من أدنى المشرق إلى أقصى المغرب تخوض حركات الإسلام السياسي، و«الإخوان» منها بالدرجة الأولى، معارك شرسة تحت عنوان «السلطة» غالباً ما تتخطى طبيعة الأنظمة الحاكمة إلى إلحاق الضرر البالغ بالمجتمعات العربية جميعاً.
قد تختلف درجة الشراسة بين مجتمع وآخر، إما نتيجة لطبيعة تكوينه، وإما بحسب عناصر القوة أو الضعف في بنية هذه الحركات وطبيعة السلطة القائمة ومدى قربها أو بعدها عن وجدان الشعب، موضوع الصراع، وطموحاته إلى مستقبل أفضل.
وبالتأكيد فإن التجارب السياسية لهذه المجتمعات مع حركات الإسلام السياسي، ومع «الإخوان» على وجه التحديد، وهي في بعض الأقطار العربية عريقة ومتجذرة ولها تاريخ في الصراع على السلطة، تلقي بظلالها على تطورات الأحداث الراهنة.
في مصر، تحديداً، تمتد تجربة «الإخوان» في الصراع السياسي وعلى السلطة القائمة، على اختلاف هوياتها وتوجهاتها، إلى أكثر من ثمانين عاماً، وهي غنية بالمواجهات الدموية، ومن ضمنها اغتيالات لشخصيات سياسية واعتقالات واسعة شملت أجيالاً، والصفقات السياسية، كما بتجارب العمل السري، وقد تكررت غير مرة… كما تشهد حالة الظهور العلني والخضوع لإغراء المشاركة في «النظام»، ولو عبر موقع هامشي وللمساندة في مواجهات مع قوى سياسية أخرى يراها النظام أشد خطراً… مما يزكي ادّعاءات النظام الأخذ بالديموقراطية أكثر مما يعطي «الإخوان» حصة في القرار.
وتحتفظ الذاكرة الشعبية في كل من لبنان وسوريا والعراق، عن ماضي «الإخوان» ودورهم في الصراع السياسي ما يؤكد بعض «الغربة» عن هذه المجتمعات، ما جعل دور «الإخوان» دائماً في خانة الشك بمردوده الوطني، وأطلق اتهامات خطيرة ضدهم تتهمهم بالولاء للأجنبي، قديماً، أو باندفاعهم بعيداً عن المزاج الشعبي، بما يهدد الوحدة الوطنية في الداخل.
بديهي أن دور «الإخوان» ظل هامشياً في لبنان، لأسباب تتصل بطبيعة المجتمع ومكوناته، حيث لا يشكل أهل السنة الغالبية الشعبية.. من دون أن ينفي هذا تجدد نشاطهم، مؤخراً، وإن في بيئات محددة وبشعارات ملطفة مع حرص على التبرؤ من تنظيمات التطرف عموماً ومن «القاعدة» خصوصاً.
أما في سوريا، فقد كان «للإخوان» دور مؤثر في حياتها السياسية، وكان تنظيمهم في الخمسينيات شرعياً، وقد دخلوا الانتخابات النيابية وفازوا ببعض المقاعد…
ثم تم حظر هذا التنظيم عشية إعلان اندماج سوريا ومصر في دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة في العام 1958). ولكنه ظل يعمل سراً. وبعد سقوط الوحدة حاول «الإخوان» أن يستعيدوا نشاطهم، لكنهم اصطدموا «بالنظام الجديد»، خصوصاً وقد هيمن حزب البعث العلماني، من حيث المبدأ على السلطة.
وفي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات اتهمهم النظام بالتورط في مجموعة من عمليات الاغتيال التي تجاوزت القادة السياسيين إلى الكادرات العلمية والنخب الاجتماعية (لا سيما من الطائفة العلوية)، بل وبأنهم حاولوا الاستيلاء على بعض الثكن العسكرية، ووقعت مذابح، رد عليها النظام بمذبحة جماعية في حماه (1982) قضت ـ تقريباً ـ على تنظيمهم المسلح، ومن نجا منهم صار في المعتقلات.
أما في العراق، اليوم، فإن «الإخوان المسلمين» يلعبون دوراً مؤذياً للجهود المبذولة لتثبيت ركائز الوحدة الوطنية. وهم يتهمون النظام القائم بالمذهبية، ثم يندفعون لتغذية المذهبية المضادة.
وهكذا يجد المواطن العربي نفسه في موقع الضحية، وهو يواجه حرباً ضارية بين القوى الحية في المجتمع، قد تتعدد شعاراتها والمبررات وإن كانت تؤدي إلى نتائج مفجعة.
ابرز عناوين هذه «الحرب» الصدام بين «الإخوان» والشعوب العربية، عموماً، تحت عنوان الرغبة في الوصول إلى السلطة ثم الهيمنة عليها.
صحيح أن هذا الصدام ليس جديداً تماماً، ولكنه قد بلغ ذروته الدموية مع اقتراب «الإخوان» من السلطة وتوليها كلياً (كما في حالة مصر خلال العام المنصرم بين حزيران 2012 وحزيران 2013)، أو بالشراكة من موقع الأقوى مع أحزاب سياسية أخرى (كما في حالة تونس) أو بالتصادم مع الجميع، كما في حالة ليبيا…
والمؤسف أن هذا «التقليد الرديء»، أي محاولة احتكار السلطة ليس وقفاً على «الإخوان»، بل لعلها العدوى، مع تجاهل حقيقة أن هذا المرجع: العربي العضال قد ضرب أحزاباً وحركات سياسية قومية وتقدمية في سعيها للوصول إلى السلطة ثم احتكارها بقوة السلاح.. وغالبا سلاح الجيش!
من سوريا إلى العراق وصولاً إلى جنوب اليمن كان «شرف» احتكار السلطة وقفاً على الحركات القومية والتقدمية: حزب «البعث العربي الاشتراكي» في كل من سوريا والعراق (ابتداءً من أوائل شباط ثم آذار 1963) وجنوب اليمن الذي صار بعد التحرر من الاستعمار البريطاني دولة منفصلة عن «الشمال» باسم جمهورية اليمن الديموقراطية (ابتداءً من صيف 1967) وبقيادة «حركة القوميين العرب» التي سرعان ما «استيسرت» حتى خرجت من العروبة وعليها مع «الحزب الاشتراكي» في عدن.
يشهد التاريخ أن احتكار السلطة من طرف حزب بالذات كان مكلفاً في هذه الأقطار جميعاً. إذ حاول الحزب الذي كان يحمل راية النضال من اجل أهداف عظيمة (الوحدة، الحرية، الاشتراكية، أو الاشتراكية، الحرية، الوحدة، وهذا هو الفرق «العقائدي بين البعث وحركة القوميين العرب والناصريين بشكل عام)، احتكار السلطة، فدفعت البلاد وشعبها الثمن المدمر.
كان همّ الحزب، سواء أكان «البعث» أم «حركة القوميين العرب»، اختراق الجيش تمهيداً للسيطرة عليه، ثم السيطرة به على الدولة جميعاً. ولقد تمكن «البعث» في كل من سوريا والعراق إنجاز هذه الخطوة، وهكذا تقدم ـ ومعه القوة اللازمة ـ إلى احتكار السلطة… وإن هو «زين» واجهة حكمه بما يسمى «جبهة وطنية تقدمية» تضم خليطاً من تنظيمات محدودة التأثير وإن كان لأسمائها رنين تاريخي، في السياق النضالي.
ولقد راجت في السبعينيات والثمانينيات وحتى الأمس القريب، النكتة المعروفة في سوريا والعراق على وجه الخصوص ونصها «الجبهة الوطنية التقدمية لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي».
في العودة إلى محاولة «الإخوان» احتكار السلطة في مصر، ليس من التجني القول إن هذا التنظيم العريق لم يتعلم الكثير لا من تجربته المباشرة في الصراع مع السلطة ولا من تجارب تنظيمات أخرى كانت تشكل طليعة للعمل الوطني والتقدمي في أقطار أخرى، ولكنها دمرت الأوطان والدول حين وصلت إلى السلطة بقوة الجيش أكثر مما بقدرة برنامجها السياسي على استقطاب «الجماهير»… وها هي الأقطار التي حكمتها، سوريا والعراق واليمن، تعيش أجواء حروب أهلية، ساهم في تغذيتها التدخل الأجنبي إلى حد الحرب.
الخلاصة انه ضمن الواقع الفعلي للأحزاب السياسية في الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، ليس من فرصة لحزب بالذات لأن يحتكر السلطة ولأن يحكم بمعزل عن الإرادة الشعبية التي لا تقبل مثل هذا التفرد. فلا يمكن لأي من هذه الأحزاب أن يدّعي احتكار التمثيل الشعبي.
لقد فشلت الأحزاب التي حاولت ادّعاء احتكار الوطنية أو العروبة أو التقدمية (أي الاشتراكية ملطفة)، وكانت تجاربها مكلفة جداً على الدول التي حكمها «قادة مخلدون» باسمها.
وبالتأكيد فإن تلك الأحزاب كانت في بدايات «نضالها من اجل السلطة لإقامة حكم الشعب بالشعب» أكثر نجاحاً في استقطاب الجمهور، على قاعدة مبادئ سياسية تتصل بحقوقه في وطنه، أي على الأرض التي يعيش فوقها وليس في الجنة.
ومن أسف أن شبق «الإخوان» إلى السلطة، بل وإلى احتكارها، قد أدى إلى إيذاء «الوطن» بشعبه جميعاً، وفي حاضره ومستقبله.
الفارق الوحيد بين تجربة «البعث» و«حركة القوميين» العرب من جهة وبين «الإخوان» من جهة أخرى هو قصر مدة وجود «الإخوان» في السلطة في حالة مصر، بينما حكم العسكر باسم حزب «البعث» وبشعاراته لمدة وصلت إلى أربعين سنة في العراق وها هي تتجاوز الخمسين سنة في سوريا.
ولكن السؤال: أين العراق اليوم، وأين سوريا؟
ونخشى أن يواصل «الإخوان» التصرف برعونة وبقسوة على الشعب المصري الذي قبلهم كقوة سياسية، بل وارتضى بأن يمتحنهم في قيادة السلطة، بما يجعل مبرراً طرح سؤال مشابه عن مصر، ولو بعد حين…
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية