تقاطر الموفدون الدوليون إلى لبنان، تحت مطر الصواريخ والقذائف الإسرائيلية، وعانوا الأمرّين والحوامات التي تحملهم تحاول تجنب مسارات الطائرات الحربية في طلعاتها المتكررة، على مدار الساعة، لضرب آخر مصباح كهربائي وآخر خزان مياه… كذلك فقد كان عليهم أن يتفادوا التشويش على رادارات البوارج الإسرائيلية التي لم تتوقف عن دك ضواحي بيروت والطرق إليها، وقوافل الهاربين من الموت تحت ركام بيوتهم إلى الموت وهم يبحثون عن ملاجئ لأطفالهم في أي مكان، وبالذات في حمى الراية الزرقاء للأمم المتحدة التي لم تعد تحمي أحداً..
تقاطر الموفدون الدوليون على لبنان وتزاحموا على أبواب المسؤولين فيه وبأيديهم الإنذارات الصارمة التي تقول ما يفيد إن حزب الله يهدد سلامة البشر في أربع رياح الأرض ويحتجز أمن العالم أجمع بإرهابه المعمّم.
لم يأتِ أحد منهم وسيطاً. جاؤوا يحملون عروضاً لا يمكن للبنان أن يرفضها: الأسيران وإلا فلن يبقى في لبنان حجر على حجر! لا نقاش! لا مفاوضة. نفذوا، وبعد ذلك يمكن أن نتحدث عن لبنان الذي يجب أن يكون!
كان واضحاً أن القادة العظام لأقوى دول الكون قد صرفوا الكثير من وقتهم الثمين وهم يتنافسون على من يحظى بشرف إنقاذ الأسيرين… وليس إلا بعد جهد حتى توافقوا على توجيه الإنذار إلى لبنان: حياتك أو الأسيران! حاضرك ومستقبلك ودورك أو الأسيران!
لم يذهبوا إلى إسرائيل أولاً ليوقفوا آلة حربها الهائلة وقد أطلقت لها العنان لتدمير لبنان كله، جنوبه وبعض بقاعه وبعض جبله وبعض شماله وبعض عاصمته وكل مرافئه البحرية والجوية وكل محطات الرادار والتواصل.
لم يذهبوا إلى إسرائيل أولاً ليطلبوا منها وقف المذبحة التي ترتكبها فتحرق فيها الأرض وتدك البيوت على ساكنيها وتمزق الأجساد الرخصة للأطفال، وتقتل كل مصدر للضوء وكل وسيلة للتواصل …
ومن قبل أن يجيئوا كانت إسرائيل قد حدّدت لهم، عبر شروطها، مهمتهم لكي تقبلهم: يجب أن يذهبوا إليها بلبنان آخر غير هذا القائم حالياً!!
كانت إسرائيل قد كلّفت نفسها بتنفيذ القرار 1559، واستئصال الميليشيا المسلحة التي تمنع قيام الدولة، وتحول بين السلطة الشرعية وبين بسط نفوذها على كامل الأرض اللبنانية… وكانت قد قرّرت أنها ستساعد هذه السلطة على أداء هذه المهمة المقدسة. وعليهم أن يهيئوا لبنان لهذا.
ثم إنهم جاؤوا معززين بتأييد عربي مفتوح، تجلى أكثر ما تجلى في الاجتماع الأخير لمجلس جامعة الدول العربية، حيث وقف الأقوى والأكبر والأغنى من الدول العربية ضد هؤلاء المغامرين في لبنان، الخارجين على الشرعية الدولية، والمقامرين ليس بسلامة بلدهم الصغير والجميل فحسب، بل بسلامة كل الدول العربية وهناءة حكّامها الذين افترضوا أنهم قد ودعوا الحروب بعدما قبلوا كل أصناف الاحتلال، إسرائيلية كانت أم أميركية أم مشتركة.
لقد اجتمعت السيوف على حزب الله : معظم العرب، وأقوى دول العالم، إلى جانب إسرائيل التي لا يحتاج اللبنانيون على وجه الخصوص إلى أدلة على قدرتها على تدمير العمران وشن حروب الإبادة.
كل ذلك من أجل جنديين أسيرين؟!
على اللبنانيين أن يروا فيعتبروا: من أجل أسير واحد ضاع ما تبقى من فلسطين! وربما لم يكفِ تدمير لبنان ثمناً للأسيرين! ربما كان ضرورياً إكمال الحساب بإضافة سوريا إلى الفاتورة، وربما أضيفت إيران… أما العراق فإن الاحتلال الأميركي يتكفل به مباشرة!
في أي حال، فاللبنانيون سعداء بهذا الالتفاف الدولي من حول حكومتهم. ولكن السؤال: هل يتطلّب الاعتراف بالحكومة شطب لبنان؟!
إنهم يطالبون الحكومة بمهمة انتحارية! إنهم يطالبونها بأن تتولى وأد لبنان القائم، لكي تقوم إسرائيل وبمساعدة العالم كله باستيلاد لبنان جديد لن يعرفه أبناؤه!
والنار الإسرائيلية قد تقدر على إحراق لبنان، ولكنها لن تقدر على محو هويته ولا على تهجينه ولا دفعه إلى الانتحار، بذريعة حماية حياة الأسيرين.
نشرت في “السفير” 17 تموز 2006