أعيش في أيام غريبة. وأظن أن كثيرين مثلي وقعوا على هذا الكشف المثير. اكتشفت بعض غرابتها عندما أمسكت ليلة أول أمس بعلبة دوائي لأبتلع منها أقراصا خصصها الطبيب لتكون آخر ما يدخل جوفي قبل النوم. ترددت متسائلا إن كنت لم أخطئ وأنني ربما أتناول هذه الأقراص مرتين متلاحقتين. كدت أكون واثقا من أن يوما كاملا بليله ونهاره لم ينقض ليحل موعد هذه الدفعة من الأقراص. استغربت ترددي وقد صار خلال الأسابيع الأخيرة طبيعة ثانية لتصرفي قبل النوم، تصرف من لا يصدق أن يوما انقضى ويوما آخر يبدأ وأنا بالكاد أذكر أنني عشت هذا اليوم الذي انقضى. تلاحقت الأيام عندي حتى تلاصقت ففقدت أسماؤها واختلطت أرقامها. أخاف أن تكون مخاوفي على حق فنخرج من هذه الأيام الغريبة بلا تاريخ. فالتاريخ كما علمنا أولادنا وأحفادنا سجل أعمال، أما الأيام التي عشناها لم نفعل فيها شيئا نذكره فأيام غير محسوبة، أيام بدون سوابق، أيام بدون مستقبل.
هلت ليلة العيد. أويت مبكرا للفراش وابتلعت أقراص الليل بعد تردد صار مألوفا. فجأة انتصبت في فراشي متمردا. لا لن أنام وحدي. لن أقضي ليلة العيد بدون صحبة. هات الذكريات ننهل منها ما يخفف عنا شعور الوحدة والعزلة. بالفعل دبت في أوصالي دماء شباب فالليلة التي جادت بها الذكريات كانت ليلة عيد. المكان بيت العائلة المطل من جهة الجنوب على شارع مرجوش ومن الشمال على حارة الوراق. امتدت سهرتنا. كانت الليلة كعادة كل ليلة عيد يلتئم فيها جمع شباب العائلة، أي كل من تجاوز الرابعة عشر من عمره أو عمرها. وفي شجرة عائلتنا هن الكثيرات والذكور قليلون. وظيفتنا المكلفون بها من كبيرة العائلة في تلك الليلة الإشراف على عمليات عجن وحشو ونقش كعك العيد والاطمئنان إلى أن ما غادر بيتنا محمولا على رؤوس الفتية عجينا محشوا وكامل التزويق عاد من الأفران كعكا مخبوزا لم ينقص كعكة أو أكثر إلا بإذن مسبق أو تكليف صريح من سيدة المكان.
اقترب الفجر وبدأت عودة صاجات الكعك من الأفران. بدت صفوف الكعك لعيون الصبايا المجردة، وإن ناعسة، سليمة لم تمس. باكتمال العد والحصر صدر الإذن بإغلاق الصالة على ما فيها من كعك في الصاجات ليبرد في أمان. هدأت الحركة وتوقف الغناء والرقص وبدأت القاعة تخلو من شباب العائلة والشغالين.
التفتت ناحيتي بعد أن أغلقت خلفنا الباب بمفتاح أسود غليظ وثقيل، قالت بصوت بين الهمس والتثاؤب، النوم غافلنا يا ابن خالتي وطار من تحت جفوننا. تعالى معي نجلس في هذا الركن النائي من “السطوح” نشرب قدحين من الشاي ونستكمل حديثا قطعته حاملات الصاجات وهن في طوابيرهن يغنين لليلة العيد والفرانون على بعد خطوات ينتظرونهن على نار الفرن.
يا الله… ما أحلى الذكريات في ليلة عيد. بدونها وبدون طلة أم كلثوم بمطلع أغنيتها في الليلة ذاتها على مر السنين ما كنت أحسبها ليلة عيد.
سرقوا منها، ومن كل أيام العيد، الأحضان. خبيث وشرير من أدخل الحضن في السياسة الدولية. أوصيتهم ألا يفعلوا ولكن فعلوا. هل احتفلنا ذات عيد ولم يكن الحضن على باب بيتنا منتصبا في شموخ وكبرياء في انتظار وصول المعيدين وعند رحيلهم، ومتنقلا بينهم داخل قاعات البيت وغرفه ومطابخه مرحبا وناشرا عطره وبشره. لا أعرف كيف سمحوا بقرار الابتعاد الاجتماعي قبل أن ينتبهوا إلى أنه يمس بالمنع حقا أصيلا من حقوق الناس. الأطفال غاضبون. هذه معلومة. فإن لم تصدقوني اسألوهم. أما إن كانوا دون سن الكلام يكفي أن تنظر إليهم لتحصل على حضن تلقائي. يعرفونه ويحترمونه منذ كان سبيلهم الأمثل إلى مركز الحنان والحب والدفء في هذا الكون البارد الذي ولدوا فيه.
الشبان أيضا غاضبون. هم أيضا يعرفونه ويحترمونه. ألم تكن الأحضان وسيلتنا إلى اكتساب مناعة ضد سوء الغرض، ألم تكن دائما هي الترمومتر، أو الجهاز الأدق لقياس العاطفة وتمييز الصادق من الزائف. هم غاضبون لأنهم بهكذا قرار لن يقيموا علاقات سوية ولن تقوم الثقة بين المتحابين. ارجعوا عنه. رجاء ومن أجل خلق بيئة مشجعة للشباب على الإبداع والانطلاق استثنوا الأحضان من قائمة مكونات الابتعاد الاجتماعي.
أنا أيضا غاضب. وأعرف أن كل من كان في عمري رجلا أم امرأه، غاضب. بالله عليكم ما كل هذا الاستهتار بحقوق كبار السن. كيف ومن أبلغكم أن الفيروس جاء خصيصا ليقضي على كبار السن. لم نتأكد من رغباته وأهدافه. رأيناه يستهدف المشاهير في الفن والسياسة والمجتمع ولكننا لم نخلص إلى نظرية أو قصة محبوكة تخص فئة بعينها من البشر. أعرف، وتعرفون، أنه لم يكشف بعد عن هويته أو الرسالة التي يحملها لكم. لا أحد حسب علمي يستطيع الزعم أنه أمركم بتعذيب كبار السن في مجتمعاتكم واعدادهم لهجمة عليهم ما زال يحشد لها القوة اللازمة. هل، على هذا النحو تعربون عن وفائكم لمن قضوا العمر يحمونكم بأحضاننا من مصادر الشر، يحمونكم من لسعات البرد والخيانة والكيد والوحدة والملل والضياع والتردد ونزلات اليأس والحرمان. نراكم تحتشدون اليوم لتحرمونهم من الحضن بدلا من أن تلموا الشمل وتتعاونوا فلا يعيش مواطن إلى آخر يوم في حياته بعيدا عن حضن.
حقا أنها لأيام بدون سوابق وبدون أسماء وبدون تواريخ.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق