في وقت واحد، عاش العرب حالة من الفرح الغامر بانتصارين مجيدين تحققا معاً:
÷ الأول ـ إعلان الإدارة الأميركية، بلسان نائب الرئيس جو بايدن، ومن بغداد، كما نقلت بعض الفضائيات العربية مباشرة وبالصوت الحي والصورة الملونة، أن قوات الاحتلال الأميركي للعراق ستغادره مستبقية فيه خمسين ألفاً فقط من جنودها، لتوطيد أمن «الاستقلال» و«الوحدة» و«الديموقراطية» في هذه البلاد ذات التاريخ العريق التي شطرها الاحتلال كيانات متواجهة (بالسلاح!) فوق براكين العنصرية والفتن الطائفية والمذهبية.
÷ أما الانتصار العربي الثاني فقد تم في البيت الأبيض في واشنطن وبرعاية الرئيس الأميركي الأسمر ذي الجذور الإسلامية(؟!) باراك أوباما، وبحضور الرئيس المصري حسني مبارك وبعض أهل نظامه، بمن فيهم نجله جمال، والملك الأردني عبد الله بن الحسين وبعض حاشيته، لإعلان العودة الى التفاوض على التفاوض بين رئيس حكومة إسرائيل ـ دولة يهود العالم (رسمياً الآن) ورئيس «السلطة» في بعض الأرض الفلسطينية التي لا تزال محتلة، ولا يزال شطرها الآخر في غزة «متمرداً» له سلطته «المستقلة» تحت غطاء من الصواريخ الإسرائيلية، وفي ظل حصار يكاد يمنع الهواء عن المليون ونصف مليون من رعاياها.
في البيت الأبيض بدا المشهد غير المسبوق تاريخياً، والذي يصعب تخيل تكراره مرة أخرى، «أجمل من أن يكون حقيقياً»… تماماً مثل ذلك الذي تابعه العرب ـ صامتين ـ على فضائيتهم في بغداد وبينما حملة أعلام جيش الاحتلال الأميركي يتبادلون راياتهم ذات النجوم بين العائدين الى بلادهم بعد إنجاز «التحرير»، والباقين في أرض الرافدين توطيداً لأركان «استقلال» الدولة العراقية.
أما على الأرض المغسولة بدماء الشهداء في كل من فلسطين المحتلة والعراق تحت الاحتلال، فلم يكن ثمة ما يستدعي الاحتفال بهذه الانتصارات المأساوية.
وأما على امتداد المنطقة العربية فلم تخرج تظاهرة غضب واحدة، وان كانت أطلقت تصريحات هائجة متلفزة وخطب حماسية قوية النبرة حد الصراخ في لقاءات جماهيرية مغلقة لم يسمع بها ـ في أي حال ـ ذلك الرهط الرئاسي المطعم بالتقاليد الملكية من نمط «حيوا الزعيم» الذي احتشد حول مائدة الإفطار الرمضاني في البيت الأبيض بواشنطن، وهم يحتفلون بالاتفاق المتكرر على إعادة السلطة الفلسطينية الى طاولة المفاوضات على ما تبقى من أرض لم «يعمرها» بعد المستوطنون الوافدون من أربع رياح الدنيا على حساب حقوق أهلها فيها.
وأما في «الضفة» فقد جردت السلطة حملة اعتقالات واسعة شملت كل «المشبوهين» الذين يحتمل أن ينفذوا «اعتداءات» على المستوطنين الذين سلبوهم أرضهم بالقوة، (كما في الخليل) فيما لم يجد مقاتلو حماس من يقاتلونه في غزة الحرة تحت حصارها الذي بالكاد يستثني الشمس والهواء.
حسناً.. وماذا بعد الاحتفال المهيب في البيت الأبيض؟!
الجواب: العودة الى المفاوضات على ما تبقى من الأرض التي تراها إسرائيل هبة إلهية لليهود جميعاً، وهي قد «استعادتها» بقوة السلاح، بشهادة المشاركين في الاحتفال المهيب في البيت الأبيض، وبينهم من كان مقاتلاً فاستراح وأراح، وبينهم من لم يقاتل يوماً إلا لحماية عرشه من أولئك الذين أخرجوا من أرضهم الفلسطينية فجاؤوا الى «مملكته» يهددونها في وجودها وعبر احتمال اعتبارها «الوطن البديل».
من فاته حضور الاحتفال أبرق مهنئاً وأصدر بيانات التأييد ممهورة بالختم الملكي مع الدعاء بالتوفيق، ناسياً أو متناسياً «المبادرة» التي جاءت أميركية ثم صيّرت عربية قبل أن يطويها النسيان مع مقررات القمم العربية التي تبنتها وكادت تجعلها نصاً مقدساً في صلب ميثاق جامعة الدول العربية.
من مدريد التي تم القفز من فوقها باتفاق أوسلو، في مثل هذه الأيام من العام 1994، ومن البيت الأبيض الذي شهد الإنجاز التاريخي برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الى طابا فإلى شرم الشيخ، ومن واي ريفر الى انابوليس الى مكوك التفاوض على التفاوض الموفد الأميركي ذي الابتسامة البلاستيكية جورج ميتشل: ها هي ساعة الختام تدق نغمات حزينة على وقع أذان الإفطار في العاصمة الأميركية، مع الإعلان أن رئيس الحكومة في دولة يهود العالم سيتابع المفاوضات المقدر لها أن تمتد لعام طويل مع رئيس السلطة المطعون في شرعيته، لا سيما بعد التمديد لنفسه في غياب التفويض الذي عز الحصول عليه إلا من جماعته المستفيدين من السلطة على حساب القضية.
لقد آن أن يرتاح أهل السلطة المتعبون من أثقال القضية التي تستعصي على التحجيم والتصغير، وكذلك على الطمس والتغييب، لكي يحرروا أنفسهم وجماعتهم من أعباء النضال والمحاسبة على التقصير في الإنجاز: فالفلسطينيون في واقعهم السياسي الداخلي، وفي ظل الفرقة العربية التي كسرت الحرم عن التفريط والتفرد والصفقات الثنائية التي تعقد في ليل، ليسوا مهيئين لأكثر مما نالوا! لقد حاولوا طويلاً… فاوضوا على التفاوض حتى عز الكلام، فتركوا الأمر لصاحب الأمر يقرر فيها ما تقضي به حكمته، وها هو قد لبى فأقام الاحتفال الحاشد الذي يعوض بفخامته عن خلوه من المضمون!
ليرحم الله الشهداء الذين تساقطوا مطراً على امتداد ثمانية عقود أو يزيد، ليحموا حقهم في أرضهم وفي كيان سياسي لهم فيها، بعدما انهارت أحلام التحرر والوحدة والعودة الى «الوطن» بحدوده «الطبيعية»: أوليست فلسطين جنوب سوريا؟
ليرحم الله الشهداء ممن شردهم الاحتلال الإسرائيلي الذي تجاوز حدود فلسطين الى أراض عربية في دول قائمة، وكان الأمل معقوداً على قدراتها التي كانت وعداً بالنصر، فضربتها الهزيمة وأخرجتها من الميدان، ولم يتبق لها غير أن تشهد على انطفاء القضية وقرع جرس الانصراف للمناضلين الذين أتعبهم العمر وانتحار الأحلام باليأس. لقد انتهى زمن الثورة، وطويت أعلام منظمة التحرير التي عاشت طوال السنين وضعاً ملتبساً: فهي الإطار أو الحاضنة الشرعية للقضية قبل أن يتولى أمرها «الثوار» لتوحيد البندقية والقرار… وها هم الثوار قد رحلوا، ومن تبقى منهم أضعف من أن يتحمل أثقال التحرير، فلماذا المكابرة؟! «وها هم أهل النظام العربي قد سبقونا حتى بتنا نثقل كواهلهم ونعذب ضمائر من تبقى عندهم ضمائر، فلماذا لا نرتاح ونريح»؟!
لقد دقت ساعة النهاية لحقبة مجيدة من عمر النضال العربي، عموماً، والفلسطيني خصوصا وتحديداً، وان كان هذا لا يعني، بأي حال، ان «القضية» سوف تدفن تحت ركام الاتفاقات المثقلة بالتواقيع السامية لرؤساء دول عظمى وقيادات دول متوسطة، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، وبشهادة أهل النظام العربي حاضرين..
هي ليست الخاتمة، بالتأكيد ولكنها نهاية مرحلة مجيدة تستحق أن يتلاقى في تأبينها، والاطمئنان الى تساقط أعلامها، أباطرة وملوكاً ورؤساء دول ليشهدوا تهاوي المتعبين من طلاب السلطة الذين لم يكونوا يوماً من رجال الثورة طلباً للتحرير.
على أن الذي جرى ـ في تزامن مقصود ـ في البيت الأبيض في واشنطن، وفي «قاعدة الفاو» قرب بغداد، يستحق الاحتفال الأميركي بالانتصار المزدوج:
فالاحتلال الإسرائيلي يعلن، بحضور بعض أهل النظام العربي وبموافقتهم، يهودية دولته على أنقاض الحلم بتحرير فلسطين التي جيء بسلطتها البتراء صاغرة ـ ومع ذلك تغطي وجوه ممثليها الابتسامات العريضة ـ لتوقع صك الاستسلام، وقد أحاط بها ـ للمواساة ـ السابقون الى مثل هذا الإنجاز.
بالمقابل كان الاحتلال الأميركي للعراق يعلن اندثار الدولة في «أرض السواد» ويباشر إخراج عسكره منه مطمئناً الى من نصبهم عليه رؤساء وقادة ووزراء ـ وقد جاء بهم من المنافي، قريبة وبعيدة، وبعد اغتراب بالجسد والفكر طال أمده ـ سيمضون الى الحرب الأهلية بأقدامهم، وهو قد هيأ لها الأرض تماماً، فملأها بالمتفجرات الطائفية والمذهبية العنصرية والصراعات على زعامة قاتلة للوطن ودولته.
لكنها ليست النهاية.
إنه ختام فصل من فصول الصراع المفتوح على هوية هذه الأرض وحقوق شعوبها فيها.
وهو فصل مأساوي حقاً، لكنه ليس الخاتمة لسبب بسيط: أن العدو سيبقى في الوجدان عدواً ومقاومته واجبة، شرعاً ووطنياً وبكل المعايير.
وأبسط شاهد هو المواطن المصري (الطبيعي) أو المواطن السوري، أو خاصة المواطن اللبناني فضلاً عن الفلسطيني الذي يتعذر عليه أن يكون مواطناً ويستمر حصاره في خانة «اللاجئ» حتى في أرضه، أو كل عربي (وكل مسلم) قاتل ضد «أسرلة» فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى اليوم، والذي يقمعه أهل النظام عن مواصلة القتال لتحرير بلاده ذاتها.
الاحتفال فخم… لكن فخامته لا يمكنها طمس أهدافه الحقيقية، ولا ختم القضية بالشمع الأحمر واعتبارها منتهية.
والشعب الذي استمر يناضل لثمانين سنة لن يجد في واقعه ما يقنعه بأن يلقي السلاح ليغدو لاجئاً في وطنه.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية