قبل ثلاثة أسابيع رحبت بلقاء مع القيادي الإخواني المعروف الدكتور عصام العريان، وكان في بيروت للمشاركة في اجتماع للمؤتمر القومي الإسلامي الذي يضم «الإخوان» في ما يضم من قوى سياسية عربية.
كنت آمل أن أسمع من هذا القيادي صاحب التجربة السياسية العريضة كلاماً جديداً، بوصفه الآن واحداً من أركان التنظيم المتصدي لقيادة مصر، خصوصاً أن الدكتور العريان كان يقدم نفسه على انه محاور منفتح الفكر على الآراء الأخرى، ويقدم تنظيم «الإخوان»- قبل ثورة الميدان ثم خلالها خاصة – على انه قد أفاد من تجربته الطويلة والحافلة بالدروس، وأنه الآن «يقبل بالآخر» ولا يرى نفسه صاحب الحق الشرعي المطلق في الدنيا والآخرة.
وللحقيقة فقد وجدت نفسي عاجزاً عن محاورة هذا القيادي العريق في تنظيمه، الذي عاش حياة سياسية حافلة تمتد من العلاقة مع الرئيس الأسبق أنور السادات بكل ما حفلت به في ذلك العهد الميمون، وقد كان فيها لـ«الإخوان» دور ملتبس، الى أيام حسني مبارك بكل ما رافقها من تواطؤ وتخل وارتداد لم يصل إلى حد المخاصمة.
كان الدكتور العريان يتحدث، ولا يسمع أسئلتي، حتى لقد استنتجت انه يريد أن يبلغني موقف تنظيمه ورؤيته لحكم مصر في مستقبلها، لا أن يحاورني في ما نختلف، فكرياًَ، فيه وعليه… وكان خوفي، على مصر، بعد اللقاء، عظيماً.
ثم توالت التطورات السياسية في مصر وصولاً الى الإعلان عن «إنجاز» مسودة الدستور، في ظل الملابسات التي رافقت إعداده، ثم تعديله، في اللحظة الأخيرة، وصولاً إلى الاستفتاء عليه في ما يشبه «الحرب» التي حشد لها «الإخوان» وخاضوها وكأنها المعركة الأخيرة قبل إعلان النصر التاريخي على «الكفار» من أعداء الإسلام والمسلمين.
هل من التسرع الإعلان عن سقوط تاريخي لـ«الإخوان المسلمين» كقوة سياسية مؤهلة لقيادة الأمة، بأسرع مما كان متوقعاً، حتى لو تمكنوا من البقاء على رأس السلطة في هذا البلد العربي أو ذاك.. (حتى لا ننسى تونس، مثلا)..
يمكن القول إنهم قد وصلوا إلى سدة السلطة بأسرع مما كانوا يتوقعون، وبكلفة أقل مما كانوا يقدرون، نتيجة التباسات عديدة أبرزها الانهيار المباغت لأنظمة الطغيان، في أكثر من دولة عربية، وافتقاد البديل، ثم قدرتهم التنظيمية على توكيد حضورهم، بينما سائر القوى المعارضة كانت مشتتة تفتقد وحدتها خلف القيادة المؤهلة لأن تتقدم الصفوف وتقرر خطة التحرك.
ثم أن «الإخوان» قد كشفوا، وبأسرع مما كان مقدراً، عن نزعة متأصلة فيهم للهيمنة على السلطة بغير شريك، فخادعوا من يرغبون في تحييده، ولو إلى حين، كالجيش، وتواطأوا مع بعض القوى السياسية ضد من كانوا يرون فيهم الأهلية للقيادة، وتبنوا خطاباً ملتبساً يوحي لخصومهم بأنهم قد تغيروا وخرجوا من صورتهم التقليدية المتزمتة إلى أفق الحوار والتسليم بمبدأ الديموقراطية مع الشركاء في الوطن، حتى لو كانوا من غير المسلمين.
إن للإخوان تاريخاً حافلاً بالمخاصمات والمهادنات والتواطؤ والانقلاب على الحلفاء إذا ما استشعروا أن لديهم فرصة للتفرد… وهم في هذا لا يختلفون عن سائر الأحزاب السياسية، في المشرق العربي خاصة، التي كثيراً ما تواطأت مع العسكر للقفز إلى السلطة، ثم انقلبت، فور وصولها على حلفاء الساعة الأخيرة، وتفردت بالسلطة بعدما اشترت ولاء القيادات العسكرية بالمناصب والإغراءات وأحكام الإعدام، ميدانياً.
لم يستفد «الإخوان» من تجربة الأحزاب العقائدية التي اتخذت من العسكر سلماً إلى السلطة، ثم تخلص «القائد الفرد» من قيادات العسكر، قبل أن يتفرغ لتصفية القيادات التاريخية للحزب تمهيداً للتفرد بالسلطة، بانياً نظاماً قمعياً لا مجال فيه للمعارضة أو الاعتراض، أو للشراكة مع «الرفاق القدامى».
لقد دمرت أنظمة الفرد الواحد أو الحزب الواحد، الذي غالباً ما اختصره «القائد الفذ»، الدول التي حكمتها، وها هي تلك الأنظمة يتوالى سقوطها بعدما دمرت المجتمعات التي تحكمت فيها. لقد رفعت شعارات الحرية وهي تمارس الاستبداد، وتحدثت عن الاشتراكية ومجتمعات الكفاية والعدل بينما أركانها والأقارب والأنسباء يتوزعون الثروة ويحتكرون وسائل الإنتاج وصولاً الى… مناطق السوق الحرة.
.. وعبر معركة إعداد الدستور الانتقالي في مصر، تصرف «الإخوان المسلمون» بما لا يخرج عن سلوك أي «حزب قائد» في تجارب سابقة في بلدان عربية أخرى: جاءوا بأكثرية ساحقة من جماعتهم، إخواناً وسلفيين ومناصرين، وأقلية من «خصومهم» من أصحاب الأسماء المحترمة… ثم اندفعوا ينسخون من برامجهم ما يمكنهم من الاستقلال بالحكم منفردين، فلما وُوجهوا باعتراض تلك النخبة أحرجوها حتى أخرجوها وتفردوا بالصياغة وهرّبوا النص الأخير في ليل. ولتنفيس الاحتقان تم تفويض الرئيس بإجراء بعض التعديلات، ثم تم دفع الدستور إلى الاستفتاء الشعبي,
وكالعادة، مشى «الناخبون» إلى صناديق الاقتراع أو الاستفتاء، لا فرق، آتين من البعيد: فهم لم يعرفوا معنى الانتخابات بعد، أما الاستفتاء فقد اعتادوا أن يكون حول «انتخاب الرئيس» بالتزكية، وكيف السبيل إلى الهرب منه ولا مرشح إلا هو، و«الدولة»، بأجهزتها جميعاً، العلنية باللباس الميري، او السرية باللباس المدني، بما في ذلك الجلابية، تراقب وتحصي الأنفاس وتحصي «المعارضين» إن وُجدوا فتصحح لهم «أوراقهم» حتى لا يتبدوا وكأنهم خارجون على «الدولة» فيخسروا الدين والدنيا..
لقد حرمتهم أنظمة الحكم الفردي أن يكونوا «مواطنين» في بلادهم. كل رئيس ـ ملك سلًمهم الى رئيس ـ ملك آخر. وهكذا فإن الاستفتاء لم يكن في أي يوم فرصة للتعبير عن رأيهم. كان مجرد مناسبة لكشف المختلف والمعارض أو حتى المتردد، لوضعه على القائمة السوداء. وما الفرق بين «الدستور» و«الرئيس» طالما أن النتيجة معروفة سلفاً، وإن تأخر إعلانها لتحديد نسبة التأييد اللائقة بكرامة المُستفتى عليه؟
وفي بلاد تبلغ الأمية فيها نسبة مفزعة، ويتوزع سكانها ـ خارج المدن الكبرى – على أرياف فقيرة ومناطق صحراوية نائية، يخاف أهلها السلطة، كيف لهؤلاء الرعايا الذين لم يعرفوا العمل السياسي، بل كانوا ينأون بأنفسهم علن العقائد والأحزاب لأنها قد تعرضهم للمساءلة أو الاعتقال، أن يعرفوا معنى الدستور، ثم أن يقرروا هل يقبلونه أم يعترضون عليه جملة، أو عبر التوقف أمام تفاصيله المعقدة ونصوصه التي تحتاج إلى «ترجمة» لكي يفهموا ما تعنيه متصلاً بحقوقهم؟!
لقد حُرم «الأهالي» من نعمة أن يكونوا «شعباً». كانوا في الغالب الأعم، رعايا… وبالتالي فهم لم يكونوا أبداً «مواطنين». كل رئيس ـ ملك سلمهم إلى رئيس ـ ملك آخر. وها هو «الرئيس « الذي وصل إلى السدة بفضل «الميدان» الذي احتوى آمال الشعب وطموحاته وأكد قدرته على التغيير، يحاول تثبيت شرعية نظامه الذي يتخذ أكثر فأكثر صورة اقرب إلى «تنظيمه» عبر استفتاء على دستور ما يزال الفقهاء يتجادلون حول صوابية نصوصه وعدالتها وانسجامها مع روح العصر، فكيف لأبناء القرى والدساكر والنجوع وعواصم الأرياف وقبائل الصعيد والصحراء الغربية وسيناء أن يقرروا مواقع الصح والغلط في هذا الدستور… بل، قبل ذلك، ماذا يعني الدستور تماماً، وهل هو الاسم الحركي للرئيس الجديد، طالما أن كل الاستفتاءات السابقة كانت حول شخص الرئيس؟
ثم إن الاستفتاء يمكن أن يتم من دون مقترعين.. فليست الأعداد مهمة، لأن النتائج معروفة مسبقاً.
وجيد أن تخوض المعارضة، بأطيافها المختلفة، معركة الاستفتاء على الدستور من أجل توكيد النقص في شرعية إقراره، لأن الدستور لا يتحمل معارضة واسعة، فهو لا يتعلق بشخص، أو بحزب، أو بتشريع مؤقت، حتى لو قيل في تبرير التعجل في «سلقه» إنه تدبير احترازي حتى لا يحكم الرئيس منفرداً بعدما حصر السلطات جميعاً في يده، وجعل من نفسه «الحاكم بأمر الله»، إذ عطل المحكمة الدستورية، وخلع «النائب العام» ثم عين نائباً عاماً جديداً، فلمّا حاول تقديم استقالته حاوره حتى تراجع عن الاستقالة فبقي في منصبه يطارده الطعن في شرعية تعيينه، ثم في شرعية استمراره في المنصب بعد الاستقالة التي رفضتها الرغبة في احتكار السلطة.
إن ما وقع في مصر من جدل حول الدستور، خلال إعداده في ظروف غير طبيعية، لا يليق بتاريخ مصر العلمي وسبْقها إلى كتابة الدساتير التي كانت بين محركات قواها الوطنية وبين اخطر أسلحتها في مواجهة دكتاتورية الحكم الملكي.
إن المعركة المفتعلة حول الدستور، في توقيتها كما في موضوعها، تسيء الى صورة مصر ـ الانتفاضة، وتضيع الكثير من الدلالات المشرفة التي عبر عنها ميدان «ثورة 25 يناير»، والتي نشرت جواً من التفاؤل والأمل بالتغيير في مختلف أرجاء الوطن العربي.
وإذا كان العرب خارج مصر، قد قدروا لقواها السياسية أنها سلمت بشرعية رئيس إخواني وصل إلى سدة السلطة بأصوات الناخبين، بغض النظر عن أعدادهم، كخطوة واسعة للخروج من أسار نظام الطغيان الذي كان قائماً، فإنهم اليوم أكثر خوفاً على مصير الثورة داخل مصر، ثم حول انعكاساتها على أوضاعهم المتردية في سائر أقطارهم، مشرقاً ومغرباً.
…لا سيما و«الإخوان» لا يتعبون من التأكيد على علاقتهم الخاصة مع الإدارة الاميركية… وقد زفوا للأمة البشرى: فلقد حددت واشنطن موعداً رسمياًُ لأول زيارة سيقوم بها الرئيس مرسي إليها واللقاء مع الرئيس الاميركي باراك اوباما.
إن موجة من الحزن تسود في أرجاء الوطن العربي، نتيجة الخوف على ثورة الميدان التي كتبت الصفحة الأولى في التاريخ العربي الحديث.
حمى الله مصر وشعبها صانع الثورة.
تنشر مع جريدة «الشروق» المصرية