تعامل أهل النظام العربي مع الغارة التي شنها طيران العدو الإسرائيلي، على ما قيل إنه مصنع للسلاح في بعض ضواحي الخرطوم، وكأنها «مجرد حادث امني».
وفي ما عدا مصر، لم تصدر أية بيانات رسمية عن الحكومات العربية في مختلف الدول ما بين المحيط والخليج، ولم يطل على الشاشات مسؤولون كبار «يحذرون» إسرائيل من «مغبة سلوكها الذي يؤكد سياساتها التوسعية واعتمادها الإرهاب وسيلة»… كأنما ذلك السلوك وتلك السياسات سرية ترسم في ليل، ولا «تفصح» عنها إسرائيل بالهدم اليومي لبيوت الفلسطينيين في مختلف أنحاء الضفة وبالقتل اليومي لأطفالهم وليس فقط لرجالهم، فضلاً عن محاصرة المسجد الأقصى بمستعمرات جديدة لوحوش المستوطنين، وعن القصف شبه اليومي لأبناء فلسطين في غزة.
بل إن الفضائيات العربية، وما أكثرها، والصحف العربية على اختلاف توجهاتها، قد اكتفت بإيراد «الخبر»، كما أوردته وكالات الأنباء الدولية، ثم انصرفت الى سائر الشؤون الخطيرة كمثل أزمة المواصلات في الفضاء أو ظهور الأمير البريطاني عارياً، أو تلك القفزة الخرافية من مركبة فضائية، أو آخر أغنية لمطربة بجسدها، أو لمطرب حظي بمنادمة الأمراء.
لم تدع جامعة الدول العربية الى اجتماع طارئ لمجلس وزراء الخارجية العرب لتدارس تقديم شكوى إلى مجلس الأمن، مثلاً… ولم يتكرم رئيس أو ملك أو أمير، أو حتى شيخ، باتصال مجاملة مع المسؤولين السودانيين، بمعزل عن موقفه السياسي من النظام في الخرطوم.
سقط التضامن العربي، المتهالك اصلاً، بالضربة الإسرائيلية القاضية.
وانكشف دعاة «الربيع العربي» والذين قفزوا باسمه، وعبر التحايل على جماهير الميدان، إلى السلطة، فإذا رموزه من المسؤولين الجدد يزاحمون رموز عهود الطغيان على «صداقة الإدارة الاميركية» ويستقبلون موفديها، سياسيين وعسكريين وقادة أجهزة أمنية، باحترام مبالغ فيه، تمهيداً لأن يطلبوا مساعدات مباشرة او قروضاًَ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومفاتيح كليهما في واشنطن.
لقد أرادت إسرائيل ونجحت في التأكيد على ان «الربيع العربي» أسطورة، وأن تسميته التي نقشت بالإنكليزية وأخذناها مترجمة حتى لا يلفظ العرب كلمة «ثورة» بدلالاتها الشاملة التي تتجاوز ما تحقق حتى اليوم، فعلياً، وهو أقل من المأمول، بل ومن الممكن.
إنها غارة على مصر- الثورة المرتجاة، أولاً، وعلى سائر الانتفاضات الشعبية التي أسقطت النظم الدكتاتورية القديمة ولكنها قصرت عن تحقيق مطالبها لأنها لم تكن تملك مشروعاً سياسياً، وطنياً وقومياً، يحقق مطامح شعوبها… فضلاً عن أنها بالتوجهات ثم بالممارسات التي اعتمدتها حتى تاريخه، قد طمأنت العدو الى أنها في شاغل عنه، وأنها غارقة في العمل لإنجاز مشروع تنظيماتها الإسلامية للهيمنة، على البلاد والعباد، وغير معنية بالعدو الإسرائيلي ومخططاته لحاضر المنطقة ومستقبلها.
… هل من الضروري التذكير أن النظام العسكري في السودان يرفع – هو الآخر – الشعار الإسلامي ويستظله للهيمنة على الحكم باسم الشريعة؟!
وهل من الضروري التذكير ان السودان لم يكن هدفاً صعباً في أي يوم. فالحكم العسكري مشغول بتوطيد سلطته وتأمين استمرارها أكثر من انشغاله بوحدة البلاد وأمنها واستقرارها والنهوض باقتصادها بما يحفظ كرامة مواطنيه؟!
لقد ضيع هذا الحكم العسكري المصفح بالشعار الإسلامي السودان جميعاً، دولة وشعباً موحداً وقدرات اقتصادية، أخطرها الزراعة في قارته الشاسعة ثم المعادن والنفط.
بل لقد ثبت، من خلال تجربة السودان، أن الحكم الإسلامي المصفح بالعسكر «مؤهل» لأن يضيع وحدة البلاد بدلاً من أن يحصنها… وها هي «دولة الانفصال» في الجنوب تؤكد المؤكد، فقد صار لإسرائيل ومعها النفوذ الاميركي قاعدة إضافية في قلب أفريقيا تهدد المستقبل العربي جميعاً، ومصر على وجه التحديد، مع خطر التحكم بمياه نهر النيل ومحاولة استخدامه كأداة ضغط فعالة قد تغرق دول حوضه في حروب لا تنتهي، لأنها تستهدف شعوبها في أهم أسباب حياتها.
لم نرَ هذا النظام العسكري، المصفح بالشعار الإسلامي، مقاتلا إلا ضد شعبه، في الجنوب بداية، ثم في الغرب وفي الشرق، حيث تهيأ الأرض لانفصال او أكثر يستولد دولة أو دولاً جديدة على حساب وحدة السودان… أما الشمال ففي اسر الاضطراب الدائم، والحكم الذي لا يقبل معارضة ولو في حضنه.
لقد دمر النظام العسكري قدرات السودان: مزق وحدة الشعب، ومزق ارض الوطن، وأغرق شعبه في حروب أهلية لا تنتهي.
هل من حق أي مسؤول أو متابع أن يدّعي انه قد فوجئ بانفصال الجنوب عن الشمال، وإقامة دولة «لشعبه» الذي قاتل أهله منذ عقود من اجل حقوقهم في وطنهم، حتى تم «استقلاله» ليتحول- بأفضال هذا النظام ـ إلى قاعدة عسكرية إسرائيلية تحت الرعاية الاميركية.
على ان هذا كله لا يمكن ان ينسينا الأبعاد الخطيرة للغارة الإسرائيلية على دولة عربية، والتي يفترض أن تعتبر اعتداءً على العرب جميعاً، في مختلف أقطارهم مشرقاً ومغرباً.
إنها غارة على الأمة جميعاً، وأساساً على مصر وعهدها الجديد الذي يفترض انه ولد في «الميدان». فالغارة استهدفت مصر وأمنها القومي والتوجهات الفعلية للحكم الجديد. وليس من المبالغة الافتراض أن توقيت الغارة لم يكن مصادفة.. فهي قد جاءت في أعقاب الاشتباكات التي انفجرت فجأة في سيناء، والتي ذهب ضحيتها عدد من الجنود المصريين خلال إفطارهم، واتهم بتدبيرها ومحاولة توسيع دائرة نيرانها بعض التنظيمات الأصولية، وإن تسترت ببدو سيناء ومطالبهم المزمنة بإنماء منطقتهم واعتبارها «مصرية» وليست مجرد صحراء ملحقة بمصادفة جغرافية.
هل من المجازفة الإشارة هنا إلى التطمينات التي تلقتها إسرائيل من قيادة مصر مباشرة، وأبرزها الرسالة الفريدة في بابها التي بعث بها الرئيس محمد مرسي إلى رئيس دولة العدو شيمون بيريز مع سفيره الجديد، أو بطريقة غير مباشرة كسلسلة التصريحات الرسمية والشعبية التي أطلقها بعض قادة الإخوان، والتي كانت بين مصادر الطمأنينة الإسرائيلية الى أن الغارة ستمر من دون «الإساءة» الى علاقة الصداقة المستجدة مع الحكم الجديد في مصر.
فتلك التطمينات كانت تؤكد للإسرائيليين ان مصر مشغولة بمشكلاتها الداخلية الثقيلة فحسب، وهي غير معنية بما تقدم عليه إسرائيل من اعتداءات على هذه او تلك من الدول العربية، فضلاً عن إيران التي تتوالى التهديدات الإسرائيلية بقصف منشآتها النووية على مدار الساعة.
بديهي أن يقول المسؤولون، الذين وصلوا الى سدة السلطة حديثاً في غير بلد عربي تفجرت فيه الانتفاضة الشعبية: إننا مشغولون بالتركة الثقيلة التي خلفها حكم الطغيان، ثم إننا اضعف من أن نواجه أي اعتداء إسرائيلي علينا مباشرة فكيف بأن نواجهه خارج أرضنا وفضائنا.
ومع الأخذ بالاعتبار وجاهة هذه الحجة، إلا ان موجبات الأمن القومي الداخلي لأية دولة، حتى لا نذكر بموجبات المعاهدات والاتفاقات الموقعة بين الدول العربية جميعاً في إطار الجامعة العربية، تفترض تأمين الدفاع عن النفس وردع العدوان الإسرائيلي المفتوح الذي يستهدف الدول العربية منفردة ومجتمعة.
ان العدوان الإسرائيلي يفيد من انشغال الدول العربية بهمومها الداخلية، وهي ثقيلة، للاندفاع في مخططه الذي يقوم على قاعدة أن إسرائيل أقوى من الدول العربية مجتمعة، وأنها القادرة والمؤهلة على إرباكها جميعاً، وعلى ضرب كل منها، سواء أكانت قريبة كلبنان (حتى لا ننسى حرب تموز 2006 الإسرائيلية بالقيادة الاميركية) او بعيدة كما السودان.. هل نذكر بالغارات «القديمة» على العراق وعلى القيادة الفلسطينية في تونس، وعلى سوريا (تكراراً)؟!
لا يتصل الأمر بطبيعة النظام العسكري المصفح بالشعار الإسلامي في السودان.. بل هو يتجاوز السودان الى الأمة العربية جميعاً. إن إسرائيل تؤكد ما لا يحتاج إلى توكيد من أنها عدو الأمة العربية جميعاً، بمشرقها ومغربها، تعتبر أن هذه السماء العربية مجالها الحيوي المفتوح لطيرانها الحربي، والبحار العربية جميعاً المجال الحيوي لغواصاتها ومدمراتها. وها هي تقترب من استخراج النفط والغاز من مناطق تتجاوز نطاق «مياهها» الإقليمية.
إن التهويل بالخطر الإيراني قد كشف واحداً من أغراضه عبر الغارة على السودان المنسي والغارق في مشكلاته الكثيرة والخطيرة والتي جعلها الحكم العسكري المتستر بالشعار الإسلامي متفجرة.
لقد ضرب هذا الحكم الوحدة الوطنية بعد ضربه وحدة التراب الوطني.
كذلك فإن اعتماد القمع أسلوباً وحيداً في التخاطب مع هذا الشعب السوداني الطيب، الذي كان يملك واحداً من انضج المجتمعات العربية وعياً وصفاء في وطنيته وإيمانا بقضايا أمته العربية بعنوان فلسطين… هل نسينا قمة الخرطوم، بعد هزيمة 5 حزيران مباشرة، في الخرطوم التي جمعت القادة العرب خلف اللاءات الثلاث: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف، التي باتت الآن نسياً منسياً.
… مع التمني ألا يغري الصمت الرسمي العربي إسرائيل على القيام باعتداءات جديدة على أية دولة عربية تختارها، واثقة أن أحداً لن يرد عليها ولو بتصريح أو ببيان فضلاً عن التفكير، مجرد التفكير، بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي، ولو من باب حفظ ماء الوجه.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق المصرية»