يتبدى الوطن العربي على اتساعه، وكأنه «مشاع مفتوح» تتهاوى «دوله» التي تم استيلاد معظمها خدمة لأغراض «الأجنبي»، وفي غيبة أهلها، منذرة بحروب أهلية لا تنتهي.
يكاد «المشرق العربي» يكون بلا «دول» ثابتة الحدود ومؤكدة الهوية إلا «الدولة» الطارئة والتي استولدت قيصريا، في لحظة قدرية، على قاعدة عنصرية، وبقرار دولي، بررته نتائج الحرب العالمية الثانية، وتلاقي مصالح المنتصرين فيها على إقامتها: إسرائيل.
فأما الخرائط التي رسمت للمشرق العربي عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى وفي ضوء نتائجها، وأخطرها – في ما يعني هذه المنطقة – اندثار السلطنة العثمانية بعد استنزافها الشعار الإسلامي في سلوكها الاستعماري العنصري وتهافت سلاطينها، مما مهد لعودة الاستعمار الغربي مظفراً إلى المشرق وتقسيمه بين المنتصرين الأساسيين: بريطانيا، في مجمل مساحتها ما بين مصر واليمن، وفرنسا في لبنان وسوريا وقد رسمت خرائطهما من جديد، وبما يناسب المشروع الصهيوني لفلسطين كتمهيد لإقامة إسرائيل.
ها هو المشرق العربي يكاد يكون بلا دول… فمعظم كياناته السياسية متصدعة، والأنظمة التي كانت تحجب شعوبها وتتبدى «قوية» و«راسخة» بديكتاتورية القمع تحت قيادة «الزعيم الأبدي» تتهاوى، متسببة في ضرب وحدة الشعب بما يعيده إلى عناصره الأولى، دينيا وطائفيا وقوميا، بل وقبلياً وعشائريا، بما يتجاوز الجغرافيا السياسية للكيانات، ويعيد إحياء روابط ما قبل الدولة… خصوصاً في كل من سوريا والأردن والعراق مع امتدادات في بعض دول الجزيرة العربية وخليجها. ويأتي استثناء لبنان، هنا لأن كيانه، إنما أقيم كإطفاء موقت لفتنة دائمة تخدم مصالح «الدول» في جميع الأزمان، وكائنة ما كانت خطورة التحولات التي تطرأ على المنطقة.
بقليل من التأمل الهادئ يمكن للمراقب أن يلحظ الوقائع التالية:
ـ لبنان دولة مشلولة، يحرص «المجتمع الدولي» على حدودها وعلى نظامها الطائفي، ولكنه لا يهتم كثيرا بمشكلاتها الداخلية ما دامت بعيدة عن التفجر كحرب أهلية… فلا يهم أن يشغر موقع رئيس الجمهورية، وان يستمر المجلس النيابي بالتمديد لاغيا الانتخابات، وان تظل الحكومة المركبة مشلولة القرار.
– في سوريا تتمزق الدولة، وتتوزع محافظاتها تنظيمات أصولية وعصابات مسلحة، تحت شعارات طائفية صريحة، لكن النظام يظل صامداً بقوة إسناده الخارجي، سياسيا وعسكريا، وتماسك الكتلة الكبرى من جيشه. فالنظام جزء من معادلة دولية بين الشرق والغرب، لإسرائيل حصة وازنة فيها… وتكوين «دولة يهود العالم» المعزز بالتأييد الدولي الكثيف يشجع ـ في هذه اللحظة، وفي ظل العجز العربي عن مواجهتها عسكريا وسياسيا -، مختلف «الأقليات» التي كانت منصهرة في أنظمة تقول عن نفسها إنها «علمانية» على طلب الانفصال في كيانات مستقلة، أو اقله على طلب استبدال المركزية بدولة فدرالية، لكل طائفة «إقليمها» القوي داخل «الدولة المركزية» الضعيفة.
– ولقد سبق العراق إلى تطبيق هذا النموذج نتيجة الاحتلال الأميركي الذي اسقط النظام الديكتاتوري الذي اقطع السلطة لمجموعة طائفية محددة المنبت ومسقط الرأس، على حساب وحدة الشعب بطوائفه المتعددة وعناصره المختلفة (عرب وكرد، سنة وشيعة، وأقليات مسيحية من الكلدان والأشوريين)…
ومع أن الاحتلال الأميركي قد مكن الكرد من إقامة كيانهم في الشمال العراقي، تحت مسمى الفدرالية، إلا أن الضعف المتفاقم للسلطة المركزية قد عزز التوجه الانفصالي عند الكرد فتحول «الإقليم الكردي» إلى مشروع «دولة» تموله خزينة الدولة المركزية وتحميه «الدول»، في حين أضعفت الخلافات السياسية ذات الخلفية المذهبية السلطة المركزية ودولتها… وهكذا تتعاظم قوة «الإقليم» على حساب «دولة بغداد» التي يتهددها خطر التصدع نتيجة استثمار الخلافات السياسية في تزكية التشطر المذهبي (سني – شيعي).
الأخطر أن التصدع العراقي قد تفاقم مع الحرب على سوريا وفيها، خصوصاً ان استثمار التصدع قد أفاد من تراث «الفتنة الكبرى» بين السنة والشيعة، في كل من سوريا والعراق… وهكذا حصل، وبتشجيع من قوى عربية معروفة فضلاً عن «الدول» ومن ضمنها إسرائيل، أن انحسرت الحقيقة السياسية للصراع ليتخذ المشهد صورة «الفتنة» بين السنة والشيعة بامتداد المنطقة جميعاً.
– يمكن إدراج اليمن في قائمة البلاد التي تصدعت دولتها المركزية فانفتحت حدودها أمام «الدول» كما أمام العصابات المسلحة بالشعار الإسلامي، ونموذجها الأشهر «القاعدة» لتقتطع منها مناطق أو طوائف بالسلاح أو التمويل أو بكليهما معاً، باستغلال الصراع على السلطة بين القبائل أو بين «الجهات» أو بين المذاهب، أو بين هذه جميعها… مما يمكن من تفتيت الدولة المركزية المستولدة حديثا على قاعدة من الخلافات التاريخية بين الشمال والجنوب، أو بين المدينة والقبائل، أو بين القبائل بأنسابها وصراعاتها السابقة على إقامة الدولة، أو بالخلافات المذهبية التي صارت «قواعد» للدول المصطرعة على موقع «الممثل الشرعي الوحيد للدين الحنيف».
– سنتجاوز الصراعات في الممالك والإمارات التي لها منطق مختلف إذ تكاد تنحصر داخل الأسرة الحاكمة ذاتها، في الغالب الأعم، مستعيدين ما قبل توحيد الدولة بالسيف أو بالنفط أو بكليهما تحت مظلة نفوذ دولي، هو صاحب الرأي بل القرار في التوحيد أو التقسيم وصاحب القدرة على حمايته و«تنظيم» الخلافات بما يجعل الأطراف جميعا في حاجة دائمة إليه، فيطمئن إلى موقعه الجديد كحام للدولة واستقرارها وكوصي جبري على الأسر الحاكمة، ولو من بعيد.
ومفهوم أن هذه «الدول» تكاد تكون ملكا خالصاً لأسرها الحاكمة، تعطي من تشاء وتمنع عمن تشاء، مطمئنة إلى مظلة الحماية الخارجية، مستمعة إلى «نصائحها» في مَن تحالف أو تجافي وفي مَن تمنح أو تمنع خيرها عنه.
كذلك، فإن هذه الأنظمة الملكية أو شبه الملكية لا تهتم لأمر الدستور والقانون، فيمكنها الادعاء أن القرآن الكريم هو دستورها، حتى لو كان مجمل أسرتها المالكة لا يقرأ بل يعتمد على الحفظ بالسمع… ثم إن «السيف اصدق إنباء من الكتب»، وما توحد بالسيف أو بالنفط أو بكليهما معاً وتحت مظلة دولية، ليس من السهل تفكيكه، لأن «الوحدة» هنا مصلحة حيوية لأصحاب القرار وليس ضرورياً أن يكونوا هم هم أصحاب الأرض…
على هذا يمكن القول إن أنظمة دول المشرق العربي كانت اضعف من أن تستوعب الانتفاضات الشعبية، وهكذا باشرت قمعها قبل أن تتكامل تشكيلاتها وقبل أن تتبلور شعاراتها… فأهل هذه الأنظمة الحاكمة يعرفون حقيقة الأوضاع القائمة، وهم يدركون بالتالي أن التهاون أو التساهل مع المنتفضين، سواء اتخذت حركتهم شكل الاحتجاج المطالب بتطوير النظام بالإصلاح أم شكل الثورة، سيكشف غربة النظام عن العصر وسيذهب بأهل الحكم، وبالتالي فلا بد من قمعه، وبمنتهى القوة، قبل أن يتكامل في صيغة «الثورة» التي تطمح إلى تغيير جذري تذهب بالأنظمة القائمة وأهلها تمهيداً لبناء النظام المنشود.
بالمقابل، فان الانتفاضات التي تفجرت بالعدوى، بداية، ونتيجة لارتكابات أنظمة العسف والاستبداد في معظم الدول العربية التي تتبدى غريبة عن العصر، معادية لمنطقه ونظمه ومؤسساته، لم تكن قد صاغت خططها للتغيير والطريق إليه، بمعزل عن الشعارات المعبرة عن طموحات وليس عن مشروعات سياسية متكاملة.
وهكذا نجد المشرق يكاد يتحول إلى بحيرة من دماء أهله وسط خراب هائل شمل مؤسسات «دوله» إضافة إلى المدن ذات التاريخ وارض الخير بعدما عجزت أنظمتها عن فهم منطق العصر وَأَصَمَّتْ آذانَها عن مطالب شعوبها.
وانه لمن الظلم أن تُحَمَّلَ هذه الانتفاضات المسؤولية عن خراب «الدولة» في هذه الأقطار التي لم تعرف الدولة حقيقة، بل عرفت أنظمة تتراوح ألقاب قادتها بين «المقدس» و«المبارك» و«الخالد» في حين تمنح «الشعوب» رتبة «المخلصة لقيادتها» و«المطيعة لأصحاب الأمر» أو «الصادقة في إيمانها بقيادتها الملهمة».
هل نفترض أن «الدول» التي أقيمت على عجل، وخدمة لمشاريع غربية، قد أدت الغرض منها ولا يهم إن هي سقطت أو بقيت خرائب متهالكة تنتظر مغامرين يتقدمون لحكمها استباقاً لثورات تفتح الأبواب لفجر جديد؟
… ولكن من قال إن الانتفاضات قد طوت أعلامها وانفضَّت جماهيرها يائسة من القدرة على التغيير؟!
الجواب في المقبل من الأيام. ولا يهم إن امتد لشهور أو لسنة أو اثنتين.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية