أخطر من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تكاد تشل حركة البلاد وأهلها، أن تُجهَّل أسبابها وتُموَّه هوية المسؤولين عنها، وأن يفقد الحكم مصداقيته في العمل الجدي لحلها فضلاً عن كفاءته في معالجتها وبالتالي في وقف التدهور.
إن اللبنانيين يعيشون الآن هاجس الانهيار الاقتصادي الشامل، والسؤال الذي يدور بينهم بلا جواب هو حول »موعد الزلزال« وليس حول احتمالاته ومدى جديتها.
كذلك، فإن المعنيين بأمر لبنان، لا سيما بين أشقائه العرب، وبالتحديد مَن »كانوا« يُعتبرون في خانة المقبلين للاستثمار فيه، لا يخفون الآن ترددهم بل إحجامهم عن »التورط« في بلد يخسر يومياً من رصيد الثقة به، حكماً وإدارة وتشريعاً، فضلاً عن »الدقة في مواعيد الإنجاز«.
لم يعد لأي »رقم رسمي« المصداقية الضرورية لاعتماده كأساس للثقة، وبالتالي للإقدام على التوظيف.
وليس مما يُطمئن، على سبيل المثال لا الحصر، أن يسمع الناس من هذا الوزير أو ذاك أن مرتّبه أو تعويضاته أو مخصصاته لم تصل إليه إلا بعد العاشر من الشهر الجاري.
كذلك، فليس من بواعث الثقة أن يسمع الناس أن وزارة المال باتت تصارح بعض من لهم مستحقات مكدسة بأنها لا تستطيع أن تحدد مواعيد دقيقة للدفع، ولو بسندات الخزينة.
وليس مما يجلب النوم إلى عيون القلقين على أرصدتهم أو استثماراتهم، أن يُسمع من يلغط بأن مصرف لبنان قد استنزف احتياطيه من العملات الأجنبية، أو من يندفع إلى أبعد من ذلك فيثير الشكوك حول حجم ما أنفقه مصرف لبنان مضطراً من الاحتياطي الإلزامي للمصارف، المؤتمَن عليه، لتلبية احتياجات الدولة التي لا مجال للتهرب من مواعيد استحقاقها، فضلاً عن دوره الدائم كحارس لليرة يحاول أن يمنع عنها خطر الانهيار في سعر صرفها حتى لا تكون الطامة الكبرى…
وعلى سبيل المثال أيضاً: فقد حوصر المواطن في غابة من الأرقام المتضاربة إلى حد التناقض حول أرباح الهاتف الخلوي ونصيب الدولة منها… وهي أرقام تمّ تضخيمها حتى صارت بالمليارات، كما تمّ تقزيمها حتى صارت بعشرات الملايين، وفي الحالات جميعاً كان »المصدر« الذي يطلق الرقم »مسؤولاً حكومياً«، قد يكون وزيراً وقد يكون أرفع مقاماً من الوزير…
وفي موضوع الهاتف الخلوي نفسه، حوصر هذا المواطن الذي تطحنه الضائقة المعيشية داخل دائرة مقفلة من الجدل الفقهي، حتى داخ ولم يعد يعرف أين الصح وأين الخطأ، سواء في القانون الذي كان ينظم العلاقة مع الشركتين، أم في الخلاف الذي وقع عندما توجهت الحكومة السابقة نحو التحكيم، أم في الخلاف المستحكم الآن حول مشروع القانون الجديد الذي أقره مجلس الوزراء بعد حروب، والذي سبقه الطعن بقانونيته إذ هو يجمع بين نقيضين لا يجتمعان، كما يقال.
في سياق الجدل، تناول اللغط أهل الحكم وأهل بيوتهم جميعاً من القمة وحتى السفح الوزراي حيث يكمن »التورط« أو حيث يفتضح »التوريط«، والنتيجة واحدة: لم يعد أي مصدر رسمي موضع ثقة، إذا أعلن رقماً صدقه أقرانه، بداية، ثم عامة الناس المستعدّين لتصديق كل الاتهامات التي يطلقها كل المسؤولين من هذا الفريق ضد كل المسؤولين من ذاك الفريق.
ما يتبقّى في أذهان الناس أنهم خُدعوا ويُخدعون، وأن أهل الحكم يُدخلونهم في غابة كثيفة من الأرقام لا تضيع فيها الثقة بالحكم فحسب بل باقتصاد البلاد في يومها وفي غدها.
ولأن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين لا تريد ولا ترغب في الهجرة فمقدَّر عليها أن تعيش قلقاً يتعاظم على مدار الساعة.
وفي معركة الأرقام المطعون في صحتها ليس ثمة من منتصر ومهزوم، من بين أهل الحكم، بل الكل في موضع الاتهام… وفضلاً عن الرصيد المالي للبلاد فإن رصيدها المعنوي يتم تبديده هو الآخر، من دون أن يتبقّى كثير من الرصيد لمسؤوليها الكبار.
الجوع كافر… فكيف إذا ثبت للناس أن ثمة مسؤولين عن جوعهم الذي لم يعد خطراً بعيد الاحتمال؟!
السؤال: إلى من يوجَّه الخطاب، وممن يمكن أن ينتظر الناس الجواب؟!
والجواب المقصود هو الجواب الصح ولو كان مفجعاً، فذلك أفضل بما لا يقاس من التطمين الكاذب والكارثي في وقعه، ولو كان القصد منه »طيباً«.
أما السؤال عن: من هو المسؤول؟ فلسوف يبقى معلقاً فوق رؤوس جميع أهل السلطة… حتى الوزراء الذين لا يعرفون والذين يهمسون بمخاوفهم في الغرف المغلقة، ثم لا يجدون المناخ المؤاتي أو الفرصة المناسبة لتُطرح حيث يجب أن تُطرح وتعالَج؛ أي في مجلس الوزراء.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 23 أيار 2002