لا مجال لأن يطمئن أي عربي، في أية ارض عربية، الى غده مع واقع ان إسرائيل تكاد تكون أقوى من الدول العربية مجتمعة، ليس بالسلاح فحسب، وإنما بحقيقة أنها تملك مشروعاً استعــمارياً ـ استيطانياً يهدف لأن يجعلها «الدولة المركزية» لكل هذه الأرض العربية، بجمهورياتها وممالكها وإماراتها ومشيخاتها المتعددة الرايات المتناقضة الأهداف، المختصمة في ما بينها الى حد الحرب، والمضيعة قضيتها المقدسة فلسطين التي شكلت وتشكل الآن ولسوف تشكل على الدوام عنوان تحرر العرب وتقدمهم وامتلاكهم الحق في صنع مستقبلهم بقدراتهم.
وإذا ما توخينا الصراحة فإن رفع الصوت بمطلب انتزاع قرار من مجلس الأمن الدولي بإقامة «دولة فلسطين» على بعض البعض من أرضها التاريخية، يتجاوز القدرات العربية، حتى لو اجتمعت، وحجم التأييد الدولي الذي يمكن الحصول عليه في غفلة من العدو الإسرائيلي، الذي لا يغفل، فإن تغافل تكفلت الإدارة الاميركية بإسقاط هذه الفكرة التي استولدها الإفلاس السياسي ولسوف يئدها العجز عن دعمها والسير بها الى تجسيدها كواقع سياسي فوق «الأرض المعادية» للفلسطينيين خصوصاً، وللعرب ومعهم المسلمين عموماً.
هل من الضروري تنشيط الذاكرة بالوقائع الدالة على الفرقة والانقسام الى حد الاشتباك في ما بين الفلسطينيين والفلسطينيين، والعرب والعرب، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في أوائل هذا العام؟!
لقد هرب النظام العربي، ومن ضمنه «السلطة الفلسطينية»، التي لا «سلطة» لها، من المسؤولية البديهية في مواجهة الحرب الإسرائيلية، على الأرض، وبالموقف السياسي الحاسم، فاستعاض عن ذلك كله برحلة ترفيهية الى الأمم المتحدة في نيويورك، حيث أمضى الوزراء وبعض معاونيهم ومعهم الأمين العام لجامعة الدول العربية أياماً في مناقشات ومسامرات ومساومات وحملة علاقات عامة، بينما النار الإسرائيلية تحصد أرواح الأطفال والنساء والرجال والبيوت ومقرات وكالة الغوث الدولية والمستشفيات والمستوصفات وأشجار الزيتون، وتقطع الطرق على نجدة الجرحى واستنقاذ الأولاد والبنات الذين ضربهم اليتم قبل أن يتذوقوا طعم الحياة.
بالمقابل استمر جيش الحرب الإسرائيلي في تدمير معالم العمران في غزة، وهي دار اللجوء الثالث لأهل فلسطين، تاركاً المسؤولين العرب يستجدون وقفاً لإطلاق النار (ليس أكثر)، مطمئناً الى أن غالبيتهم تريده ان يمضي قدماً في استئصال أولئك «الأصوليين» الذين فازوا في الانتخابات التشريعية في غفلة من أصحاب الأمر، ثم انقلبوا عليهم، بل وعلى النظام العربي جميعاً، فحلت عليهم اللعنة واستحقوا العقاب.
دولة فلسطينية بقرار من مجلس الأمن والسلطة التي لا سلطة لها سلطات محتربة!
دولة فلسطينية والحروب العربية ـ العربية تمتد بنيرانها من أقصى الأرض اليمنية الى قلب العراق ومحيطه، فتهدد كيانات بالسقوط، وتؤسس لفتن يمكن ان تمتد دهوراً وتشمل المشرق جميعاً وتلامس ألسنة نيرانها بعض المغرب، فضلاً عن دول إسلامية عديدة؟!
دولة فلسطينية و«رئيس السلطة» مستقيل ولا مرجعية تقبل استقالته او ترفضها، ومؤسسات «الثورة الفلسطينية» طوت أعلامها وصارت إدارات، تمويلها اميركي، وشرطة قيادتها الفعلية إسرائيلية، والنظام العربي يتابع الترويج للمبادرة العربية التي نسيها مَن طرحها بصياغة اميركية تم تعديلها ـ اضطراراً في بيروت ـ لتضمينها نصاً مبتوراً حول «حق العودة»، إكراماً لمضيف القمة الخائف من التوطين وتأثيره على الديمغرافيا اللبنانية؟!
إنه مشروع وهمي يعبر عن اليأس المطلق من السياسة الرسمية التي اعتمدها النظام العربي، ومن ضمنه السلطة الفلسطينية، حتى اليوم، كما أنه يمثل هروباً الى الأمام في رحلة محكومة بالفشل الذي سيقلب اليأس الى استسلام أو إلى النقيض تماماً: اعتبار النظام العربي هو المسؤول عن كل ما أصاب الفلسطينيين، مع سهولة تحويل الاتهام الى «العرب» عبر تغذية الشوفينية الفلسطينية ـ وهي مؤسسة قوية داخل الجسم السياسي الفلسطيني، بل وفي صفوف هذا الشعب الشريد المطارد حتى في رزقه، والذي تقفل يوماً بعد الآخر ما كان مفتوحاً أمامه من أبواب في بعض الدول العربية (لا سيما النفطية منها) ليبني لغيره مقابل ما يمكنه من إعالة أبنائه وتعليمهم، ليكونوا في خدمة السادة الأغنياء ممن كانوا أهلهم من العرب.
إن هذا المشروع الوهمي يتجاوز كونه إعلاناً بسقوط سياسة المساومة على الحقوق الوطنية التي أخذت فيها إسرائيل من العرب بالمفاوضات أكثر مما أخذته منهم بالحروب المتكررة وعبرها.
من السهل، طبعاً، اتهام الإدارة الاميركية أساساً، ومعها الاتحاد الأوروبي، مضافاً اليهما الاتحاد الروسي والصين، بالتواطؤ على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في «بعض» أرضه ولكن… كما أن القانون لا يحمي المغفلين فإن السياسة الدولية لا ترحم المفرطين الذين يحاولون شراء السلطة بأرضهم وبحقوق أهلها فيها.
إن الاعتراف بالعجز عن مواجهة الاجتياح الإسرائيلي لما كان من «حقوق» للسلطة الفلسطينية في بعض البعض من أرضها، ليس عامل قوة يبرر الاحتكام الى المصدر العاجز للشرعية الدولية التي صار امينها العام مجرد موظف بسيط يتلقى توجيهاته من بعض موظفي الخارجية الأميركية، وليس حتى من وزيرها، فضلاً عن الرئيس ـ الملك في البيت الأبيض.
ثم إن النظام العربي الذي عجز عن إصلاح ذات البين بين «السلطتين» المقتتلتين في بعض الأرض الفلسطينية التي ما تزال محتلة، سواء في الضفة الغربية التي تتناقص مساحتها يومياًً نتيجة تمدد المستوطنات القائمة بزياداتها المنهجية، لتغدو المشكلة «إنسانية الطابع» فيصور وقف النمو وكأنه تشريد جديد لهؤلاء البؤساء الذين جاءوا من أربع رياح الأرض هاربين من الاضطهاد العنصري او الديني، لائذين «بوطنهم» التاريخي «دولة يهود العالم» في فلسطين المحتلة.
إن هذا النظام العربي المعلن إفلاسه والعاجز عن عقد اجتماع لأطرافه، ولو في رحلة استجمام، لن ينقلب فجأة الى قوة سياسية جبارة تجبر الإدارة الاميركية وسائر الدول الكبرى في العالم، على تثبيت حق الفلسطينيين في أرضهم، او في البعض منها.
إن هذا النظام العربي قد وقف يتفرج على الاحتلال الاميركي للعراق، ثم على إقدام الاحتلال على تمزيق وحدة الكيان السياسي وعلى إشعال نار الفتنة بين العراقيين، تمهيداً لأن يكرس نهب الثروة الوطنية للعراق في غفلة من أهله داخل «دولته» المهددة بالخراب والتفكك الآن، وأمام عيون أهل النظام العربي جميعاً.
وهذا النظام العربي يقف الآن متفرجاً، وربما مستمــتعاً، بتلاحم أسلحة البر والبحر والجو في كل من دولتي اليمن والسعودية، ضد الخارجين على قيادة الرئيس علي عبد الله صالح، والذين هربوا من نيران طيرانه ومدفعية الميدان وطوابير جنود الوحدات الخاصة التي اعدّها لحراسته في قصره، ولحماية مشروعه في توريث نجله الفذ، حكم اليمن…
إن الصور الفضيحة للغارات التي يشترك في شنها الطيران الحربي اليمني الروسي المنشأ، مع الطيران الحربي السعودي الأميركي المنشأ، مع تنويعات فرنسية وبريطانية، على أولئك البؤساء من «الحوثيين» الذين يواجهون بقوة إيمانهم بحقوقهم في أرضهم، والذين كانوا الى ما قبل حين من الزمن «حلفاء للسيد الرئيس»، وقد استعان بهم في حربه على «أصولية الزنداني» ومن معه، لشهادة فاضحة على التردي المخزي في أحوال العرب نتيجة للنهج القمعي الفظيع الذي يعتمده «النظام» في مواجهة من يخطر ببالهم أن يرفعوا الصوت بالاعتراض مطالبين بحقوق المواطن، بل الرعية، في أن تعيش في أرضها ومن أرضها ولأرضها، وأن يصون النظام كرامتها ولا يطاردها بالطيران لشكه في «ولائها»، ثم يستعين عليها بالنظام المجاور، بذريعة حصر النار ومنع تمددها الى دول الجوار.
إن هذا النظام العربي يستقوي على شعوبه مقابل التخاذل عن مواجهة أعداء الوطن، أو «من كانوا» في موقع أعدائه فصالحهم او هادنهم او واعدهم على الاعتراف والصلح ولو بعد حين، مقابل أن يراعوه فيحفظوه ويتحالفوا معه ضد الأعداء المشتركين من أهل الإرهاب والفتنة والخارجين على الدين الحنيف الذي يقول بخضوع الرعية لأولي الأمر خضوعاً مطلقاً لا يداخله الشك أو الخديعة او نصرة الشيطان على أهل الإيمان!
هل من الضروري التذكير بما أصاب العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً من ضياع للحقوق الوطنية، وتمزق في العلاقات البينية، وهزيمة أمام العدو الإسرائيلي الذي لا يفتأ يمد احتلاله لأرضهم وبحارهم وسمائهم، والأخطر: لإرادتهم، حتى تبتدع «السلطة» هذا المخرج الذي لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسارة وضياع الحقوق الأصلية، مقابل زيادة بند على لائحة المطالب عبر إدراج مشروع القانون المفترض تقديمه الى مجلس الأمن كبرهان جديد على «تنكر الإدارة الاميركية لتعهداتها» وخذلان أوروبا، وتخلي العرب عن قضيتهم المقدسة؟!
إن الهرب من الداخل الى الخارج لن ينفع إلا في زيادة يأس الفلسطينيين من أهلهم العرب، ثم من أنفسهم، بكل النتائج التي يمكن أن تترتب على هذا التخلي، وأبسطها أن يندفع هذا الشعب الشريد الى تمثل المقولة اليهودية الشهيرة بلسان شمشون الجبار «عليّ وعلى أعدائي»… مع إضافة العرب إلى خانة الأعداء، بل وإلى وضعهم في الصدارة.
للفلسطينيين تجارب مرة مع النظام العربي كاد يغريهم عبرها بتقديم العداء له على عدائهم للاحتلال الإسرائيلي،
ولسوف يكون هذا الهرب من المواجهة الذي يلجئ السلطة الى أوهام القرارات الدولية، مرة أخرى، مناسبة جديدة لكي يتحول الفلسطينيون بعدائهم الى النظام العربي بدلاً من إسرائيل، لأنهم لن يروا فيه «المتواطئ» على حقوقهم في أرضهم فحسب، بل إنه الأبدى بالمواجهة لأنه يمنعهم ـ بالقوة كما بالحيلة ـ عن مواجهة عدوهم الأصلي…
وتراث الخبرة بالنظام العربي غني جداً، وليس مما يفيد الغد العربي أن تتوسع رقعة المواجهة بين هذا النظام وبين شعب فلسطين الممزق شعوباً والذي تُختطف منه البقية الباقية من أرضه بتواطؤ عربي معلن مع الاحتلال الإسرائيلي.
وسلام على القدس العربية وحوالى 40 في المئة من البناء الاستيطاني يقام على أنقاض ملكية أهلها الشرعيين لها، لاستكمال الحصار حول المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، والذي يكاد لا يجد بين المسلمين عرباً وغير عرب من هو مستعد لنجدته وحفظه بكل قداسته الاستثنائية.
… ومنذ هزيمة 1967 كان الاحتلال الإسرائيلي يستثني القدس من مشاريعه الاستيطانية، وها هو يكاد يجتاحها جميعاً بمستوطناته… وأمام عيون العرب ومعهم مجلس الأمن الدولي الجزيل الاحترام.
سلاماً فلسطين!
[ ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية