يعيش لبنان هذه الأيام، حالة من الاضطراب والقلق تكاد تهدده في وحدته الوطنية، في ظل تدهور الحياة السياسية بل تردّيها، وتفاقم الأزمة الاقتصادية التي تحاصر أهله، وإن بقيت صورتهم في الخارج توحي وكأنهم يعيشون حالة من الترف لا تفسير له في واقعهم، إلا عشقهم للحياة بدولة وبلا دولة، لا فرق، بحكومة مشلولة عاجزة عن القرار ومجلس نيابي مقفل، وبفراغ في الرئاسة مفتوح على المجهول.. ربما لأنهم اعتادوا أن يكون لدولتهم حضور رمزي.
ومما يزيد من خطورة هذه الحالة انشغال «العرب» بهمومهم التي تجاوزت الصراع السياسي إلى الحرب، الحرب الأهلية في بعض الحالات، والحرب على الاخوة في حالات أخرى، في ظل انقسام حاد تتجاوز خطورته السياسة إلى تهديد الوحدة الداخلية في هذه الدولة أو تلك، أو تهديد «الدولة» بكيانها السياسي ووحدة شعبها.
ولأن الوحدة الوطنية في لبنان شرط حياة لدولته، فإن أي تهديد لها سينعكس فوراً على كيانه الصغير الذي عاش دائماً تحت رعاية دولية واحتضان عربي شامل.
وغالباً ما شكلت بيروت مرآة عاكسة لأوضاع المشرق العربي، خصوصاً ومعه بعض المغرب، سواء في العلاقات البينية أو في موقعها من حركة الصراع الدولي بالعنوان الروسي ـ الأميركي، وضمنه الغرب الأوروبي، من دون أن ننسى التهديد المفتوح على الخطر المصيري الذي يشكله العدو الإسرائيلي.
تاريخياً، كان يمكنك وأنت في بيروت، وانطلاقاً منها، أن تقرأ العلاقات العربية ـ العربية من خلال ظلالها وانعكاساتها عبر مواقف الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية التي لكل نظام فيها نصيب، وعلى قاعدة الأقرب فالأبعد، الأقوى فالأغنى.
ومع أن الحرب في سوريا وعليها قد أنهكت النظام في سوريا، فهو ما زال يملك ـ إلى حد كبير ـ حق «الفيتو»، وما زال قادراً على التأثير، ربما أقل مما كان قبل سنوات، ولكن من الصعب تجاوزه أو تجاهله ومن الخطأ شطبه من أي حساب يتصل بلبنان، وإن اختلف اللبنانيون حول هذا الدور، وتبدلت مواقفهم منه بحسب القرب والبعد عن مواقع التأثير، عربياً.
ونتيجة للحرب في سوريا وعليها، فقد انقسم العرب كما لم ينقسموا في تاريخهم الحديث: انقلب بعض حلفاء النظام إلى خصوم، بل أعداء يمدون المعارضات المختلفة بالسلاح والمال والرعاية السياسية التي تمتد بتأثيرها إلى عواصم دولية بعيدة، فيما نأت دول عربية أخرى عن هذا الصراع، وإن ظل بعضها في موقع «الصديق» للنظام في دمشق، وبعضها الآخر في موقع «الخصم» مجاراة للسعودية خاصة ومعها «مجلس التعاون الخليجي».
ولقد استطاعت السعودية، بتأثيرها المذهّب، أن تستدرج بعض الدول العربية إلى تأييد حربها على اليمن، أو إلى عدم الاعتراض عليها، بذريعة صد التدخل الإيراني فيها.
هكذا، تبدل موقف السعودية، ومعها دول «مجلس التعاون»، من لبنان وحكومته، فأعلنت «حرباً» على «حزب الله»، من ضمن حربها على إيران التي تتهمها بمساندة «أنصار الله» والرئيس السابق علي عبد الله صالح في اليمن… مع أن هذا الحزب يشارك في الحكومات في لبنان منذ أحد عشر عاماً بوزيرين، بلا اعتراض من أي دولة عربية، بما في ذلك السعودية ودول الخليج، التي كانت حتى الأمس القريب تتواصل مع هذا الحزب المؤثر في الحياة السياسية اللبنانية، اعترافاً بدوره المميز كبطل تحرير الأرض اللبنانية من رجس الاحتلال الإسرائيلي.
الذريعة الآن: دور الحزب في مساندة النظام السوري الذي تقاتله السعودية وبعض دول الخليج بالواسطة، بعدما كانت المملكة شريكة سوريا في رعاية لبنان منذ اتفاق الطائف، وحتى الأمس القريب. وشهيرة هي الزيارة التي قام بها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز لبيروت، مصطحباً معه الرئيس السوري بشار الأسد، عشية الانفجار في سوريا، في العام 2010.
وليس سراً أن هذا الموقف السعودي (والخليجي استطراداً) قد عطل دوراً كان متوقعاً لمصر في السعي لرأب الصدع بين سوريا وهذا التكتل المذهب. وقد أضافت الأزمة التي فجرت العلاقات السعودية الإيرانية، بعد مأساة الحجاج في الحرم المكي، ثم بعد التظاهرات التي هاجمت السفارة السعودية في طهران ومعها القنصلية العامة في مشهد، أبعاداً جديدة إلى موقف الرياض من الحكومة في لبنان، ومن مشاركة «حزب الله» فيها.
من هنا، فإن السعودية قد أوقفت تمويل صفقة من السلاح الفرنسي كان مفروضاً أن تقدمه للبنان (ثلاثة مليارات دولار). بل إنها عمدت إلى تحويل هذا السلاح إلى جيشها، بعد تعديل في أنواعه.
ثم ان السعودية قد انتبهت، متأخرة، إلى أن لبنان يمتنع عن إدانة «حزب الله» الذي يشارك في حكوماته منذ عشر سنوات على الأقل، ولا يقبل، بالتأكيد، توصيفه بـ «الإرهابي». وهكذا أصرت في مؤتمر إسلامي انعقد في الرياض، ثم في اجتماع لوزراء الخارجية في جامعة الدول العربية على دمغ هذا الحزب بالإرهاب، وهو الذي يحفظ له العرب عموماً، واللبنانيون خاصة، أنه قاتل العدو الإسرائيلي لمدة تقارب العشرين عاماً حتى تم تحرير الأرض اللبنانية. ثم عاد فواجه هذا العدو في حرب تموز (يوليو) 2006 وصد هجومه مجبراً القوات الإسرائيلية الغازية على وقف حربها ومن ثم الجلاء عن الأرض اللبنانية بالكامل وإعادة نشر قوات الطوارئ الدولية على طول الحدود.
وكان طبيعياً أن يثير هذا التحول في موقف السعودية، ومعها دول «مجلس التعاون»، مخاوف اللبنانيين الذين يعمل حوالي نصف مليون منهم في دول شبه الجزيرة العربية، ويبذلون عرق جباههم في عمرانها لكي يعيلوا أسرهم ويوفّروا لها فرصة الأمان. وبرغم بيانات مقتضبة تطمئن، نسبياً، القلقين على وجودهم في المملكة وسائر أقطار الخليج، فقد اهتز وضع الحكومة المركبة على قاعدة التوافق، والتي «تسير» الأمور في انتظار انتخاب رئيس للجمهورية يملأ مقعد رأس السلطة الشاغر منذ نحو عامين.
ولعل اللبنانيين يعقدون الأمل على أن تلعب مصر دوراً مهدئاً للغضب السعودي، مستفيدة من زيارة الملك سلمان ومحادثاته مع قيادتها، خصوصاً أن وفداً نيابياً لبنانياً تصادف وقوع زيارته مع وجود الملك في القاهرة.
كذلك فإن اللبنانيين الذين يعيشون ـ عملياً ـ بلا دولة، يأملون ألا تمتد إلى وطنهم الصغير والجميل تداعيات الحروب العربية ـ العربية التي تشعل جنبات اليمن وتهدد وحدة العراق ووحدة سوريا، وتدمر دولة ليبيا ولا بد أن تنعكس عليهم فتزيد من أسباب فرقتهم… خصوصاً وأن بعض هذه الحروب يتخذ أكثر فأكثر أبعاداً مذهبية، ما يتسبب في اهتزاز وحدة اللبنانيين ويقسمهم إلى ما يتجاوز السياسة، أي الانقسام الطائفي.
ومعروف أن لبنان يعيش استقراراً وازدهاراً ويستطيع أن يلعب دوره في خدمة القضايا العربية، طالما ساعد أهله العرب في تمتين ركائز وحدته الوطنية. فإذا ما انقسموا سياسياً ارتج استقراره، أما إذا دخلت الطائفية والمذهبية ساحة الصراع بين الأنظمة العربية فإن ذلك يهدد لبنان في وحدته الوطنية وهي الركيزة الأساس في وجوده.
إن لبنان يعيش في قلب الخطر.
إن موقع الرئيس الأول فيه شاغر، وهذا يمس وحدته الوطنية التي ترتكز على التوافق، وعلى تقاسم مواقع السلطة فتكون الرئاسة الأولى لمسيحي (ماروني) ورئاسة مجلس النواب لمسلم (شيعي) ورئاسة الحكومة لمسلم (سني)، وتتوزع مقاعد الحكومة حصصاً طوائفية وفق قواعد أرساها اتفاق الطائف.
ويحب اللبنانيون أن يفترضوا أن إخوتهم العرب حريصون على وحدتهم الوطنية، باعتبارها شهادة أهلية للعرب جميعاً، بأنهم قادرون على تحصين هذا الوطن الصغير، الذي يحكم بالتوافق الطوائفي، فإذا اختل التوافق أو ضربته الخلافات العربية التي تنعكس على توازناته الدقيقة، عاد شبح الحرب الأهلية يطل على هذا الوطن الصغير والجميل، محققاً للعدو الإسرائيلي مكسباً تاريخياً عبر إثبات أن العرب لا يقبلون حقيقة تعددهم مذهبياً، وبالتالي يعجزون عن بناء دولهم بأبنائها جميعاً، ومن دون تمييز على قاعدة الدين أو المذهب.
ويستطيع العرب، بالتأكيد، أن يساعدوا اللبنانيين على استعادة «دولتهم» التي بلا رأس الآن، وتحصين وحدتهم الوطنية المهددة بسبب الانقسامات التي تجد من يشجع على تفاقمها لأغراض سياسية آنية.
ومهما كانت الأسباب، فمن الجريمة التلاعب بمصير شعب عربي نتيجة خلافات بين أهله العرب، لن يكون استمرارها وتفاقمها لخيرهم مجتمعين أو حتى متفرقين.
] تُنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان