أن إسرائيل قد باتت تجاهر أنها «هي أميركا وأميركا هي».
وليس من الفطنة ان نفترض ان قمة بغداد سوف تنجز ما عجزت عنه القمم العربية السابقة، ولكن يكفي أنها ستعيد الاعتبار ـ رمزياً ـ إلى العراق كدولة، وأن تسقط الحظر الذي كانت تفرضه عليه.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية