أين الربيع العربي في الدول التي انتصرت ميادينها بإسقاط أنظمة الطغيان؟ هل يكفي الشعار الإسلامي وحده للادّعاء بأن حَمَلَتهُ قد أنجزوا «الثورة» وأن وصولهم إلى السلطة هو «انتصار لإرادة الشعب» وكفى به إنجازاً تاريخياً يعيد الاعتبار إلى الدين الحنيف كبرنامج للحكم؟
يسود المنطقة العربية، مشرقاً ومغربا، مناخ حروب أهلية مفتوحة ضد الذات، بمكوناتها الأصلية والتفرعات، يلعب فيها «الإسلام السياسي» دوراً قيادياً بكل المسؤوليات المترتبة عليه.
من اليمن إلى أقطار المغرب العربي يتهدد التصدع وحدة المجتمعات في كل من تلك الأقطار، وقد كانت بين المسلمات، نتيجة انهيارات متتابعة في «الدول» التي كانت تتبدى وكأنها ضمانة الوحدة الداخلية والهوية القومية.
قد يطول الجدل حول مسؤولية «النظام» أو «الأجنبي»، سواء تمثل بالمحتل القديم أو بالمهيمن الأميركي الجديد، بعنوان إسرائيل، عن النتائج الكارثية التي تعيشها اليوم «الدول» التي كانت مضرب المثل في وحدتها الوطنية الصلبة، كمصر، أو التي انتهت إليها «دول» أخرى نتيجة ديكتاتورية النظام الحاكم فيها كليبيا، أو نتيجة تورط «النظام» في حروب خارجية استهلكت مقدرات البلاد وخلخلت مرتكزات الوحدة الداخلية، كما في العراق (الحرب الطويلة ضد إيران ثم غزو الكويت)، أو نتيجة اندفاع النظام السوري إلى استخدام العنف في مواجهة تظاهرات الاحتجاج السلمي وقبل دخول العالم كله إلى مسرح هذه «الحرب».
لكن النتيجة المؤكدة أن العديد من الأنظمة التي كانت قائمة قد تسبب في خلخلة مرتكزات الكيان وفرض إعادة النظر في شرعية وجود الدولة أو ـ أقله – في قدراتها على الاستمرار على قيد الحياة.
ولقد يكون مفجعاً أن يتهاوى «الربيع العربي» الذي رأى فيه كثيرون نقطة تحول للخروج من عصر الطغيان إلى الديموقراطية والحرية والوحدة، وأن يصبح مصدراً للقلق على حاضر هذه المنطقة العربية بمجملها، مشرقاً ومغرباً، وأن يتسبب في توظيف الشعار الديني في مواجهة الشعوب إلى حقوقها في «الحكم الرشيد».
الواضح، حتى هذه اللحظة أن «الربيع العربي»، وبغض النظر عن مصدر هذه التسمية التي جاءت من الخارج قطعاً، يتبدى يوماً بعد يوم وكأنه الاسم الحركي للحرب الأهلية العربية أكثر منه الوعد بغد عربي أفضل في ظلال الديموقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية وتوكيد الهوية الوطنية… ولعل التسمية تساهم في التخفيف من رفع الشعار الإسلامي راية للنظام الجديد.
صحيح أن أنظمة القمع التي كانت قائمة لم تكن تعبر عن إرادة مواطنيها، بل لعلها كانت تزوّر هذه الإرادة وتقزم البلاد التي حكمتها وتلغي دورها الوطني والقومي، لكن البديل قدم نفسه وكأنه امتداد لها.
وكلنا يتذكر الدور الريادي لمصر منذ منتصف الخمسينيات وحتى خريف سنة 1970، حتى بعد السقوط في قاع هزيمة 1967، التي لم تمنع قيادتها من مواصلة جهودها لتوحيد الجهود العربية في مواجهة العدو الإسرائيلي، وآخرها قمة القاهرة عشية وفاة عبد الناصر لوقف «الحرب» بين النظام الأردني وحركة المقاومة الفلسطينية.
اليوم لا مجال للتخيل بإمكان «توحيد الصف العربي» الذي صار صفوفاً متواجهة.
بل إن دولاً عربية غنية وذات نفوذ لا تنكر مشاركتها في تغذية الحروب الأهلية في دول عربية أخرى، بالسلاح والمال، وبتسهيل وصول «طلاب الشهادة» تحت الشعار الإسلامي إلى «ميادين الجهاد» المختلفة في مشارق الأرض العربية ومغاربها… وكذلك بالنسبة لتأمين السلاح والمال و«الاعتراف» الدولي.
وعبر هذا التحول الدراماتيكي في المواقف تفجرت «حرب الإخوة»، وكانت الجامعة العربية أول الضحايا وأخطرها، إذ تحولت الجامعة إلى منصة لتشهير الأنظمة العربية بعضها بالبعض الآخر، والى «خندق قتالي» ومجرد معبر لشكاوى أنظمة ضد أخرى إلى مجلس الأمن الدولي.
وبديهي أن تحل هيئات دولية، تم استيلادها على عجل، محل جامعة الدول العربية أو فوقها، كمثل «أصدقاء سوريا».. بعد أن فرض على الجامعة أن «تطرد» دولة مؤسسة لقيامها، وأن تعطي مقعدها في قمة الدوحة لتنظيمات معارضة تحاول عبثاً أن تتوحد وأن تكون لها قيادة مشتركة و«صندوق واحد» للأموال التي تبعثر على الهيئات والجبهات والائتلاف المختلفة، سياسية وعسكرية، أكثريتها الساحقة تقيم في المهاجر الأوروبية، وتجول بين العواصم طالبة الدعم والتأييد للشعب المقتول في الداخل.
ولأن المصالح متناقضة إلى حد التضارب فقد تمددت التنظيمات رافعة الشعار الإسلامي بين إخوانية وسلفية وجهادية، في حين كاد يضمحل وجودها في «الداخل» الذي تحول إلى جبهات عسكرية مقتتلة تدمر حروبها الماضي بتراثه الحضاري الغني والمميز، كما تدمر بالنار والدم حاضر سوريا وتهدد مستقبلها بالضياع وهويتها بالاندثار، وتلك خسارة قومية فادحة.
وها نحن نشهد «حروباً» فعلية على السلطة أخطرها في ليبيا التي يتهاوى كيانها السياسي ويكاد «ثوارها» متعددو المنابت والميول، وإن غلب على معظمهم التوجه الإسلامي، يعجزون عن تشكيل حكومة جامعة للأطراف جميعاً وقادرة على حفظ وحدة هذه البلاد هائلة المساحة والثروة قليلة السكان بدولة لجميع مواطنيها، الذين لا تخفي أكثريتهم حنينها للعودة إلى نظام الولايات بدلاً من الدولة المركزية.
كذلك فإننا نشهد صراعاً مفتوحاً بين الإسلاميين فيها، إخواناً وسلفيين، يدفع البلاد نحو أتون الحرب الأهلية تحت شعارات الصراع على السلطة وموقع الإسلام فيها.
أما في مصر، فإن وصول «الإخوان المسلمين» إلى سدة الحكم لم ينه الصراع على السلطة بينهم وبين السلفيين، فضلاً عن الصراع الطبيعي بينهم وبين الأحزاب والقوى الديموقراطية، بل وبين الأكثرية الساحقة من المصريين المعروفين بتقواهم وتدينهم العميق وإن كانوا لا يرون في الإسلام حزباً يصارع من اجل الوصول إلى السلطة بأي ثمن… حتى لو كلفه ذلك إضفاء مسحة أميركية على شعاره الديني، من اجل قبوله دولياً، والمبادرة إلى مساعدته اقتصادياً عبر «صندوق النقد الدولي» أو البنك الدولي، وكلاهما له سياسته المحددة التي لا تتوقف كثيراً أمام تدين المسؤولين في هذا النظام أو ذاك، بل تحكم على توجهاتهم السياسية وخططهم السياسية وخططهم الاقتصادية… ومفهوم أن أمان إسرائيل واطمئنانها إلى سوية العلاقة مع الحكم الجديد بين «المعايير» التي تحكم قرار هذه المؤسسات الدولية، من ليبيا إلى تونس إلى مصر.. ولعل هذه التنازلات الجسيمة قد كشفت هؤلاء الحكام من الإسلاميين أمام شعوبهم، بمن في ذلك الجمهور الذي كان يفترض ضمناً أنهم ربما يملكون ما يساعد على إخراج البلاد من أزماتها الخطيرة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً… فلم يظهر أن لديهم خطة واضحة للحكم أعدت بعناية وبدقة مفيدة من تجاربهم الحافلة.
الأخطر أنهم تصرفوا وكأنهم يريدون السلطة، بأي ثمن، ولوحدهم، إذا أمكنهم، وبشراكة رمزية مع قوى أخرى «حليفة» وشريكة في الشعار الإسلامي، إذا ما اضطروا إليها ولو مؤقتاً. ثم إنهم اعتمدوا، والى حد كبير، سياسات نظام الطغيان الذي أسقطه «الميدان» ذاتها، في السياسة وفي الاقتصاد، بل وقد انعطفوا للتصرف مع مناصريه والمفيدين منه وكأنهم «احتياطي دعم» لحكمهم… لا سيما وقد فعلوا كل ما يمكنهم من اجل التخفيف من فداحة الارتكابات التي يحاكم عليها رموز النظام السابق.
أين الربيع العربي في هذه الدول التي انتصرت ميادينها بإسقاط أنظمة الطغيان؟ وهل يكفي الشعار الإسلامي وحده للادّعاء بأن حَملته قد أنجزوا «الثورة»، وأن وصولهم إلى السلطة هو «انتصار لإرادة الشعب»، وكفى به إنجازاً تاريخياً يعيد الاعتبار إلى الدين الحنيف كبرنامج للحكم؟
ثم إن هذه الدول تحديداً تعيش أوضاعاً مضطربة تستولد شعوراً بالخيبة والخذلان عند الجماهير التي اندفعت إلى «الميدان»، تحركها إرادة التغيير والتطلع إلى مستقبل أفضل… ولم يكن إيمانها بالدين الحنيف ناقصاً، ولا هي كانت تطلب مزيداً من المبشرين والدعاة والملتحين بجلابياتهم الطويلة أو القصيرة، لا فرق.
إن صورة «الربيع العربي» عبر الأنظمة التي تدّعي الانتساب إليه، أو عبر الدول الغربية بالقيادة الأميركية الداعمة لهذه الأنظمة والتي نجحت في احتوائها من دون مجهود يذكر، تبدو مشوشة ومشوهة، وهي لا توحي بالربيع مطلقاً، بل لعلها تقدم صورة مجسمة لفشل الإسلام السياسي في تقديم نموذج معاصر للحكم، عبر تخطي أحقاده ومرارات تجاربه السياسية… بل إن منهج من وصل إلى سدة السلطة منهم يقوم على التبشير بين مؤمنين بالدين الحنيف، وكأن المسلمين لم يهتدوا إليه من قبل في انتظار وصول هؤلاء الدعاة بجلابياتهم القصيرة ولحاهم الطويلة ونهجهم التكفيري لكل من خالفهم الرأي، بل كذلك لكل من طالبهم بإثبات تميزهم عن أنظمة الطغيان التي أسقطها «الميدان» خلال السنتين الماضيتين، فضلاً عمن قد يطالبهم بالمشاركة في السلطة التي لم يصلوا إليها بالبيعة بل بالحد الأدنى من أصوات الناخبين.
ما زال الربيع العربي بعيداً جداً. والخوف أن تحوله الممارسات الخاطئة المعززة بالتعصب الحزبي مجللاً بالشعار الديني، إلى خريف بائس…
وأخطر ما في هذه التجربة التوغل في مواجهة الإرادة الشعبية إلى حد استخدام العنف وإسالة دماء الكثرة المعارضة، بما يعيد الاعتبار إلى نظام الطغيان فيظهره وكأنه قد أساء الأمانة وتعسف في الحكم ولكنه لم يوغل في دماء شعبه ولا هو تسبب في ضرب الوحدة الوطنية بالفتنة.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية