يعيش «العرب» عامة، وفي مختلف أقطارهم المتقاربة على بعد، والمتباعدة على قرب، حالة من الاضطراب الشديد والقلق الأكيد على المستقبل، في ظل شعورهم بالخطر على «سرقة» انتفاضاتهم أو تشويهها أو حرفها عن مسارها في آمالهم، بحيث تنتهي إلى عكس ما يتمنون بل وما يطلبون مما يرونه حقوقهم.
وتبقى أنظار المواطنين العرب جميعاً مشدودة إلى مصر، وتحديداً إلى «الميدان» فيها والصراعات التي تدور فيه ومن حوله، والتي يرون ـ كما يرى إخوانهم المصريون- أنها ستحدد طبيعة النظام الجديد في مصر، والتي ستؤشر بالتالي إلى سياق الأحداث في سائر أنحاء الوطن العربي، وبالتالي إلى تحديد صورة المستقبل جميعاً، في المشرق والمغرب.
ذلك أن العرب يرون أن الهدف الأساس للانتفاضة الشعبية المجيدة في مصر هو إعادة بناء «الدولة» بما يتناسب مع مصالح شعبها وطموحاته، وبما يعيد إليها هويتها وجدارتها بدورها القيادي على مستوى الأمة جميعاً.
كذلك فقد اعتاد العرب، ومنذ بدايات عصر نهضتهم وخروجهم من دياجير الظلم والظلام، أن يتطلعوا إلى مصر التي سبقت إلى «الدولة»، والى «الدستور» والمؤسسات السياسية، مجلس النواب، مجلس الوزراء، الجيش، تعزيز مكانة القضاء، الاهتمام بالتعليم والثقافة والفنون الخ..
…وها هي مصر تسبق، مرة أخرى، الى الثورة على النظام الفاسد وعلى المؤسسات التي جعلها شكلية، وتسقط «الدستور» الذي حوله الى مجرد ستارة يمسح بها ارتكاباته ومخالفاته ويبرر بها تجاوزاته للحق والقانون والمؤسسات، مما اضعف الدولة وهددها في وجودها، بعدما تسبب في تهديد الوحدة الوطنية.
ولأن مصر طالما لعبت دور القاطرة في منطقتها، فقد عمدت أنظمة عربية عديدة إلى تقليد نظام الطغيان في مصر وهو يخرج على الثوابت الوطنية والقواعد الدستورية، فيدمر المؤسسات، ويرشو الجيش لإخراجه من دائرة التأثير في القرار الوطني، ويحول السلطة إلى دكتاتورية لا تخضع لأية محاسبة، خصوصاً أن الرقابة الشعبية معدومة، فالانتخابات مزورة دائماً والمجلس النيابي مجرد دائرة تصديق على قرار الحاكم وقرار الطاغية أقوى من الدستور.
الوجه الآخر لهذا كله أن يتزايد اعتماد النظام على قوة الإسناد الأجنبي، وأن تصبح «الدول»، بدءاً بالولايات المتحدة وصولاً إلى العدو الإسرائيلي مروراً بأغنياء المصادفات الجغرافية من أهل النفط، قادرة على التدخل في القرار الوطني، بل وعلى إملاء ما يناسب مصالحها.
…وكان الانفجار، ونزلت الملايين إلى «الميدان» في طلب التغيير بالثورة.
كانت الأكثرية المطلقة من شباب «الميدان» غير منظمة وليس لهم برنامج موحد، ولا خطة عمل، لهذا ارتبكت في التعامل مع «المجلس العسكري»، بعدما حاول النظام ان يفتدي نفسه برأسه. وكان أن صارت الكلمة للأعظم تنظيماً والأغنى والأقدر على الحركة مستنداً الى شبكة من العلاقات الدولية والعربية.
وبرز الإسلام السياسي عبر قواه المنظمة، «الإخوان» و«السلفيين» «كطرف» مقرر، إذ كانت له خطوطه المفتوحة مع الخارج الاميركي والعربي النفطي، وكذلك مع المجلس العسكري، ثم انه كان موجوداً وفعالاً في «الشارع».
هل من التجاوز القول إن «الإسلام» السياسي في هذه اللحظة وعلى المستوى العربي، ينقسم إلى مجموعتين: الأولى تتخذ من الإسلام التركي نموذجاً لها وتحاول الاقتداء بتجربته التي تراها ناجحة، والثانية تحاول أن تسترشد بالإسلام الإيراني الذي جعل من «الإمبراطورية الفارسية» العتيقة دولة ذات وزن مؤثر في السياسات الدولية.
بالمقابل فإن قضية العروبة قد تراجعت حتى كادت تضمحل، ورأى فيها الإسلاميون خاصة «بدعة»، بل ونسبوا إليها خطايا أنظمة الطغيان وأخطاءها جميعاً، واعتبروها قناعاً للدكتاتورية وحكم الفرد الواحد.
أما الوطنيات فقد تكشفت عن عصبيات طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية: أمازيغ مقابل العروبة في أقطار المغرب العربي، خصوصاً في الجزائر والمغرب وصولاً الى ليبيا حيث الشرق «سنوسي» وبعض الجنوب «تبو» وبعض الغرب «بربر»، أما مصر فالفرعونية تستولد النوبه والإسلامية تستحضر المسألة القبطية.
في ظل هذا المناخ كيف لا تزدهر إسرائيل وتستمتع بترف المنافسة بين يهودية علمانية وأخرى اشتراكية وثالثة يمينية متطرفة الخ؟
أما المشرق فيتجه نحو التفتيت: تتهاوى العروبة مثخنة بالجراح التي أصابتها نتيجة تستر الدكتاتوريات العسكرية بشعاراتها، التقليدية منها او تلك التي موهت نفسها بالاشتراكية… وترتد الجماهير التي خابت آمالها في ثالوث الوحدة والحرية والاشتراكية نحو التقوقع في عصبياتها المحلية التي سرعان ما تنزلق إلى الطائفية فإلى المذهبية… ودائماً هناك من يمول ويحمي هذا الانزلاق، عربياً ودولياً.
فأما الشعار الإسلامي فله «وكيلان» حصريان، وثالث مضارب، في هذه المنطقة الممتدة ما بين مضيق جبل طارق غرباً وضمنها قلب أفريقيا ومضيق البوسفور في بلاد الأناضول: الأول إيراني جاء مع ثورة الإمام الخميني الإسلامية مطلع العام 1979، والثاني تركي وصل إلى السلطة بالانتخاب بعد اضطهاد طويل أعقبته «تسوية» مع الخارج الأميركي، واستقر فيها منذ العام 2002… ويبقى الثالث الذي يتلفع بعباءة الوهابية السلفية في السعودية ويتجنب الاصطدام بمن نجح في الاقتراب من السلطة من الإسلاميين، بل كثيراً ما يحاول أن يشتري صمته إذا ما عزّ شراء ولائه.
صار الإسلام السياسي طبعات منقحة ومزيدة، لكل فرقة «إسلامها». صار أهل السنة إخوانا وسلفيين متشددين أو أقل تشدداً، إضافة إلى عامة المؤمنين الذين لم يتحزبوا سياسياً بل ظلوا على إيمانهم «البسيط» الذي يخافون عليه من التحزب السياسي.
ونتيجة لاحتدام الصراع على تركة العروبة كان لا بد من المواجهة بين الإسلام الإيراني (الشيعي) وبين الإسلام التركي (السني) المتحدر من صلب حركة «الإخوان المسلمين» التي باتت عالمية، والتي تحاول عقد هدنة مع السلفية أو بعض الأنظمة العربية الغنية التي ترتكز في تشريع هيمنتها على ما أقره «الخلف الصالح».
اختفت الهوية العربية التي كانت الأنظمة العسكرية الدكتاتورية قد استنزفتها وهي تتلطى بشعاراتها لتموه حقيقة تفرد قادتها الأفذاذ بالحكم.
ولأن «الوطنيات» هي أنماط من «الكيانية» التي تموه الانتماء الديني أو الطائفي أو المذهبي، فقد تشققت الحركة الشعبية التي كانت لها هوياتها السياسية المتقدمة.
وهكذا انحصر الصراع بين «إسلاميات» صاعدة قد تختلف في ما بينها، ولكنها تتوحد في مواجهة «الوطنيات» عموماً و«العروبة» ومعها أحزاب اليسار خصوصاً، وأنها باتت هي المعبّر الفعلي عن الوطنية التي هي هي العروبة.
هل هي مصادفة أن تقع زيارة مفتي الديار المصرية إلى الكيان الإسرائيلي، بذريعة الصلاة في المسجد الأقصى، في هذه اللحظة السياسية تحديداً؟
أليس لافتاً أن مثل هذه الزيارة التي لم يتأخر الأزهر الشريف في شجبها قد وقعت في هذا التوقيت بالذات… وهل بعد تسع سنوات من تولي المفتي منصبه انه انتبه إلى أن الصلاة في المسجد الأقصى فعل من أفعال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي؟ وماذا يهم أن «يشجب» الإسلاميون، «إخواناً» و«سلفيين»، هذه الزيارة المشبوهة، طالما أن المفتي جمعه بقي مفتياً للديار المصرية.. أقله حتى يتحول التصويت في مجلس الشعب ذي الأكثرية «الإسلامية» بخلعه الى قرار نافذ؟
ثم إلى أي حد يمكن اعتبار هذه الزيارة (إضافة إلى العديد من التصرفات والتصريحات الصادرة عن قادة إسلاميين) مؤشراً على الموقف الفعلي لهذه التيارات التي تقدم الإسلام السياسي الجديد في صورة المتساهل مع العدو المتشدد مع العروبة واليسار والوطنية.
أوليس هذا هو الوجه الآخر لـ«قبطية» متساهلة مع العــدو متشددة مع الشريك الوطني (حتى لا ننسى ذلك الزحف الذي قامــت به مجموعات من الأقباط إلى الديار المقدسة، فلسطين، بعد أيام من رحيل البابا شنوده الذي كان قد حرم مثل هذه الزيارة لاعتبارات وطنية ومن ثم دينية تؤكد صلابة موقفه الوطني وبالتالي العربي من العدو الإسرائيلي؟).
هذا عن مصر وميدانها والمخاطر التي تتهدد مستقبل النظام فيها. أما المشرق فيتوزع أبناؤه بين طوائفهم وعليها مما يشيع مناخاً يمهد لحروب أهلية مفتوحة بين أتباع الدين الواحد، بينما تبحث الأقليات عن «هويات» بديلة في بلاد بعيدة.
…ويظل الأمل معلقاً بمصر، لعراقة الدولة فيها، وتماسك المجتمع ولسبقها الى الأخذ بالدستور وبناء المؤسسات.
وقبل مصر كانت العروبة دعوة رومانسية يُعبر عنها بالشعر أو بالمناظرات الفكرية المؤكدة لعمق انتماء الأمة إلى ذاتها.
أما مع مصر فقد باتت العروبة دعوة إلى حماية المستقبل بالدولة القوية التي تقوم على دعائم صلبة، أخطرها إيمان الناس بها باعتبارها الطريق الى غدهم الأفضل.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية