اختفت أو أخفيت، وبقصد مقصود كلمة «العروبة» من الخطاب السياسي في مختلف أرجاء هذه المنطقة التي كان اسمها وسيبقى «الوطن العربي».
فجأة تبدت الانتفاضات أو الثورات أو الحراك الشعبي الذي زلزل هذه المنطقة من العالم فأسقط بعض أنظمة الطغاة وهدد بالسقوط من تبقى منهم، وكأنها بلا هوية جامعة، وسحبت من التداول كل الكلمات والإشارات والرموز التي تدل على الرابط بين الشعوب العربية.
وحدها جامعة الدول العربية حفظت بقصد مقصود لتستخدم ـ من بعد ـ في وظيفة معاكسة لطبيعتها، فإذا مهمتها الجديدة إحالة أي نظام متمرد الى «التأديب» أمام مجلس الأمن الدولي أو أقله الى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبما يؤكد ـ مرة أخرى ـ نفي الهوية العربية الجامعة بين الشعوب المنتفضة والمرجعية «القومية» المفترضة ممثلة بالمؤسسة العجوز التي طالما شكلت أرض اللقاء السياسي بين أنظمة مختلفة لدول يجمعها الرابط القومي، أي العربي.
على أن ذلك كله لم يمنع القادة والخبراء والكتاب والمعلقين وعلماء الدين وشيوخه المسيسين والمذيعين من استخدام تعبير «الربيع العربي» في أحاديثهم أو مقالاتهم أو خطبهم أو «فتاويهم غب الطلب»، لا سيما وقد جاء هذا التعبير على ألسنة القادة والزعماء في عواصم الغرب، بدءاً من واشنطن، وانتهاء في أستونيا المجهولة باقي الهوية.
وكانت مفارقة طريفة أن يخرج قرار إحالة انتفاضة ليبيا الى مجلس الأمن الدولي تمهيداً «لتكليف» الحلف الأطلسي بإسقاط نظام القذافي وقد غطى رأسه بكوفية بيضاء وعقال من غار كما الفضة.
ثم تبرعت نخبة من المفكرين والأكاديميين وخبراء الأجناس في النفي المطلق لرابطة العروبة بين هذه الشعوب المنتفضة على أنظمة الطغيان، لتؤكد بالمقابل على رابطتين متكاملتين: الإسلامية والكيانية.
الثورة في مصر مصرية بالمطلق، لا يربطها بالانتفاضة في تونس إلا التزامن والتشابه في بعض الشعارات الموجهة ضد الطغيان… أما إسقاط القذافي فأمر من اختصاص من يملك أسرار النفط وأسواقه، ولذلك تولاه الحلف الأطلسي بقرار أميركي.
أما في اليمن، فالانتفاضة يجب أن تستمر، ليس من أجل إسقاط الرئيس بل من أجل إسقاط الجمهورية التي تزعم انها حققت الوحدة، ولا بد من أن تعود اليمن مزقاً، بعضها إمامي، وبعضها الآخر سلطنات، وبعضها الثالث مشيخات، لها كياناتها القبلية المقتتلة الى يوم الدين.
وهناك فإن باستطاعة مجلس التعاون الخليجي أن يبذل مساعيه الحميدة من أجل التغيير السلمي، ثم ان ينتقل الى الشفاعة، وبعدها قد يرفع صوته بالتهديد مع وعود بإغراءات مجزية، فإذا ما تهددت حياة «الطاغية» المنادى بخلعه تولت الرياض الملكية علاجه وتأمين أفضل شروط النقاهة له وصولاً الى الطائرة الخاصة التي أعادته الى قصر الحكم في صنعاء راضياً مرضياً… ليستأنف مجلس التعاون مساعيه من أجل إقناعه بالتخلي عن السلطة.
ولأن سوريا طالما ادعت انها قلب العروبة النابض، واحتفظت براية دولة الوحدة راية وطنية لها، فلا بد من إسقاط هذه الراية والعودة الى العلم القديم، ولا بد من حذف كلمة «العربية» من الاسم الرسمي للدولة … ولا ضرورة لانتظار إسقاط النظام، بل يمكن الحذف فوراً، بالاستناد الى سابقة علي عبد الله صالح في حذف كلمة «العربية» من الاسم الرسمي لجمهورية اليمن.
أغلب الظن أن أصوات بعض القوى السياسية العائدة من الماضي سترتفع بعد حين في القاهرة مطالبة بحذف كلمة «العربية» من الاسم الرسمي لجمهورية مصر، ولعلها تتطرف فتطالب بإضافة «الإسلامية» أو قد تحرجها الصداقة المستجدة مع الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي فتكتفي بحذف الصفة الدالة على الهوية القومية، وان اندفع «المتطرفون» في أوساطها الى المطالبة بالعلم الأخضر يتوسطه الهلال وفي قلبه ثلاثة نجوم.
والأكيد انها ليست مصادفة أن تتزاحم الشعارات الإسلامية مع الشعارات الكيانية في مصادرة هذه الانتفاضات العربية التي تطمح الى إعادة الروح الى الشعوب في الدول التي كانت أنظمتها الدكتاتورية تغيبها وتفرض عليها هويات ليست لها، فهي مزورة أو مستعارة أو مبتدعة.
يحلو لبعض المنجمين في مجالات الفكر السياسي أن يذهبوا في «قراءاتهم» للأحوال السياسية السائدة هذه اللحظة في الوطن العربي الى حد الادعاء بسقوط «العروبة» أو حركة القومية (العربية) التي استولدتها الضرورة والطبيعة معاً مع سقوط الإمبراطورية العثمانية واجتياح الاستعمار الغربي هذه المنطقة.
بل ان بين هؤلاء من عاد الى كتبه العتيقة ومقولاتها التي تدين «القومية» و«تسفّه» «العروبة» وتعتبرها خروجاً على الدين الحنيف و«مؤامرة صليبية» على الإسلام.
لقد حاز الإسلام السياسي الآن رضا الغرب الأميركي بعدما برأ نفسه من شبهة التطرف وطوى إعلام «الجهاد» وتنصل من أسامة بن لادن وسائر «المنظمات الإرهابية» التي استهوتها أو أغوتها تجربة «القاعدة».
إنه «سلام عاقل» متحضر، يؤمن بالديموقراطية، ومستعد لأن يسلك طريق الانتخابات واثقاً من أنه سيفوز بالأكثرية ـ ولو النسبية ـ في أي من تلك الدول التي دمرت الدكتاتورية فيها الوطنية التي هي هي العروبة، بأحزابها ومنظماتها وهيئاتها جميعاً، وان استبقت في بعض الحالات الشعار والتسمية الدالة على العروبة للتمويه وخداع الجماهير.
عادت الى السطح اتهامات قديمة لـ«العروبة» بأنها «بدعة غربية» فبركها الاستعمار الغربي ـ البريطاني الفرنسي أساساً ـ لقتال الإسلام في الخلافة، وبالتالي فقد آن الأوان لعودة الأبناء الضالين الى رشدهم والى هويتهم الأصلية وقد استوثقوا الآن ان «الإسلام هو الحل».
ليس مهماً أن يأتي التبشير بالإسلام السياسي وفيه شيء من الرطانة الأميركية، فمن قبل، لطالما دمغت التنظيمات الإسلامية بالعمل في خدمة بريطانيا وسياستها الاستعمارية في المشرق.
لا يعني هذا إهمال الجانب الآخر من الصورة بالتغافل عما ألحقته الأنظمة التي رفعت ادعاء شعار العروبة من أذى حقيقي لحق بهذا الشعار والمؤمنين به. ويمكن هنا التذكير بأن العروبيين الحقيقيين، لأي من التنظيمات القومية انتموا (حزب البعث، حركة القوميين العرب، الناصريون بتشكيلاتهم المختلفة) هم طلائع ضحايا تلك الأنظمة الدكتاتورية التي موّهت نفسها بشعارات العروبة… بل ان الطغاة الذين حكموا تحت هذه الشعارات جعلوا همهم الأول القضاء على الحزب أو الحركة أو التنظيم الذي كان معبرهم الى السلطة ومصدر شرعيتهم.
ويكفي الرجوع الى مذكرات بعض قدامى البعثيين العراقيين، ممن كانوا رفاقاً لصدام حسين، أو في مواقع قيادية تعلوه رتبة، لتظهير دكتاتورية أولئك الحكام الذين رأوا في أنفسهم البلاد جميعاً، بشعبها ودولتها ومواردها جميعاً.
على هذا فلتسحب خطايا الطغاة وارتكابات نظام الحزب الواحد الذي سرعان ما صار نظام الفرد الواحد على «العروبة» ولتسفه القومية العربية ولتعتبر هي هي مصدر الدكتاتورية والطغيان بما يسهل رفع الشعار الجديد «الإسلام هو الحل» بوصفه الطريق الى المستقبل.
لكن للإسلام طبعات عديدة … فأي إسلام هو صاحب الحق الشرعي في سلطة الغد: الإخوان أم السلفيون أم الصوفيون؟ الإسلام السعودي أم الإسلام التركي أم إسلام حماس أم إسلام طالبان؟ وأين موقع الإسلام الإيراني من هذه الدعوة وهل يندرج ضمن المنظومة الإسلامية أم تخرجه شيعيته منها؟
في الماضي دفعت الحركة القومية العربية ثمناً باهظاً نتيجة مبالغتها في «التطهر» من الدين عموماً، ومن الإسلام خصوصاً، لتوكيد هويتها الجامعة لأبناء الأمة جميعاً بغض النظر عن تنوعهم الديني أو الطائفي.
ويبدو أن الإسلام السياسي معرّض لأن يباشر صدامه مع مكونات المجتمعات التي يتصدى لقيادتها فور تسلمه السلطة التي ستكشف أن لوثة أميركية قد أصابت شعاره الديني، مما يفقده «طهارة» التدين ويكشف أنه ليس أكثر من شبق للسلطة بأي ثمن وتحت أي شعار، وبغض النظر عن مدى عمق الإيمان بالدين الحنيف لدى الدول التي وفرت له سبيل الوصول وتعهدت بتأمينه حتى يتم إخراج البلاد من هويتها ومن موقعها الأصلي.
ينشر مع جريدة «الشروق» المصرية