في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان الحلم العربي الذي فرض نفسه على العمل السياسي: الوحدة العربية.
كان الحلم قد دغدغ مخيلات النخب العربية مع تهاوي الإمبراطورية العثمانية أمام «حركة الإصلاح» التي ألغت الخلافة وأعادت بعث تركيا التي أرجعتها الحرب العالمية الأولى دولة ضعيفة وقد خسرت «ممتلكاتها» جميعاً سواء في المحيط العربي أو في بعض أنحاء أوروبا. وأمكن لأتاتورك أن يفيد من التناقضات في المصالح بين الدول المنتصرة فيعيد بناء الدولة التركية متخففاً من أعباء الإمبراطورية، مركزاً على «تركية « الدولة، مبتدعاً لغة مهجنة هي خليط من لغات عدة تعتمد الحرف اللاتيني بدلاً من الحرف العربي، مجاهراً بهجرة الشرق ملتحقاً بالغرب.
فأما المشروع الوحدوي العربي فقد تم ابتداعه ورعايته من طرف بريطانيا بعدما اختارت شخصية الشريف حسين بن علي، ملك الحجاز، الذي يعود بنسبه الهاشمي إلى سلالة النبي محمد، ليكون قائد المسيرة التي غطت التنفيذ العملي لمعاهدة سايكس ـ بيكو التي قسمت المشرق العربي (فلسطين وسوريا والعراق ولبنان). تم اقتطاع الأردن ليكون إمارة هاشمية للنجل الأكبر للشريف حسين، عبدالله. ولما حاول النجل الثاني فيصل أن يستقل بمُلك سوريا، تم خلعه فتلقفه البريطانيون من الفرنسيين ونصبوه ملكاً على العراق.
على أن هذه «الدول» في المشرق ظلت تستشعر دائماً ضعف التكوين داخل «الحدود» التي قسمت العشيرة الواحدة او حتى العائلة الواحدة بين دولتين أو أكثر (في سوريا مثلاً، عشائر عربية تمتد عابرة الحدود إلى العراق وصولاً إلى السعودية، وربما كان لها جذور في اليمن، فضلاً عن بعض أنحاء الخليج).
ربما بدافع من هذا الشعور أو ربما بغرض استغلاله، طرح البريطانيون مشروع الهلال الخصيب لتوحيد سوريا والأردن والعراق ثم سرعان ما أدرك المعنيون انه يستهدف التغطية على المشروع الفعلي الذي ترعاه بريطانيا والمتمثل بتحقيق «وعد بلفور» الذي أعطاه وزير خارجية بريطانيا (في 2/11/1917) للحركة الصهيونية العالمية بتمكينها من بناء دولة إسرائيل كوطن قومي لليهود فوق الأرض الفلسطينية وعلى حساب أهلها العرب.
بدلاً من الوحدة جاءت الهزيمة العربية في مواجهة المشروع الإسرائيلي فوق ارض فلسطين، وكانت «النكبة» التي ستحتل الوجدان العربي وستفعل فعلها في السياسات.. بل ستكون السبب او الذريعة المباشرة لانقلابات عسكرية كان أولها في سوريا في بداية العام 1949 وبعد شهور من «النكبة».
مع ثورة مصر بقيادة جمال عبد الناصر في 23 يوليو 1952، تبدَّى أن الهزيمة في فلسطين تسكن الوجدان المصري، فقائدها وبعض رفاقه ممن واجهوا بغير استعداد عدواً قوياً بسلاحه كما بالدعم الدولي المفتوح على ارض فلسطين، فكان طبيعياً أن يهزمهم ويستولي على معظم فلسطين ويطرد شعبها منها ليتحول إلى لاجئين في مخيمات تم توزيعها بين الأردن وسوريا ولبنان والعراق مع احتشاد أعداد لافتة منهم في قطاع غزة الذي وُضع تحت الحماية المصرية.
واجهت ثورة مصر الغرب بقيادة بريطانيا، ولم تكد تفرغ من معركة الجلاء وتحاول التقدم على طريق بناء الدولة الحديثة حتى دهمها العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لضرب مصر الثورة التحررية فيها.
كان طبيعياً أن يتضامن العرب في مختلف أقطارهم مع مصر، وخرجت الشعوب العربية إلى الشارع مساندة ومعلنة استعدادها للقتال ضد المعتدين، ونسفت أنابيب شركة نفط العراق البريطانية في سوريا، واستعرت مشاعر البغضاء ضد «الاستعمار القديم».
هكذا ارتفعت الأصوات بطلب الوحدة، وكان أعلاها في سوريا التي غادرها الاستقرار، وتوالت الانقلابات العسكرية مستنزفة قدرات البلاد وجيشها. وقد ذهب قادة سوريا، مدنيين وعسكريين، إلى القاهرة يطلبون من عبد الناصر أن ينقذ سوريا بتوحيدها مع مصر. وتم إعلان الوحدة في 22 شباط ( فبراير) 1958، وقامت الجمهورية العربية المتحدة التي لم تعمر إلا ثلاث سنوات ونصف السنة وهدمها ضباط انفصاليون في الجيش السوري، في ظل عدم استعداد مصري لقتال السوريين دفاعاً عن دولة لا يحميها إلا الإجماع.
ولعل بين ما سرَّع في انهيار دولة الوحدة أن الثورة التي أسقطت الحكم الملكي (الهاشمي) في بغداد لم تلبث أن انتهجت سياسة مغايرة فتصادمت مع جمال عبد الناصر ودولة الوحدة، وكان للشيوعيين وقوى سياسية أخرى دور المحرض على المواجهة.
في أيلول 1962 اكتمل انتصار ثورة الجزائر بقيام دولتها المستقلة. وكان ذلك نصراً تاريخياً لشعب الجزائر ولحركة التحرر العربية ولمصر عبد الناصر التي ساندت تلك الثورة بالسلاح والدعم السياسي.
وفي أيلول 1962 أيضاً قامت ثورة في اليمن فخلعت الحكم الإمامي لأسرة حميد الدين والتفتت إلى القاهرة تطلب دعم جمال عبد الناصر واحتضان مصر للخروج من القرون الوسطى ودخول العصر.
كل ذلك من الماضي الذي طويت صفحاته المشرقة بهزيمة 1967.. ثم جاءت نقطة النهاية مع رحيل جمال عبد الناصر في أواخر أيلول ـ سبتمبر 1970.
بدأ تاريخ جديد للمنطقة مع أنور السادات والنهاية المفجعة لحرب1973… فمع وقف إطلاق النار بدأت مسيرة الصلح مع العدو الإسرائيلي بمحطاتها الكارثية: «الزيارة»، ثم «التفاوض» المنفصل عن الشريك في الحرب (سوريا) وصولاً إلى معاهدة كامب ديفيد التي أخرجت مصر كلياً من دورها القيادي التاريخي عربياً، وزكت فيها الميل إلى العزلة بعيداً عن سائر العرب، في المشرق أساساً، ثم في المغرب انطلاقاً من ليبيا إلى ما بعدها، وكذلك الخروج من ساحة أفريقيا، ملتفتة إلى الغرب بالقيادة الاميركية التي تعهدت لها بالكثير ثم لم تلتزم إلا بأقل القليل.
في هذه الأجواء، انصرف كل نظام عربي إلى حماية ذاته، مستفيداً من خروج مصر لتعزيز دوره الإقليمي. وبينما اندفع صدام حسين إلى الحرب ضد الثورة الإسلامية التي تفجرت في إيران بقيادة الإمام الخميني في أوائل سنة 1979، فقد انحازت سوريا حافظ الأسد إلى إيران، بينما كانت السعودية وأقطار الخليج تعيش خوفاً مرعباً من تداعيات هذه الثورة، دفعها إلى المساهمة في تمويل حرب صدام التي امتدت لسبع سنوات طويلة وثقيلة الوطأة بأكلافها البشرية والمادية. وحين انتهت بانتصار لا يمكن صرفه لصدام حسين الذي كانت الحرب قد أنهكته، التفت يطلب التعويض من «شركائه» بل «محرضيه» من قادة الخليج، ففوجئ بهم يتملصون من مسؤولياتهم عن «حربه» ويصدونه. فكان أن رد بغزو الكويت، وكان أن جمع الأميركيون اتحاداً دولياً بتمويل عربي وبمشاركة عسكرية عربية لإخراجه من الكويت ثم تركوه (والعراق) ينزف حتى أوائل شهر آذار ـ مارس 2003 حين هاجموا العراق فاحتلوا بغداد، وتركوا صدام يساق إلى منصة الإعدام بأيدي بعض ضحاياه من الشيعة، كجزء من مخطط لتفجير الفتنة بين السنة والشيعة، ستمتد نيرانها إلى كل المشرق العربي الذي نشهده اليوم يتصدع منهاراً أمام هجمات جحافل «داعش» التي تمت تربيتها وإعدادها لتكون «الوريث الشرعي» لأنظمة الحكم المدني في مختلف أرجاء المنطقة العربية (والعالم الإسلامي حيث يمكنها الوصول).
ليس القصد من هذه الاستعادة لمرحلة من التاريخ العربي الحديث إدانة أي طرف أو تبرئة أي قيادة، لكنها محاولة للتذكير بالبدايات التاريخية للنفخ بنار الفتنة بين المسلمين في العراق ومن حوله (والحرب على إيران أساساً) وفي سوريا مع التركيز على طائفية الحكم فيها، وتأثير الحركات الأصولية ، والسعودية أحد منابعها الأساسية بالحركة الوهابية التي تعدّ أحد منابع الفكر السلفي الذي يقوم على تكفير كل من يخالفه القول والنهج السياسي.
لم تولد «داعش» من فراغ، بل إن لهذا التنظيم الإرهابي العديد من الآباء والرعاة. لقد شارك كثيرون في استيلاد هذا الوحش الذي يرعب القادة جميعاً الآن، ملوكاً وأمراء ورؤساء، ويهدد دولاً بالتقسيم أو الانفراط.
لقد تهاوت حدود «الدول» وكأنها من كرتون، وأصاب الرعب ملوكاً ورؤساء دول وحكومات وأمراء استولدهم النفط مع دولهم.
الكل في حالة ذعر، لأن «داعش» كشف غربة الأنظمة الحاكمة عن شعوبها. ولأن «داعش» كشف أن في البلاد العربية أنظمة تتبدَّى قوية على شعوبها ولكن دولها ضعيفة إلى حد أنها ترتجف وتكاد تسقط أمام هجوم مدروس ومخطط لعصابات مسلحة بالشعار الإسلامي وبعض السلاح المنهوب من ثكنات الجيوش، أو ما وفرته دول أجنبية ذات مصلحة في نشر الفوضى لإقامة «الشرق الأوسط الجديد» تحت القيادة الإسرائيلية، باعتبار أن إسرائيل هي «الدولة» الوحيدة في المنطقة.
ولعل الحرب الإسرائيلية على غزة فلسطين، وسط الضياع في مواجهة جحافل «داعش»، يؤكد أن فلسطين لم تعد موضع اهتمام النظام العربي عموماً، وقد تركها لإسرائيل تحت الرعاية الاميركية.
الكل في حالة ذعر، في المشرق والمغرب، حتى لا ننسى ليبيا وتأثيرات الفوضى المسلحة التي تلتهمها على جيرانها (تونس والجزائر وصولاً إلى المغرب)، وكذلك اجتياحات «داعش» أو تنظيمات مشابهة بعض الدول الأفريقية (نيجيريا ومالي و..).
والكل يتوجه إلى «الاستعمار الجديد» طالباً منه بلهجة تُداني التوسل أن يتدخل بجيوشه وأن يأتي محتلاً فيأبى تدللاً وغناجاً واستغلالاً للحاجة إليه، ويفرض شروطاً تلغي سيادة الدول وتشطب بعض رؤسائها والقيادات.
هو يحكم من فوق رؤوسهم جميعاً.
وهو من سيحدد، غداً، حدود دولهم ما بعد «تحريرها» من «داعش».
ما أهون معاهدة سايكس ـ بيكو لتقسيم المنطقة أمام المشروع الاميركي الجديد الذي لن يُبقي في المنطقة إلا دولة واحدة (حاكمة) هي إسرائيل، أما الدول التي كانت فستكون «للنظر» مستقبلاً!
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية