قدسية اللغة العربية الفصحى تخرجها من كونها أداة تواصل وتعبير الى صيرورتها غاية بحد ذاتها. هي للتواصل بين البشر، وأداة للتعبير كي يفهموا بعضهم بعضاً، إذا كان ذلك ممكناً؛ والتعبير عن النفس كي يفهم المرء ذاته؛ إضافة الى فهم الطبيعة وتعميم هذا الفهم وذلك بوسائل الحكايات الأسطورية أو اللغة العلمية الحديثة. قدسية اللغة العربية تمنعها من التطوّر مع التطورات الاجتماعية. تتكدس معاني الألفاظ واستخداماتها. وتتكدس القواعد والمقاييس. تتكاثر المعاني. تشكل طبقات فوق بعضها البعض. تكثر القواعد. يتسلل القارئ من خلال كثرتها فيتبع ما هو سماعي. رغم كثرة القواعد والمقاييس يسميها البعض سماعية. كثرة القواعد حول لفظة واحدة تجعل الانضباط في القواعد مستحيلاً. يعتمد المرء على السماع، وهذا يعني العشوائية. ربما فرض ذلك نفسه على الأخلاق. فهذه أيضاً تفقد انتظامها مع انتشار العشوائية وانعدام القانون أو تنوعه، بحيث يصعب التطبيق، فيشوش الضمير، ولا يدري الشخص أي قانون يطبّق. كثرة المعاني والقواعد في كل موقع تربك مستخدم اللغة، فيضيع عن صوابها إذا لم يكن اختصاصياً.
كتاب “التراث المعجمي العربي: من القرن الثاني الى القرن الثاني عشر الهجري” موسوعي. الكاتب ذو إحاطة نادرة بموضوعه. هو من أسرة متمرسة في إصدار الكتب والترجمات والمعاجم منذ الخمسينات، وربما قبل ذلك. كان مكتب والده، منير بعلبكي، مركزاً لالتقاء المثقفين من مختلف الأنواع. عندما كنا أطفالاً في الخمسينات شكلت ترجمات دار العلم للملايين من روائع الأدب العالمي الأوروبي والروسي والأميركي وغيرها مصدراً أساسياً في ثقافتنا. كانت القراءة في عصرها الذهبي. قبل الهاتف الجوال بوقت طويل، وقبل أن تطيح الحداثة بالثقافة التقليدية.
يعود النشاط المعجمي، كما يقول الكاتب، الى الدراسات الكبرى وأخذ الألفاظ من كلام الأعراب، خاصة فصحاء البادية وقبائلها. بعد جمع اللغة في المرحلة الأولى، يأتي دور الاحتجاج ( وفيها بدأ الافتراق بين الأخذ عن أعراب البادية والفصاحة وشك بالأخذ عن الأعراب). وبقي معنى عصور الاحتجاج ملتبساً. بدايات التصنيف المعجمي تأتي في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)؛ التصنيف كان الى معاجم مبوبة حيث يأتي المعنى أساساً للوصول الى اللفظ؛ والى جنسه حيث يكون المفتاح في كل باب هو اللفظ الذي يقود الى المعنى. تزامن وترافق صدور النوعين من المعاجم وكثرتها تقود الكاتب الى استنتاج أصالة في هذا الجهد، إذ لا مصادر أخرى للغة غير ما أخذ من عرب البادية الذين امتازوا بالفصاحة (بعض القبائل لا كلها، رغم عنعنة تميم، وكشكشة بني أسد، وحفحفة بني هذيل، وعجعجة بني قضاعة، ص 37). هذا لم يمنع أعرابيا من التعليق في مجلس الأخفش قائلا: “أراكم تتكلمون في كلامنا بما ليس من كلامنا”.
رتبت الكلمات في المعاجم من النوعين على ثلاثة أسس: مخارج الحروف (كما عند الفراهيدي الذي سمي كتابه “كتاب العين”) لأنه بدأ بهذا الحرف الذي ينطلق من أعمق الحلق، وبعضها على أساس الألفباء، كما نعرفها، سواء يتعلق ذلك بالحرف الأخير والأول وما يليه، وأخرى على أسسا التقنية، أي أواخر الكلمة ثم أولها. المعاجم المرتبة على مخارج الحروف والتقاليب، فهي “كتاب العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي، و”البارع في اللغة” لأبي علي الغالي، و”تهذيب اللغة ” للأزهري، وكتاب “المحيط” للصاحب بن عباد، وكتاب “المحكم والمحيط الأعظم” لابن سيدة
تشكّل المعاجم المبوبة الأمثال ثم غريب القرآن ثم غريب الحديث. الأمثال كتب رتبت على أساس غير ألفباء. ثم كتب غير مرتبة ألفبائياً وهي كتب النبات والحيوان وخلق الإنسان والمتفرقات؛ ثم فصل حول المعرب يليه لحن العامة ثم الأضاد، ثم المشترك والمترادف والحروف والأصوات والأبنية. ثم فصل الاشتقاق حول المذكر والمؤنث، والمقصور والممدود، ثم المثلثات، ثم أبنية الأفعال عامة ثم أبنية الأسماء والأفعال. فهم كثير من المصطلحات أعلاه لا يتيسر إلا لأهل الاختصاص. لا داعي للتوسّع في ذلك هنا منعاً للإطالة.
المعاجم المرتبة ألفبائياً هي “كتاب الجيم” للشيباني، و”جمهرة اللغة” لابن دريد، و”أساس البلاغة” للزمخشري.. والمعاجم المرتبة على نظام التقفية هي “التقفية في اللغة” للبندنيجي، و”تاج اللغة” للجوهري، و”العباب الزاخر” للصاغاني، و”لسان العرب” لابن منظور، و”المحيط” للفيروزأبادي، و”تاج العروس” للزبيدي.
ثم خاتمة وخلاصات، وفيها أن المعاجم المبوبة والمجنّسة ظهرت في وقت واحد. ثم انتصرت المجنّسة فلم يعد يصدر معجم إلا بها. وقد كانت “المصنفات المبوبة مصدراً أساسياً من مصادر المعاجم المجنّسة (صفحة 536). ويأتي بعلبكي ثانية الى أهمية “الرحلة الى البادية” (صفحة 524)، ليؤكد بعدها على مركزية النشاط المعجمي في الحضارة العربية والإسلامية، وتشعّب ارتباطه بأنواع مختلفة من المعارف والمباحث. ثم يؤكد على ارتباط النحو بالمعجم وإن لأخلاف بين البصريين والكوفيين في المفاهيم قبل ما كان الأمر في النحو، بالرغم من دس النحارير (كما سماهم الفراهيدي) ودس النحويين. ويشير اخيرا الى اعتقاده الراسخ” بأن نشأة المعجم العربي انما هي عربية خالصة لا أثر فيها لأي عامل اجنبي… وقد صار مسلّماً عند علماء العرب والغالبية العظمى من المستشرقين أن بدايات النحو العربي تتصل بالنشاط العربي في مجال التفسير والفقه، ولا ترجع الى مؤثرات أجنبية… ولسنا نجد عند المعجميين نظرية معجمية توازي ما عند النحويين” (صفحة 544). هذا الى أنه أخذت الهوة تتسع بين “المصنفات وواقع اللغة” (صفحة 550). والإصرار على إيلاء الغريب والشاذ اعتناءً كبيراً يستبطن قضية خطيرة أخرى في التراث المعجمي بمجمله. هي إسراف المتأخرين في النقل عن سابقيهم… مما أدى ” الى تقصير “في إيراد ما استجد من ألفاظ في اللغة أو معانٍ لألفاظ تطورت دلالاتها” (صفحة 550(، وذلك بخلاف المعجميين الأوائل. فكتاب العين مثلاً “لا تقتصر مادته على ما روي عن فصحاء العرب، بل تشتمل على مفردات من كلام أهل البصرة في حياتهم العادية مما لا تعرفه الأعراب في بواديها”. ثم يذكر “أن الطابع الغالب على المفاهيم المتأخرة هو النقل عن المرويات السابقة وقلة الالتفات الى مستجدات اللغة ألفاظاً ومعان”… وهذه ظاهرة تسمم بعض “المعاجم المبوبة أيضاً”(صفحة 551(… “وقد كان لمفهوم عصور الاحتجاج أثر غير حميد في التراث المعجمي، لا سيما فيما يتعلّق بالشعر” (صفحة 552).
ينسب بعض المصادر، بحسب بعلبكي، الى الخليل قوله، “مبلغ عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، من غير تكرار، اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثنا عشر” (صفحة 391). طبعاً، عدد المفردات المستعملة في الفصحى أقل من ذلك بكثير. لكن ذلك يشير الى أن الاحتمالات التي تحملها اللغة العربية تفوق اللغات الوروبية، وربما غيرها، كما كان يقول المرحوم موسى وهبة ويوافقه على ذلك الدكتور رشيد الضعيف، الباحث اللغوي الأدبي وكاتب الروايات الشهير.
يحتاج الكتاب الى الكثير من الحيرة والاندهاش. من هي السلطة التي تستطيع أن تفرض معايير الصح والخطأ في اللغة وغيرها، من المكاييل والأوزان الى اللباس والعري، الى وزن الذهب مقابل الفضة، الى العمل كقيمة مقابل العملة الذهبية أو الفضية؟ هل يكفي القول أن نخبة ما في مكان ما وضعت المعايير والأقيسة؟ وكيف تشكّل النخبة سلطة لغوية دون السلطة السياسية؟
في غياب السلطة السياسية التي تضع معايير موحدة للغة والنحو عمدت النخبة الى اتخاذ مرجعية الفصاحة لدى البدو من قبائل الصحراء العربية. هناك شك كبير في أن اللغويين والنحويين العرب كانوا يرتحلون الى البادية لتعلّم أصول اللغة وأخذها من “فصحاء” البادية. فقد نسبوا ما لديهم لأهل البادية وجعلوها مرجعية. تعددت المدارس والمذاهب اللغوية والنحوية خاصة ما بين البصرة والكوفة ثم بغداد وربما مدن أخرى. لكن المهم أن جعل ما قبل الإسلام وسيلة لتفسير القرآن ادى الى تفسير القرآن بالجاهلية.
لا يصح القول أنه نشأت جاهلية جديدة، لكن تعددت المرجعيات، وعجز أصحاب المعاجم عن إلغاء الجديد، فتطورت اللغة بالعجز عن إزالة القديم المهمل أو عن إضافة الجديد. وضع المعجميون أسساً أو قواعد لغوية، والنحويون قواعد النحو. كان فيها الزخم والحيوية النظرية عند أوائلهم في أزمان عصور الدول العربية الأولى؛ ما يتزامن مع زخم الحضارة العربية. ثم تحوّل الأمر الى التزام بالأوائل لدى اللاحقين في عصور الركود وفقدان الزخم. اقتصرت لذلك معاجم العصور المتأخرة على النقل عن الأوائل، وتذييل كتبهم، وتذييل التذييل، والشرح، وشرح الشرح. نشأت سلفية لغوية نحوية مثلما نشأت سلفية دينية ومذهبية. وما زال الخلاص منها صعباً أو مستحيلا. هل صارت بنية العقل العربي سلفية؟
إن الإعراب وتشكيل الحروف (وضع حركات النصب والفتح والجر والسكون فوق الحروف أو تحتها) يجعلان القراءة ملتبسة قبل فهم معنى اللفظة أو سياقها. سياق الكلمة يفيد في الإعراب، وتشكيل ما قبل الحروف الأخيرة يمكن أن يؤدي تغيره الى معنى مختلف تماماً إذا لم يفهم القارىء المقصود مسبقاً. مثلاً، حلِم، وحلُم، وحلَم، يختلف معنى كل منها، خاصة إذا لم يكن فهمه متاحاً لدينا مسبقاً. يضاف الى ذلك أن قواعد النحو تكاثرت وتضاربت حتى صار فهمها عبئاً على القارىء العادي. بالنسبة له اللغة أداة وليست غاية. هي غاية بالنسبة للمختصين فقط. هي وسيلة بالنسبة للقوام، بالأحرى المجتمع. اختصار اللغة بقواعدها الصحيحة أو السليمة على الخواص يجعل منها حرفة يحتفظ أصحابها بسر المهنة، وهكذا الحدادون والنجارون والحائكون، وغيرهم من المهن، في قديم الزمان. من المعلوم أنهم كانت لهم تنظيمات خاصة في المدينة تسمى الأصناف. وكان تعاملهم مع الدولة يصير عن طريق زعيم صنف أو رئيسه. هؤلاء يتعاونون (أو لا يتعاونون) مع السلطة السياسية حسب الظروف؛ وكان للسلطة مصلحة دائمة في استمالتهم، والعكس أيضاً صحيح.
تحتاج اللغة العربية الى سلطة (مركزية؟) من أجل تطوير استعمالات اللغة العربية لاستيعاب ما يستجد من معان نتيجة التقدم التقني واستيراد كلمات، وبالتالي ألفاظ جديدة. ليس المقصود إيجاد مرادف عربي “أصيل” لكل معنى جديد بل المقصود “تعريب” المعاني الجديدة باستيعابها أحياناً كما هي في اللفظ الأجنبي أو ما يشابهه. من المعروف أن في لغة الفصحى (والعامية أكثر) ألفاظاً ليست عربية الأصول؛ وهناك ألفاظ قرآنية غير عربية الأصل. تعريب الألفاظ يختلف عن ترجمتها؛ في الأول استيعاب للفظ وفي الثانية بقاؤه خارجياً.
إن “التراث المعجمي العربي” ليس تاريخاً للغة. كتابة هذا التاريخ تحتاج الى تعليل التطورات اللغوية وربطها بالتطورات الاجتماعية. هذا ما أشار إليه الكاتب لماماً دون الغوص فيه. لقد تجرّأ تيودور نولدكه على كتابة تاريخ القرآن وذلك في القرن التاسع عشر، أما نحن فنعجز عن ذلك بعد قرن ونصف. ربما كان ذلك يعود الى العجز العام الذي تعانيه المجتمعات العربية، ولا يد فيه للكتاب والمؤرخين والمحدثين؛ أللهم إلا التعبير عن العجز. العجز اللغوي يتزامن مع العجز الاجتماعي والسياسي. كل واحد من هذه تعبير عن الآخر. ربما كان الإقرار بالعجز بداية الإقرار بالهزيمة في معركة الحضارة؛ وربما كان هذا الإقرار بداية النهوض بالتحفيز للخروج مما نحن فيه. إصلاح اللغة فيه إصلاح للنفوس. نقاوم في اللغة كما “نقاوم” في كل شيء آخر. نصمد في اللغة كما نصمد في كل شيء آخر. الآفة في المقاومة والصمود هي الاستناد على التراث والسلف في كل شيء؛ في كل قطاعات أو جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
أحسن كتاب “التراث المعجمي العربي” في تنبيهنا الى المشكلة، بالأحرى التعبير عنها. اللغة محورية في وجودنا كعرب، ولم يبق الكثير مما يوحدنا غير هذه اللغة. مسألة النهوض تستدعي الخروج من التراث الى التاريخ. والتاريخ فعل نعجز عنه. المستقبل نبنيه بإرادتنا والإرادة عاجزة.