سيمر وقت طويل قبل أن يستفيق العالم من هول الصدمة التي أحدثها الانتصار المباغت لدونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون وفوزه برئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
انهارت نظريات فلسفية عريقة، وسقطت تقديرات رصينة، والتَهَمَ الفشلُ إحصائيات واستطلاعات رأي واسعة، وخذلت صناديق الاقتراع خبراء مميزين في اتجاهات الرأي العام وتحولاته، واتسع نطاق الصدمة إلى خارج الولايات المتحدة الأميركية.. بل لعلها كانت في الخارج أشد مما كانت في الداخل.
لكن أهل النظام العربي، وعلى اختلاف منابتهم وتوجهاتهم، استوعبوا الصدمة بسرعة قياسية، وتباروا في السباق إلى تهنئة الفائز الذي لا يعرفهم ولا هم يعرفونه، دونالد ترامب، مقرّين بأنه «السيد» و«صاحب الأمر»، فبايعوه مؤكدين له الطاعة والولاء، متقدمين على جثث الأصدقاء القدامى وفي طليعتهم السيدة التي طالما بهرتهم بقسوتها وشدتها عليهم هيلاري كلينتون.
هم ليسوا معنيين بالأسباب التي أدت إلى هذا الانقلاب السياسي و(الفكري) والاجتماعي في الولايات المتحدة، مبشرة بتحولات ونتائج قد تكون في غاية الخطورة على مستوى العقائد والأفكار ومن ثمّ الأنظمة، في العالم أجمع.. إنهم معنيون، فقط، بأن يقبل «السيد» الجديد «بيعتهم»، وأن يغفر لهم تسرعهم وانبهارهم بـ «بنت الأصول» و «الممثلة الشرعية للنظام القائد في العالم»، زوجة الرئيس السابق الذي خانها فلم تخنه، والذي مشى خلفها تائباً مستغفراً في ثياب الداعية والمروّج والمزكي والناخب الأول، بيل كلينتون.
غير أنهم معنيون ببعض «النتائج الجانبية» لدلالات فوز ترامب بالرئاسة الأميركية، وأبرزها ما يؤكد أن رأس المال قد هَزَم ـ نهائياً ـ العقائد وأفكار التغيير من أجل مستقبل أفضل للإنســان. وهذا يعنــي أن الرئيــس الأمــيركي الجــديد هــــو «بطلهم» و «حامي غدهم» مــن «الدهمــاء» ممثلــة بجــماهير الفقــراء، أو «البروليتاريا» التي استطاع استمالتها والاستقواء بها ضد مصالحها بخطابه الديماغوجي وحركاته البهلوانية.
لا تهمهم مباذل ترامب ولغة الشارع على لسانه مثل قوله عــن كريمتــه الكبرى إنه «كان سينام معها لو لم تكن ابنته»، أو قوله عن الســعودية إنهــا «بقرة حلوب»، أو وصفه المكسيكيين بأنهم «قطعان» الخ…
ذلك كله كلام يذهب مع الهواء. لذا لم يجد أهل النظام العربي صعوبة جدية في ابتلاع مواقفهم المعلنة وعواطفهم الحارة تجاه السيدة هيلاري كلينتون وتمنياتهم لها بالنجاح، وعجلوا باستبدال عنوان من يتوجهون إليه بالتهنئة والتبريكات، حتى لا يحتسب عليهم التأخير نقصاً في الموالاة أو تمرداً على العهد الجديد ورئيسه الذي اقتحم الميدان الانتخابي كمصارع ثيران: هم مع مَن يسكن البيت الأبيض ويتولى فيــه الأختام، ويكون مصدر القرار ومرجعه الأخير… وهم يعرفون أنهم أعجز من أن يستطيعوا التدخل في «اللعبة الديموقراطية» التي لا يعرفون قوانينها، بل ولا يقرون بها أصلاً… فعندهم: البيعة أو السيف!
بل إن بعض هؤلاء من الحكام المذهّبين ربما رأوا «صلة نسب» ما مع هذا الملياردير الذي جنى ثروته الهائلة من المضاربات العقارية. فهم، مثله، أغنى من شعوبهم بما لا يقاس، بل إنهم يحتلون القمة بين أغنى أغنياء العالم، ولا يهــم أن يــكون «رعاياهم» في أدنى السلّم، فالرزق من عند الله هو الكريم الوهاب، وهو ولي النعم، يعطي من يشاء ويمنع عمن يشاء، وله الأمر من قبل ومن بعد…
يهمس أحد أولياء العهود في أذن صديقه: «بل إنه أجدر منا بثروته الخرافية التي كسبها بالمغامرة والمخاطرة المحسوبة… بينما نحن قد جاءتنا الثــروة بــلا مخاطرة، بل ونحن جالسون على الأرائك بعيداً عن الناس الذين لا نراهم إلا في المناسبات التاريخية: الوفاة، تولية ملك أو أمير أو حتى رئيس جديد، بالسيف أو بالتآمر أو بالوراثة معهما…».
بعيداً عن مجريات الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يختلط فيها الجد بالمبتكر والمبتدع من أسباب الترويج والإعلان، فإن النتائج المدوية ممثلة بفوز هذا الملياردير الــذي تــمرد علــى «النخبــة»، وهــاجــم النســاء والــسود وقــاطعــته «الانتلجنسيا»، تطرح أسئلة جدية حول المستقبل، وفي العالم كله وليس في الولايات المتحدة الأميركية فقط.
من تلك الأسئلة:
÷ هل هزم رأس المال مرة أخيرة وإلى الأبد، العقائد، وبالذات الماركسية والاشتراكية وأفكار التغيير للأفضل، عموماً؟ وهل انفتح الطريق، مجدداً، وعلى مستوى العالم، للنظام الرأسمالي المعادي للإنسان؟
÷ هل إن ما حصل في الانتخابات الرئاسية الأميركية «يبشر» بعالم جديد مختلف كل الاختلاف عن العالم الذي عرفناه؟
÷ هل انتهى العصر الذي كان يضج بالعقائد وأفكار التنوير ورؤى التغيير، وانتصرت الرأسمالية المتوحشة على ذلك كله، ومعه البيرقراطية، وبلا مجهود استثنائي؟
÷ وإذا كان رموز البورجوازية والاشتراكية (المعتدلة كما في فرنسا) قد فجعوا بنتائج الانتخابات الرئاسية وبدأوا يعيدون حساباتهم لكي يستطيعوا التعايش مع هذا «الرئيس المذهب» الذي وصل إلى قيادة أقوى دولة في العالم، خلافا للتقديرات والتوقعات والتمنيات، فمن يستطيع رسم الخط البياني لهذا الرئيس الذي جاء من خارج التوقع، والذي باغت العالم بمجموعة من المواقف المغايرة للمألوف.
÷ ماذا يعني، على سبيل المثال، انفتاحه المبكر على روسيا بقيادة بوتين، الذي كان بين أوائل مهنئيه؟
صحيح أن «الحرب» قد توقفت بين الولايات المتحدة كزعيم للمعسكر الرأسمالي على الاتحاد الروسي الذي ورث الاتحاد السوفياتي ناقصاً الشيوعية وامبراطوريتها الكونية… إلا أن المنافسة بين المعسكرَين لا تزال على أشدّها، وتشهد البلاد العربية (بشكل خاص) بعض أقسى منازلاتها الحربية (ســوريا ثمّ العراق وصولاً إلى اليمن).
إن الكلمات الأولى للرئيس الأميركي الجديد توحي بعهد جديد وبعلاقات غير عدائية (إن هي لم تكن ودية) بين موسكو وواشنطن، تتجلى أبرز دلالاتها في حديثه عن سوريا وعن الأسد، والتي عبّر فيها عن موقف جديد قد يجنح إلى التسويات في كل من سوريا والعراق واليمن، وإن ظل متحفظاً في موقفه من إيران.
من العبث التساؤل عن «العرب» في المعركة الرئاسية الأميركية، فالأغنى والأعظم تورطاً في «الحروب ضد الأشقاء» كانوا في المعسكر الآخر. لكنهم كانوا دائماً، وسيبقون، مع «الرئيس الأميركي» ومع «الإدارة الأميركية» ومع المخابرات المركزية الأميركية.
ولو أنهم كانوا أكثر استقلالية، بل أكثر احتراما لشعوبهم ولأنفسهم، لما تهافتوا على السباق في تهنئته، وانتظروا حتى يسمعوا «كلام الرئيس» لا كلام المرشح بكل ما يحفل به من ضروب المزايدة والمناقصة عبر منافسته، وقد كانوا في موقع «التابعين» له.
في أي حال، نحن أمام عصر جديد. فالتغيير في واشنطن ليس أمراً عادياً. والخائفون من هذا التغيير، بين الحكام العرب، أكثر من أن يُحصوا.
لكن السؤال: من هي القوى القادرة والمؤهلة على قيادة التغيير المطلوب، بل المرتجى، في مشارق الأرض العربي ومغاربها؟
& تنشر بالتزامن مع جريدتَي «الشروق» المصرية و«القدس» الفلسطينية