لا حدود فاصلة في العمل العام في لبنان بين السياسي و الطائفي وحتى المذهبي ، ومن هنا سهولة تحوير الخلافات التي هي في الأصل سياسية ويمكن إدراجها في الصراع المشروع على السلطة إلى خلافات ذات طابع طائفي أو مذهبي.
لقد انطوى زمن الصراع العقائدي، واندثرت تقاليد المواجهة بمشاريع التغيير المستندة إلى منطلقات فكرية تستهدف تغييراً في النظام، أو حتى القول بتغيير النظام كي يصير أكثر استجابة لمطالب الجماهير في العدالة أو الديموقراطية و التقدم .
كانت الأحزاب بوصفها تشكيلات سياسية جامعة ترفع رايات التغيير الذي تفترض أنه مطمح الشعب بمجموعه، وإن اختلفت في صياغة عقائدها وبرامجها السياسية.
وكان الصراع على أشده بين القومي العربي و القومي السوري ، بين الشيوعي و الاشتراكي ، وبين هؤلاء مجتمعين وبين القائلين باللبنانية التي تتمسك بالكيان منفصلاً عمّا جاوره من أهله في محيطه، مستشعرين صلة خاصة مع الغرب كثيراً ما ذهبوا في المبالغة فيها إلى حد اعتبار أنفسهم خارج العرب وإن تعذر عليهم الانتساب، بالكامل، إلى الغرب، الذي كان يصر على التعامل معهم بهويتهم.. العربية.
ولأن العمل الحزبي كان يرتكز على عقائد يصار إلى تحويلها إلى برامج سياسية، تشمل الاقتصاد والاجتماع، فلقد كان الصراع يظل أرقى من أن تطاله شبهة الطائفية أو المذهبية، برغم أن المستفيدين من النظام الطائفي كانوا يتصيّدون الفرص لاتهام هذا الحزب أو ذاك بالعمل على التغيير ليس من أجل صالح الشعب بكامله، بل من أجل تغليب فئة على فئة، برغم أن في الطوائف جميعاً كثرة من الكادحين والفقراء وحتى متوسطي الحال المطالبين بالتغيير، لتحسين مستوى حياتهم ولاكتمال شعورهم بالمواطنة.
هل نقول: سقى الله أيام زمان؟
أقله لم نكن نختلف على طبيعة إسرائيل، كياناً غريباً مزروعاً بالقوة في قلب المنطقة (حتى لا نقول: الأمة)، كإعلان نوايا غربية عن منع الدول الوليدة والخارجة بكليتها من ربقة الاحتلال والاستعمار، والضعيفة في مرتكزات حياتها كافة، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية… والعسكرية بطبيعة الحال، من استكمال بناء مجتمعاتها، ممّا مكّن إسرائيل من أن تواجهها فتهزمها مجتمعة نادراً، ومنفردة أحياناً، وبقوات عسكرية لا يمكن اعتبارها جيوشاً، ومن دون شبكة تحالفات جدية تحميها إن لم تنصرها على المستعمرَيْن القديم والجديد.
أما مع تراجع أحزاب العقائد والأفكار الجامعة، والمتصارعة ببرامجها السياسية، فقد كان طبيعياً في لبنان الذي صدعت كيانه كما كل الكيانات العربية الأخرى تداعيات العجز العربي في مواجهة العدوانية الإسرائيلية المغطاة دولياً، أن تخلو الساحة تدريجاً للصراع السياسي بشعارات طائفية أو مذهبية ولو مموهة.
ولقد كان بديهياً الافتراض أن الحرب الإسرائيلية على لبنان، التي بالكاد توقفت، ستغلّب ما هو وطني على كل ما عداه، لأن النصر، لمن يعتبر أنه قاتل فانتصر، ليس لطائفة بالذات، بل هو للوطن جميعاً، ومعه العرب والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، كما أن الخسائر الفادحة التي تسبّبت بها الوحشية الإسرائيلية نتيجة تدميرها المتعمّد لأسباب العمران، فضلاً عن المجازر التي ارتكبتها بقصد مقصود، من مسؤولية الجميع تعويضها، والتقدم على طريق بناء الوطن.
كان بديهياً الافتراض أن النصر، كما الخسائر، ستقرّب بين اللبنانيين على قاعدة وطنية، فيتقاسمون شرف النصر ويتحمّلون عبء الخسائر التي لا بد من أن يتكفل بتعويضها الأهل من العرب، قبل المجتمع الدولي لأن لهم في النصر نصيباً، حتى لو لم يعترفوا به.
فالدماء التي روت أرض لبنان إنما تسبّب في إراقتها الإسرائيلي، الذي ما زال عدواً ، والذي تقصّد أن يظهر كأن عداءه موجه لطائفة بالذات، بينما كان بين أعظم ما حققه النصر في المواجهة هو كسر حاجز القطيعة أو التنابذ أو حتى التنافس بين السنة والشيعة الذين تحققوا مرة أخرى أنهم ومعهم إخوتهم المسيحيون واحد في العين الإسرائيلية..
ولعل بين أهم ما حققته المواجهة الباسلة كسر حاجز الريبة والشكوك والتجافي بين السنة والشيعة بالذات، وقد شهدنا لها تعبيرات سيكون لها شأنها في المستقبل على المستوى العربي عموماً.
والتمني أن يعود اللبنانيون إلى وعيهم وأن يحفظوا نصرهم بوحدتهم، وألا ينجروا مع الغرائز إلى إضاعة النصر في غياهب هزيمة جديدة، فيخسروا ويخسر معهم العرب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان