لافتة هي التصريحات العلنية لبعض كبار المسؤولين الأميركيين التي يؤكدون فيها أن واشنطن لا تنوي إرسال قوات عسكرية الى اليمن، بل ستكتفي بتقديم الدعم، بأشكاله المختلفة، للنظام القائم في صنعاء، بل إنها باشرتها فعلاً، نقداً وعيناً، طائرات من دون طيار، وأسلحة وذخائر، وطواقم مخابرات وخبراء في حروب العصابات الخ…
أما السبب المعلن فهو أن الإدارة الأميركية لا تريد ان تتورط في عملية عسكرية كبرى، اذ تكفيها المصاعب والخسائر البشرية والنكسات السياسية والأعباء الاقتصادية التي تتكبدها نتيجة احتلال العراق والحرب الباهظة الكلفة في أفغانستان، إضافة الى الأعباء الثقيلة لأساطيلها المنتشرة في المحيطات والبحار، ولقواعدها العسكرية في اربع رياح الأرض…
ليس سراً أن في العديد من الدول العربية قواعد عسكرية ظاهرة او مموهة للجيوش الأميركية، بعضها بذريعة التدريب، وبعضها الآخر بتأمين طرق الإمداد، وبعضها الثالث تلبية لطلب أهل النظام العربي في البلد المعني…
فبعد غزو صدام حسين الكويت عام 1990، صار الوجود العسكري الأميركي، على شكل قواعد جوية، او محطات رصد ومراقبة، او تسهيلات للربط والتحكم، واقعاً قائماً على معظم الأرض والبحار العربية الممتدة بين المحيط والخليج!
لكأننا في بدايات القرن العشرين: لم نفعل في ظل «الدول المستقلة» التي ناضلت شعوبها للتحرر من الاستعمار ما يحمي هذا الاستقلال ودوله… الاستعمار الغربي «ورث» السلطنة العثمانية، فمزق الأرض العربية أشلاء، بحيث عجزت «الدول» المستولدة قيصرياً عن تحقيق طموحات أهلها، خصوصاً بعدما وضع الاستقلال في وجه مشاريع التوحد او التكامل او الترابط بالمصالح عبر مؤسسة رمزية مثل جامعة الدول العربية…
الفارق: أن أهل النظام العربي يستدعون الآن الحماية الأجنبية، ويبررونها ويعتبرونها ضمانة التحرر من أعباء الأخوة والمصير المشترك بعدما أنهكتنا، برغم أننا لم نجربها علمياً، وعجزنا عن كلفة الاستقلال الحقيقي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، والحق في الحرية والسيادة والعزة التي طالما نظمنا فيها الأناشيد ذات الإيقاع الصاخب.
وبالتالي فليست مبالغة أن يقال إن «الوطن العربي»، بأقطاره جميعاً، كبيرها والأصغر، يقبع تحت الاحتلال او الحصار بالاحتلال، شعوبه ممنوعة من التواصل، و« دوله» قد استسلمت لأنواع من القطيعة، سواء منها المفروضة بقوة الأمر الواقع، كما حال العراق تحت الاحتلال الأميركي، أو بتناقض المصالح بين أهل النظام العربي بين قطر وآخر، والذين لم يعودوا يتلاقون إلا في واشنطن او عبرها.
لقد تعرضت القضية الجامعة، فلسطين، الى تذويب منهجي يكاد يذهب بقداستها، عبر الخلافات العربية ـ العربية، بالمزايدة او بالمناقصة من حولها، كما بالتشققات التي ضربت منظمة التحرير عبر الخلافات المتفاقمة حول السلطة والموقف من الاحتلال الإسرائيلي، وهي تتغذى بصراع المصالح والخوف بين أهل النظام العربي، وكادت تصل الى حدود الحرب، لولا حواجز الفصل الإسرائيلية بين الأخ وأخيه في كل من الضفة الغربية وغزة.
وهكذا فإن فلسطين، المحتلة جميعاً، تحت حصار عربي، بالخلافات التي لم توفر مقدساً، ولم تستبق للقضية حصانتها، في حين أن المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي كانت تستنقذ القضية وكرامة شعبها والحد الأدنى من التضامن العربي، مع الوعي بأن «الحل» بعيد ومكلف جداً، ولن يتوفر إلا عبر صراع إرادات مرير ساحته التوازنات الدولية وموقع العرب منها وقدرتهم على التأثير فيها.
كذلك فإن جامعة الدول العربية قد تحولت، نتيجة الحصار المتبادل بين أعضائها والخلافات التي امتدت الى التفاصيل السياسية اليومية، الى حائط مبكى، وإلى مؤسسة مشلولة، ممنوعة من الفعل، لأن الفعل يفرض حداً أدنى من التوافق.. وهذا متعذر في المدى المنظور.. ومصير القمة العربية التي يفترض أن تعقد أواخر شهر آذار المقبل في طرابلس معلق، ولا بد من جهود استثنائية لتوافق اهل النظام العربي على العودة الى التلاقي في خيمة العقيد معمر القذافي وجماهيريته الفريدة في بابها.
بكلمة يمكن القول: إن الدول العربية جميعاً تحت الحصار… وإن الدول العربية جميعاً تكاد تكون محتلة… فالإرادة هي التي تحرر الأرض، ومتى ارتهنت الإرادة بقيت الأرض في أسر الاحتلال الأجنبي، إسرائيلياً كان أو أميركياً، او مختلطاً ومشتركاً الى حد التوحد.
إن مصر محاصرة بالفقر والخوف من المحيط والخوف من الفتنة، فضلاً عن القيود التي فرضتها معاهدات الصلح مع إسرائيل، فحرمتها من دورها العربي القائد، وأنقصت حجم تأثيرها، وكادت تذهب بنفوذها المعنوي الذي لم تكن تدانيها فيه أية دولة عربية أخرى.
والسودان محاصر بتهديد الخوف من تمزق الدولة…ومن شر البلية أن يصور انفصال الجنوب عن الشمال، وربما في وقت لاحق، الغرب عن الشرق، والكل عن الدولة المركزية، وكأنه اقصر الطرق الى الديموقراطية.
ولبنان محاصر بقرارات دولية عدة (أولها 1559 وآخرها 1701) وقوات دولية جاءت لتأمين حدود الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بغض النظر عن التبريرات والذرائع التي أعطيت، عربياً ومحلياً، لتمركز هذه القوات في الأراضي اللبنانية، وهي المستهدفة بالعدوان والاحتلال والاجتياح الإسرائيلي منذ 1968 وحتى اليوم…
أليس لافتاً ومريباً أن تأتي قوات الطوارئ الدولية لتتمركز، تحت علم الأمم المتحدة، في الأراضي التي تتعرض للاجتياح الإسرائيلي، وليس على الجهة التي جاء جيش الغزو مرات ومرات ( 1972، 1978، 1982، 1993، 1996 ثم بعد التحرير في عام 2000 عاد ليفرض على لبنان الحرب في تموز ـ 2006)…
وفي تلك الحرب الإسرائيلية وقف النظام العربي «على الحياد»، أي أنه عملياً ساند الحرب الإسرائيلية، بذريعة أن المقاومة قد اختطفت جنوداً إسرائيليين داخل الأرض اللبنانية، وهي بالتالي «المعتدية» او المتسببة في تلك الحرب التي دمرت البنى التحتية في معظم أرجاء لبنان، وسفكت دماء أكثر من ألف وخمسمئة امرأة وطفل ورجل، فضلاً عن تهجير مليون مواطن من مدنهم وقراهم في الجنوب والتي عادوا إليها ـ متلهفين ـ مع وقف الحرب صباح الرابع عشر من آب 2006، ليصمدوا فيها مجدداً ودائماً.
إن حدود لبنان مع فلسطين المحتلة هي خط نار، والطيران الحربي الإسرائيلي يغطي سماء لبنان يومياً، ويجول في أفيائها من أقصى الجنوب الى الحدود مع سوريا،
أما الحدود مع سوريا فقد فرض القرار الدولي أن تخضع لرقابة دولية تكاد تحصي على المواطنين أنفاسهم، متجاهلة أنهم أقارب وذوو رحم على جانبي الحدود، وأن تواصلهم شرط حياة لهم جميعاً.
وحين نصل الى العراق تحت الاحتلال الأميركي نكتشف عدداً من الوقائع ذات الدلالة: فحدوده مع الدول العربية (خصوصاً سوريا والسعودية ملغمة ومصفحة بجدران إسمنتية او ترابية موضوعة تحت رقابة قوات الاحتلال على مدار الساعة).
أما حدود العراق مع الأردن فمفتوحة لكل من لا يزعجه الاحتلال الأميركي… وهكذا فإن رجال المخابرات الإسرائيلية يسرحون ويمرحون في ارض الرافدين بتسهيلات استثنائية، في حين أن وجودهم في منطقة الشمال الكردي يكاد يكون الأوسع والأعظم نفوذاً، إن على المستوى الاقتصادي أو على المستوى المخابراتي..
إن أهل النظام العربي يحاصرون دولهم بالعداء مع الدول العربية الأخرى… والأغنى من بين هذه الدول تغلق حدودها على ذاتها، لا يصلها أي عربي من الفقراء إلا خلسة او بواسطة أصحاب النفوذ. إن ليبيا مغلقة في وجه المصريين والسودانيين والتوانسة، أما الأغنياء الوافدون من دول النفط لإقامة مشروعات استثمارية مشتركة فمرحب بهم، وقد انتهى عصر «طز طز في أميركا».. وانتهى التشنيع على الملوك وأمراء النفط والتشهير بتخليهم عن العروبة و«جماهير الفقراء»، وانخرط العقيد في نادي أهل النظام العربي مع الحفاظ على ملابسه الفولكلورية الطريفة وأسلوبه الفريد في الخطاب الثوري الذي لم يعد يخفي الصفقات المعقودة من اجل «التوريث».
لقد فرض الأغنياء من أهل النظام العربي الحصار على الفقراء العرب، دولاً وشعوباً، وهربوا بثرواتهم الطائلة بعيداً عن فلسطين، وكذلك عن مصر، وعن سوريا كما عن اليمن، وحصنوا أوضاعهم بالحماية الأجنبية، مباشرة بالقواعد العسكرية، جوية وبحرية، كما بالاستعلاء على من كانوا إخوانهم أصحاب الفضل عليهم، اذ هم الذين أوفدوا إليهم البعثات التعليمية، كما جاء منهم من داوى المرضى، ومن بنى المدن، يوم لم يكن يجيء الى تلك المدن المبعثرة في الصحراء أي أجنبي.
إن هؤلاء الأغنياء يعيشون الآن في محميات تقوم على حراستها الأساطيل ومصالح الدول الكبرى، وبينها إسرائيل… فبعض هؤلاء لا يتورعون عن المجاهرة «بأحقية» إسرائيل في أن تمتلك السلاح النووي، ويرون في مفاعل ديمونا مصدراً للحماية من… الخطر الإيراني، متجاهلين أنهم سيكونون الضحية الأولى لأي حرب محتلمة في المنطقة سواء أقدم عليها بعض المهووسين في الإدارة الاميركية، أم نفذها هؤلاء عبر إسرائيل تحاشياً لاعتراضات سيبديها، بالتأكيد، الكونغرس وعموم المواطنين الأميركيين.
وها هي الأحداث الدموية في اليمن تنذر هؤلاء الأغنياء من أهل النظام العربي بأن تخليهم عن موجبات التضامن لن يوفر لهم الأمان… فالفقر كافر، وهو سيؤدي الى الانفجار الشعبي وقد يسقط النظام ويفتح الباب لجهنم الحرب الأهلية في تلك الدولة الجارة، التي ساهم شعبها من موقع «الأجير» في بناء العديد من دول «إخوانه الأغنياء»…
إن الحصار سيرتد على المحاصرين، وعلى الأشقاء الذين يعطون ثرواتهم واستقلال بلادهم للاحتلال الأجنبي ويرفضون مد يد العون لأشقائهم الذين سينتفضون قطعاً وسوف يتسببون في إسقاط الأنظمة المشاركة في حصارهم وفي نقل النار إلى خارج حدودهم، كما حصل مع السعودية في اليمن.
وبالتأكيد فإن تفجير العراق بالفتنة، ولأسباب لا علاقة لها بالإسلام ومذاهبه، كان يستهدف التخلص من أقوى دولة عربية كانت قائمة ويمكن أن يعيد شعبها إقامتها، لأن أغنياء النظام العربي يرون فيها الخطر على مصالحهم، وبينها الاحتلال الأميركي للعراق الذي يرون فيه الضمانة، ولو كان الثمن حرية شعوبهم وهوية بلادهم.
إن الحصار مرشح ليرتد على المتواطئين على فرضه على «إخوتهم الفقراء».
وتلبية موجبات الأخوة والمصير المشترك أقل كلفة بما لا يقاس من فرض الحصار على من لا يملكون ما يخسرونه في الحرب الأهلية، بل إن أي تغيير قد يخفف من واقع الإذلال الذي يعيشون في «ظلاله» الوارفة، وهي «ظلال» لا تفيد منها «القاعدة» فحسب، بل كل طامح الى التغيير.
([) تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية