مسكين هو العماد ميشال سليمان، إذا ما انتُخب رئيساً للجمهورية، إن لم يكن الثلاثاء فالأربعاء وإن لم يكن هذا الأسبوع فخلال الأسبوع المقبل، وإن لم يكن هذا الشهر فربما مع بداية السنة الجديدة…
مسكين ليس بشخصه، ولا بقدراته، ولا بالمؤسسة التي يتفرّغ عن قيادتها ليتولى المنصب الرفيع، بل لأنه حين يصل إلى القصر لن يجد من الجمهورية إلا أطلالاً تكاد تنعى من بناها…
فعلى امتداد الدهر المنقضي بين الحرب الإسرائيلية على لبنان وبين تسلمه مقاليد الرئاسة، تناوب اللبنانيون، بشخص قياداتهم التي يتعذر محاسبتها ديموقراطياً ، على تهشيم الدولة ، أو ما كان تبقى منها، بمؤسساتها المختلفة، السياسية منها والإدارية، المالية الاقتصادية منها أو الأمنية، وبالكاد أمكن استنقاذ الجيش، ربما لأن الجميع كان بحاجة إليه، إن لم يكن كقوة إسناد فأقله كقوة فصل ومعالجة التداعيات الناجمة عن إنزال الخلافات السياسية إلى شوارع الطائفيات والمذهبيات.
بقيت اللافتات قائمة لكن المضمون تلاشى: رئاسة الجمهورية، مجلس الوزراء كمؤسسة قائدة، المجلس النيابي كدار للتشريع.
يمكن أن يضاف إلى ما ومن سقط سهواً: المبادرات التي أطلقها متتابعة رئيس المجلس النيابي، والمساعي الحميدة التي قام بها أو جرّب أن يقوم بها الوسطاء الكثر، وبينهم قلة من العرب وكثرة من القياديين في دول الغرب الأوروبي، والتي اصطدمت دائماً بحقيقة بسيطة مفادها أن الخلاف كان في ظاهره محلياً ، لكنه في جوهره كان يتسع لدول الأرض جميعاً، أو أنها أقدمت على توسيعه حتى يكون لها مكانها فيه… فمن ليس له مكان لا دور له، وبالتالي فلا بد من ابتداع هذا الدور ولو اقتضى الأمر توسيع الشقة بين المختلفين!
والقيادة محفوظة دائماً للإدارة الأميركية!
يمكن أن نضيف مجلس الأمن الدولي إلى أهل المبادرة، وإن بالمعنى السلبي، فأهل القرار في هذه المؤسسة الدولية كانوا يجتهدون لتحويل كل خلاف محلي، ولو بسيط، إلى أزمة مستعصية لا بد لمعالجتها من قرار حازم وتحت الفصل السابع (حتى لا ننسى طيب الذكر جون بولتون…).
لم يُترك للبنانيين أن يقرّروا في أي شأن من شؤونهم: الدستور وإمكان تعديله، ولو للخروج من دوامة الدم، رئاسة الجمهورية، سلاح المقاومة، ثم أضيفت الحدود اللبنانية السورية، قبل أن يتم الاستدراك بإلحاق مزارع شبعا، وتقديس الأكثرية وإنزال اللعنة على معارضيها إلخ…
أما الحكومة وشرعيتها وكونها منتخبة ديموقراطياً فهي قدس الأقداس ، ومن قال عنها إنها بتراء أو ناقصة الشرعية أو الميثاقية أو الدستورية، فهو قد كفر، أو أنه مرتد، وعقوبة الارتداد معروفة!
ها إن اللبنانيين جميعاً الآن في خانة الكفر : لقد كفروا بهذا الواقع السياسي المزري الذي يحقّر إنسانيتهم، أما مواطنتهم فقد ذهبت مع الريح منذ زمن بعيد. إنهم يعيشون تحت حد سيف الخوف. الخوف من اليوم. الخوف من الغد. الخوف من الآخر. الخوف على الوطن، على الدولة. على مستقبل أبنائهم. على أرزاقهم. على هويتهم. إنهم يخافون من أنفسهم على أنفسهم. يخافون من زعمائهم، يخافونهم إن هم اختلفوا، ويخافونهم إن هم اتفقوا.
… وها هم اليوم يخافون على العماد ميشال سليمان… فهم بالكاد صدقوا أن القيادات السياسية قد اتفقت أخيراً عليه، مع وعيها أن وصوله إلى سدة الرئاسة يحتاج إلى تعديل للدستور. إنهم يقبلون تعديل الدستور، لمرة، من أجل إنقاذ الرئاسة والدولة وحلم الوطن بمعنى العيش فيه لا الرحيل معه إلى أقصى نقطة في الأرض، وخصوصاً أنهم قبلوا، واقعياً، مثل هذا التعديل من قبل… ولا يضير القرار 1559 أن يخرق لمرة واحدة، كما الدستور! فلا هو أغلى ولا أعز ولا أكثر قداسة!
***
بين الأسباب الإضافية لخوف اللبنانيين التطورات المتلاحقة التي جرت وتجري من حولهم فتجرف الأوطان وتسقطها، كما العراق تحت الاحتلال الأميركي، أو تدمّر الحلم بوطن ودولة وتلغيهما، كما فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي!
لقد أُسقطت دولة العراق بالاحتلال الأميركي، وتحولت إلى مزق تصطرع فيها الطوائف والمذاهب والأعراق والعناصر، بإشراف مباشر من جنرالات الاحتلال ومخابراته (وشركاته الأمنية)…
أما فلسطين التي علّمتنا النضال وكانت (وما تزال) رايتنا في طلب التحرر والعزة وحفظ الأرض بالإرادة، ولو مغمسة بالدم، فإنها تكاد تذوب بين خطر الاحتلال الإسرائيلي وخطر الانشقاق الداخلي خلف سلطتين كلتاهما تفتقر إلى الشرعية الوطنية.
… ومن نافلة القول إن مؤتمر أنابوليس، بكل المشاركين العرب فيه كشهود زور، لم يكن أكثر من صورة تحتاجها الإدارة الأميركية من أجل الانتخابات القريبة في بلادها…
وها هو شعب فلسطين في الذكرى العشرين لانتفاضته العظيمة، التي أضافت صفحة مجيدة إلى تاريخ النضال الإنساني من أجل التحرر، لا يجد شموعاً يضيئها وسط الظلمتين المفروضتين عليه: من الاحتلال الإسرائيلي، ومن الشقاق الداخلي الذي حرمه حتى الأمل.
***
إن درسي العراق تحت الاحتلال الأميركي، وفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، يؤكدان لنا في لبنان ما لم نكن بحاجة إلى دليل جديد عليه: الوحدة الوطنية هي الشرط البديهي للاستقلال، للتحرر، كما للديموقراطية، وبالتالي لاستمرار الدولة الوطنية (أو لقيامها كما في حالة فلسطين)…
… وها هو وزير الدفاع الأميركي يقول لحشد المسؤولين العرب في منامة البحرين إن إسرائيل وإن امتلكت السلاح النووي، لا تشكل تهديداً لجيرانها، ولا تصدّر الإرهاب. ولولا شيء من الحياء لاعتبرها سويسرا الشرق!
أما الخلافات التي يفاقمها الخارج ، حتى تلك الدولة الراعية أو الحاضنة فتذهب بالمقدّس جميعاً: وحدة الشعب، الدولة بدستورها ونظامها والمؤسسات.
ولن ينفع، من بعد، تحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك، فالكل في نظر الشعب مسؤول: مَن أبى فاستكبر، أو مَن عاند نكاية بالآخر، أو مَن انتظر أن يوافق غيره ليوافق.
والأوطان أغلى من أن نضيّعها في تقاذف المسؤوليات عن تدميرها.
وما قيمة الدستور إذا ذهب الوطن ودولته، وخصوصاً أنهما لا يقبلان التعديل ؟!