…وجاء زمن الصعوبة مباشرة مع إطلالة فجر القدرة على التغيير بالثورة.
كان في ظن الجمهور الذي غيب طويلاً عن دائرة الفعل حتى نسي أهل البلاد وصاحب الحق الشرعي في القرار فيها، بحاضرها ومستقبلها، ان الثورة تنجز بمجرد حضوره وممارسة هذا الحق بالنزول الى «الميدان» لفرض إرادته.
لم يكن غائباً عن ذهن الجمهور ان النظام الذي يسيطر على البلاد منذ دهر، ويفرض هيمنته بقوة شرعيته المزورة، المعززة بجيوش الأجهزة الأمنية التي تراقب كل من يتكلم او يكتب او يتحرك او يفكر او يحلم، لن يستسلم بسهولة، وانه سيقاتل بشراسة للحفاظ على وجوده، وانه لن يتورع عن ارتكاب المذابح واعتقال الآلاف والتضييق في مصادر الرزق وتحريض بعض الجمهور ضد بعضه الآخر ليقدم نفسه، من بعد، في ثوب الحريص على الوحدة الوطنية من طيش الدهماء، او تعصب الطائفيين والمنظمات ذات الواجهة الدينية..
كذلك لم يكن غائباً عن ذهن الجمهور ان للنظام شبكة من المصالح يتجمع فيها نخب من «رجال الأعمال» وأشتات من المستفيدين من السلطة في مختلف المجالات والذين لهم اتصالات قوية مع «المجتمع الدولي» أو «الجهات المانحة» لأنهم سبق أن عملوا في مؤسسات دولية مثل صندوق النقد او البنك الدولي وبعض وكالات الأمم المتحدة، او درسوا وعاشوا طويلاً، فعملوا وكسبوا مالاً وفيراً في الولايات المتحدة أو أوروبا او ـ على وجه الخصوص ـ بلدان النفط العربي، فاكتسبوا صداقات مؤثرة في دوائر القرار في دول ذات أهمية استثنائية.
أخطر ما في الأمر، ان الجمهور كان يفتقد الى قيادة في مستوى طموحه، مؤهلة وقادرة ولها حضورها الشعبي الوازن في البلاد بجهاتها كافة… وكانت تلك مشكلة معقدة، لان النظام لم يكتف بتدمير الأحزاب والنقابات والتنظيمات والهيئات الجامعة، بل انه قد استطاع – عبر استمراريته – أن يخترق ما تبقى منها، فصار له «عملاء» في معظمها، تزور ارادته عبرها، تحت شعارات ماضيها البارقة.
ذلك ان الكثرة الغالبة من أنظمة الحكم في الوطن العربي»شمولية»، بمعنى أنها تملك – كالأخطبوط – اذرعة أمنية تمدها في مختلف إدارات الدولة والى كل مؤسسات المجتمع المدني: ففي كل إدارة او مؤسسة، او جامعة، او مدرسة او مصنع، ولكل حي في المدينة، ولكل قرية او مزرعة في الريف، وعموماً لكل من يتحرك او يقرأ او يفكر، من يراقبه ويحصي عليه أنفاسه ويملك ان يحاسبه على أحلامه…
بل ان للأجهزة الأمنية أجهزة تتجسس عليها وتراقب المنتمين إليها وتحصي عليهم أنفاسهم، بذريعة منع الاختراق الأمني.
إجمالاًً: كان الجمهور على وعي، حين اتخذ خطواته الأولى نحو الميدان انه يقوم بمهمة استثنائية خارقة… انه يتحرك وليس له قيادة واحدة، وصعب جداً الافتراض ان الآلاف او عشرات الآلاف ممن سيلبون النداء، سيمكن ضبط حركتهم وتوحيد شعاراتهم وإلزامهم بتوحيد برنامج التحرك.
كذلك، فإن الجمهور كان يعرف أن للنظام أحزابه التي ربما أمكن لبعضها اختراق صفوفه، إضافة الى حزب النظام الرسمي الذي كان بقدرته ان يضم الى صفوفه الملايين لأنه مصدر السلطة والانتفاع… وإجمالاً فإن للنظام «حزبه» في كل حزب أو تجمع أو هيئة او نقابة او جمعية خيرية…
على هذا فالخطر الأول على الميدان سيأتيه من داخله، إذ أن تدفق الجماهير للتلاقي فيه، في غياب أية جهة قادرة على التدقيق وتحديد هويات المشاركين، قد يزرع فيه من يفسد الاجتماع ويخربه، بل قد يتسبب في اشتباكات ومنازعات تقسم الجمهور بحيث يستعيد النظام اعتباره بوصفه «المرجعية الشرعية» والحكم المؤهل للفصل في المنازعات، والمسؤول عن أمن البلاد والعباد.
ثم هناك خطر الاصطدام المباشر بقوى النظام، الأجهزة الأمنية المتعددة وصولاً الى الجيش…
بعد هذا كله يمكن الالتفات الى «برنامج الانتفاضة للتغيير» إذا ما تحقق الشعار الذي بات أشبه بالنشيد الوطني لكل بلد عربي: الشعب يريد إسقاط النظام..
ماذا بعد سقوط النظام؟!
من سيتولى السلطة وعلى أية أسس؟
ما هو برنامج الثورة للتغيير… خصوصاً ان الميدان يعرف ان النظام فاسد بمجمله، برأسه وأذرعته، بإدارته ومؤسساته سواء منها «المنتخبة» شعبيا، او المعينة بقرار من رأس الفساد؟
من سيحكم البلاد بملايينها الخارجة من الأسر، ولكل فئة مطالبها المزمنة التي سيكون على الثورة ان تحققها على الفور، وإلا حكمت على نفسها بالفشل؟
ان معظم أهل النظام العربي يتولون مقاليد السلطة منذ دهر… بعضهم تجاوزت مدة حكمه أربعة عقود، وبعضهم ثلاثة، وهم بمجموعهم قد أفقروا البلاد فأفرغوا خزينتها ووزعوا خيراتها على المستثمرين الأجانب الذين جاء بهم النهابون المحليون من بطانة السلطان او من شركائه…
ثم ان الإدارة خربة، والفساد يستشري من القمة الى القاع،
القضاء قد انُتهكت حُرمته، فانصرف منه او ُصرف أهله من أصحاب الكفاءة والضمير والتزام القانون، وجاءت السلطة ببعض رجالها ليغطوا على صفقاتها وخطاياها، فباتت أحكامهم نموذجية في إدانة البريء وتبرئة الراشي والمرتشي والمرتكب واللصوص الكبار…
والأمن ليس أحسن حالاً، فهو قد جعل أجهزة ليراقب كل منها الآخر، ولتشارك جميعاً في ضبط أنفاس الناس ومتابعة أفكارهم وأحلامهم حتى لا تأخذهم الى الغلط او تغريهم به… فالنفس أمّارة بالسوء، كما تعلمون.
[[[[[[
يمكن المضي في تعداد وجوه التخريب في المجتمعات ومواقع السلطة او التأثير فيها، بلا نهاية، فسنتذكر دور أجهزة الإعلام المملوكة للسلطان والناطقة باسمه، مانعة الحقائق عن الرأي العام، ومزورتها حين تدعو الحاجة (الصورة الشهيرة في «الأهرام» اثر لقاء واشنطن الرباعي).
المأساة ان الخارج يصبح مصدر أخبار الوطن ودولته، والخارج مصالح، والمصالح تملك أجهزة إعلام خطيرة النفوذ، وهي تقدم من الأخبار والوقائع ما يخدمها، وتطمس او تحور او تزور ما تبقى…
وينشطر المواطن نصفين: هو لا يصدق الإعلام الرسمي، ولكنه مضطر الى الاستماع الى محطات الخارج التي تبث عن وطنه أخباراً لا يملك القدرة للتحقق من صحتها. وبرغم شكوكه في دقتها فهو لا يجد مصدراً موثوقاً ليعرف منه حقيقة ما يجري في بلاده، لذلك يسمعها مستريباً ثم يحسم منها النصف او الثلث او الربع، ليستبقي ما يجده معقولاً لا تدحضه الوقائع.
لم يعد الإعلام عبارة عن صحف معدودة ومحطة (او محطات) إذاعية، وفضائية (او فضائيات) رسمية.. صار الفضاء مفتوحاً لكل قادر على شراء الهواء.
وفي إحصاء غير دقيق، فإن ثمة حوالي ثمانمئة فضائية ناطقة باللغة العربية، بعضها لدول عربية، وبعضها الآخر لدول أجنبية، وهناك مئات من المحطات الخاصة التي تملكها جهات شبه رسمية او مؤسسات دينية أو أحزاب تحت التأسيس… بل ان لكل طائفة إسلامية الآن مجموعة من الفضائيات، التي تكفر كل منها المسلمين الآخرين وتحرض على الفتنة.
[[[[[[
يمكن ان نمضي في تعداد المخاطر على الانتفاضات العربية فنملأ صفحات عديدة…
لكن مجد هذه الانتفاضات انها تتصدى لمهمة استثنائية جليلة: انها تبدأ كتابة التاريخ العربي الحديث، وانطلاقاً من عواصمه الكبرى وذات التأثير. القاهرة اولاً، ومعها تونس، واليمن بشعبها الذي لا يتعب، ومعها البحرين، وسوريا التي يعجز نظامها العتيق عن فهم الطموح الشرعي لشعبها الى التغيير، وإزالة الصدأ الذي تراكم على سطح المجتمع، فمنع عنه الهواء…
إنها ثورة فريدة في بابها: تبدأ من تحت الصفر.
إنها حركة مباركة تعيد خلق «المواطن» اولاً، وتعيد إليه الاعتبار وتمتحن أهليته في أن يتولى المسؤولية عن إعادة بناء وطنه، ومن ثم دولته، بما يوفر له الكرامة ويمكنه من ان يبني غده الأفضل بجهده وعرقه، مع الإفادة طبعاً من تجارب الشعوب الأخرى، ولكن بما يتلاءم منها مع ثوابت اليقين في مجتمعاته.
إننا أمام عصر عربي عظيم، ليس ابهى من معجزة تفجر ثوراته في كل هذه الأرض العربية، من أقصى المغرب الى أدنى المشرق في اليمن، الا نجاحها في إعادة بناء دولها، بهويتها الأصلية، مع الإفادة من العصر، بعلومه ونظمه الإدارية الحديثة التي وفرتها أسباب التواصل والاتصال.
إن أعداء الثورة في الداخل كثر، ولكنهم اعجز من ان يواجهوها مباشرة،
أما أعداء الثورة في الخارج فأقوياء جداً.. وأقوى ما لديهم الدهاء ومحاولة الإفادة من حاجة الثورات الى المساعدات الاقتصادية والخبرات والبرامج الفنية الحديثة.
والخطر ان يوظف الخارج حاجة الثورات الى المعونة المادية لكي يفرض عليها، كالعادة، شروطاً سياسية تذهب بقدرتها على التغيير.
لقد كان ترحيب الخارج (الاميركي خاصة والغربي عامة) بهذه الثورات لافتاً بحماسته، حتى لقد أثار الريبة في غاياته…
لكن تجربة فرسان الثورة في مواجهة الأنظمة التي كانت دائماً في أحضان الغرب الاميركي، تلقى مساندته ودعمه وحمايته، ستعلمها كيف تحمي نفسها من هذا النفاق الذي يهدف الى «شراء» موقفها السياسي ببعض القروض أو الهبات… التي سيدفعها، على أي حال، «أصدقاؤه» من أهل النظام العربي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان