انتهى زمن الحزب – القائد، وانتهى معه، أو قبله، زمن القائد الفرد – زعيم الأمة ومرجعيتها المطلقة. إنه زمن المؤسسات، أحزابا وتكتلات سياسية، وائتلافات حزبية بقيادات جماعية، وإنه بقي «للرفيق والأمين العام»، دور «الناطق» باسمنا المكلف بالدفاع عن مواقفها ومقرراتها.
وليس منطقياً الافتراض أن الإخوان المسلمين سيستطيعون أن يفرضوا زمانهم الخاص على الشعوب في الدول التي يتسنى لهم أن يصلوا فيها إلى سدة السلطة، سواء في مصر أو في تونس أو في ليبيا أو الأردن، أو حتى في فلسطين، حيث يفترض أن المتحدرين من صلب هذا التنظيم العريق هم الآن في موقع القيادة، ولو بالشراكة الإضطرارية مع قوى سياسية أخرى.
والحكم في البلاد العربية، لا سيما حيث لا نفط ولا غاز، تحدّ خطير لأي تنظيم يقترب أو يدعي القدرة على ممارسته بما يخدم مصالح الشعب ويحقق مطالبه الملحة، قبل الحديث عن طموحاته وحقه في غد أفضل.
ثم أن العهد السابق أو حكم الطغيان في أي بلد عربي تم فيه إسقاط النظام، قد ترك البلاد خراباً، سواء في اقتصادها أم في مرافقها العامة، وإدارتها التي ضربها الفساد، وخزينتها التي أفرغ صناديقها النهب المنظم.
على هذا فإن استنقاذ البلاد ومحو آثار الطغيان، بعد إسقاط الطاغية، مهمة جليلة يعجز عن إنجازها حزب بالذات أو مجموعة أحزاب. إنها تحتاج قيادة جماعية على نسق «جبهة وطنية» تنضوي تحت لوائها القوى السياسية، القديمة ذات التاريخ، والجديدة ذات البرنامج العصري، لإخراج البلاد من التخلف والتقدم بها إلى الامام، على قاعدة برنامج سياسي – اقتصادي – اجتماعي واضح ومحدد.
إن أية مراجعة لبرامج الأحزاب السياسية العربية، سواء في مصر أو في غيرها، تكشف الإفتقار إلى خطة محددة وعملية، أي قابلة للتنفيذ. إن تجميع أوراق متفرقة في برامج أحزاب لم تكن في يوم موحدة في الرؤية والأهداف ليست مؤهلة لانتاج مثل هذه الخطة الموعودة. ولدى الشعوب العربية ما يكفي من التجارب الفاشلة لمقولة «الحزب القائد» الذي لم يكن مرة إلا «حزب القائد». وبالتالي فليس مطلوباً أن يعيش بلد عربي، تجربة مُرة كالتي عبرتها الأقطار التي حكم في كل منها «قائد فرد» يحيط نفسه بالجماهير المخدوعة أو المنساقة بالمصلحة أو بالطمع وراء السلطة بسلاحيّ الترهيب والترغيب معاً.
ولا يختلف حزب بشعار ديني طامع أو طامح إلى اختيار سلطة عبر حزب علماني يتطلع إلى السلطة حيث سيشعر في نفسه القدرة على السيطرة عليها منفرداً.
وها هي تجارب الطغاة أو حكام المصادفات الذين قفزوا إلى السلطة أو جيء بهم إليها، في لحظة محددة، قد انتهت إلى كوارث وطنية أو عربية شاملة.
فحزب «البعث العربي الإشتراكي» الذي حكم أو حكم باسمه الطاغية صدام حسين في العراق، كان أكثر عصرية وأكثر انفتاحاً بمبادئه وشعاراته من «الإخوان المسلمين».
كذلك فإن حزب «البعث» الذي حكم باسم حافظ الأسد ثم بشار الأسد في سوريا كان أكثر انفتاحاً على العصر، في الظاهر، وأكثر قرباً بشعاراته من الجماهير من أحزاب الماضي السياسي في سوريا، دينية وسياسية.
بالمقابل فإن الحزب الإشتراكي الذي حكم لفترة جمهورية اليمن الديمقراطية، كان أكثر تقدماً في شعاراته، وبما لا يقاس من «الإخوان»، وهو قد استند إلى ماضيه المشرف في النضال ضد الاحتلال الأجنبي، حيث كان يرفع شعارات حركة القوميين العرب.
لقد دمرت تجارت السلطة واحتكارها المطلق هذه الأحزاب ذات التاريخ النضالي… فليس في الانتقام من الحاضر والمستقبل يكون التعويض عن ماضي الاضطهاد والحرمان والإقصاء عن السلطة.
و«الإخوان» مثلهم مثل كل الأحزاب القومية والتعددية، ولدوا بالشعار، وصلوا إلى السلطة قبل أن يتخففوا من أثقال مرحلة الإضطهاد… بل لعل الرغبة في تعويض ما فاتهم قد حكمت وما تزال تحكم سلوكهم، فجعلتهم يتعجلون احتكار السلطة، وتقديمها على أشلاء شعاراتهم وتعهداتهم لرفاقهم في المعارضة بأن يكونوا هنا معاً، كما كانوا في الميدان «متجاورين» وإن عز عليهم الاندماج مع الآخرين في التحرك، وقد جمعتهم المطالبة الموحدة بإسقاط الطغيان.
ها هي تتجدد تلك الحكاية – العبرة التي خلاصتها أن «روما من فوق غير روما من تحت».
هل تراها مفاجأة أن يحاول «الإخوان» الاستقلال بالسلطة والتخلي عن «الشركاء» الذين لم يكونوا في أي يوم شركاء فعلاً؟
من المفيد أن نسترجع بعض وقائع الميدان ومنها: أن «الإخوان» لم يندمجوا مرةً مع «الشركاء» في الميدان، بل هم ظلوا حريصين على تمييز أنفسهم حتى بات لهم «ميدانهم» المنفصل عن الميدان الأصلي دائماً، والمعارض له أحياناً.
كذلك فإن علاقة الإخوان بالمجلس العسكري الأعلى قد ظلت ملتبسة طوال الفترة الإنتقالية.. وتبدو في أحيان كثيرة في موقع الحليف مع العسكر، بل والمتواطئ معهم في محطات حاسمة، بينها التعديل الدستوري وتشكيل الحكومات وصولاً إلى انتخابات مجلس الشعب ومجلس الشورى وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية.
أما بعد أن تسلم «إخواني» منصب الرئاسة فقد تبدل المشهد كلياً. لم تصمد التعهدات التي قُطعت للمنافسين في معركة الرئاسة بأن يكونوا في موقع الشركاء.
ثم كان تعيين نائب الرئيس والمساعدين، ومن بعد تشكيل الحكومة، في تجاهل كامل لأولئك الشركاء – المنافسين..
وتبدت الرغبة في التفرد واضحة بحيث تحول «الشركاء» المحتملون إلى خصوم، لا بد من مواجهتهم في قلب الميدان. وكانت فرقة المعارضين وتباعدهم بعضهم عن البعض الآخر، بين الأسباب التي أغرت الإخوان باستبعاد «شركاء الماضي القريب» جميعاً، والمضي في طريق الإنفراد بالسلطة، خصوصاً وأن «السلفيين» قد وجدوا أنفسهم منحازين، بالإضطرار، إلى السلطة، ولو من موقع الشريك – المضارب: يفيدونها في مواجهة الخصوم المشتركين من أهل الناصرية واليسار والتوجهات الجديدة للشباب، من دون أن يرتقوا بهذه العلاقة إلى مستوى الشراكة الفعلية… ودائماً على قاعدة: عدو عدوي صديقي!
من الضروري الإشارة إلى أن بين ما أغرى حكم الإخوان بمواجهة المعارضة أن تنظيماتها القديمة والأحزاب ومعها التشكيلات الشبابية الجديدة قد بقيت متفرقة، منقسمة على نفسها، وأحياناً مشتبكة في ما بينها فكرياً وسياسياً، بحيث تعذر اتفاقها على برنامج سياسي موحد.
وأن حكم الإخوان – ولو كمشروع – قد تخلص بسهولة، من الجيش كشريك محتمل، فأقصى قياداته السياسية التي تولت الإشراف على نقل السلطة، مع فائق التكريم، وجاء يطمئن إلى ولائه في المرحلة الحاسمة، أي عند باب التفرد بالسلطة، حيث كان لا بد أن يقع الصدام مع الحاجز الشرعي الأخير: السلطة القضائية.
المعركة في الشارع، الآن، مع الأسف.
والكلمة قد تكون للشارع المهدد بأن يصير شوارع، فتذهب إلى الجيش، أو إلى المواجهات المدمرة للدولة.
فلم تنجح السلطة الإخوانية في إظهار حرصها على الحفاظ على الميدان الذي تلاقى فيه شعب مصر بكل أطيافه…
لقد تصرف الرئيس محمد مرسي، ومنذ اليوم الأول، وكأنه «قائد الأمة» ومرجعيتها المطلقة منفرداً.
وها قد عاد الناس إلى الشوارع، والشارع شوارع ودول كثيرة.
حمى الله مصر المحروسة.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية